ترجمة حفصة جودة
توجه المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاريا، يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول، إلى منصة إكس “تويتر سابقًا”، برسالة عاجلة إلى سكان قطاع غزة، قال هاغاريا في رسالة باللغة الإنجليزية إنه لأجل سلامتهم العاجلة، يجب على سكان شمال ومدينة غزة الانتقال بشكل مؤقت إلى الجنوب.
هذا الأداء لم يكن معقولًا أبدًا لعدة أسباب، ليس أقلها أن اللغة الإنجليزية ليست اللغة الرسمية لفلسطين أو حتى “إسرائيل”، مما يشير إلى أن الجمهور الذي يخاطبه في الحقيقة ليس الجمهور الذي من المفترض أنه يبحث عن سلامته.
في الحقيقة، إذا كانت سلامتهم مهمة حقًا، لم يكن على الجيش الإسرائيلي قتل أكثر من 8 آلاف فلسطيني خلال 3 أسابيع من بينهم أكثر من 3 آلاف طفل، ولم تكن “إسرائيل” لتواصل قصفها العنيف على شمال غزة وجنوبها بعد تحذيراتها السابقة لسكان الشمال بالتوجه إلى الجنوب.
الأهم أنه لم يكن واضحًا كيف لسكان غزة أن يروا تلك الرسالة العاجلة نظرًا لقطع “إسرائيل” شبكة الاتصالات بالكامل قبل يوم من القصف، ليصبح القطاع بلا خدمات هاتف أو إنترنت، على كل حال فقد حظى هذا التحذير بتقدير العالم الأنجلوفوني (الدول الناطقة باللغة الإنجليزية) الذي يصرّ على تصديق أن “إسرائيل” تحاول جاهدة ألا تقتل المدنيين.
عادت الاتصالات إلى القطاع بشكل جزئي، في تحول بالأحداث تقول صحيفة “وول ستريت جورنال” إنه بسبب ضغط الولايات المتحدة على “إسرائيل”، يبدو أن وجود إنترنت في غزة أهم أخلاقيًا من المطالبة بوقف تمويل الإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين.
ومع ذلك، كان هذا الانقطاع المؤقت طويلًا بما فيه الكفاية لإثارة مشاعر العجز في العالم أجمع خاصة لهؤلاء الذين لديهم عائلات في غزة، هذه الآلام ظهرت في كثير من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي مثل المنشور الذي كتبه صديقي على “فيسبوك” ماجد أبو سلامة “ماما وبابا ومحمد ونايا وإليا وأسماء وبقية أفراد عائلتي، ربما يكونوا مقتولين أو على قيد الحياة”.
كشفت فترة الانقطاع الدموية عن هدف “إسرائيل” الحقيقي: وهو إخفاء الفلسطينيين من الوجود ماديًا ومفاهيميًا
حتى ماجد نفسه – مراسل الجزيرة الذي تعود أصوله إلى مخيم جباليا للاجئين في غزة لكنه يعيش الآن في برلين – يعد ناجيًا من العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، فقد قُصفت مدرسته بالفسفور الأبيض المحرم دوليًا.
تبلغ إليا – ابنة أخته – من العمر 6 سنوات، أما ابنة أخته الأخرى نايا فعمرها شهرين فقط، مما يعني أنها قضت ما يقرب من نصف حياتها تحت القصف الإسرائيلي.
عندما تُوفي والدي في أغسطس/آب هذا العام نتيجة مرضه بالسرطان، أرسل ماجد رسالة مؤثرة يعبر فيها عن تعازيه الحارة، وعن خوفه من فقدان والديه، فهي احتمالية مستمرة نظرًا لمكان معيشتهم، في إحدى مرات القصف الإسرائيلي على غزة، قال ماجد إن والدته اتصلت به لتودعه.
الآن ومع انقطاع الاتصالات، وجدتني أتحقق بلا تفكير من صفحة ماجد باستمرار لأرى إذا كان قد تمكن من معرفة أي أخبار عن عائلته، لقد فقد ماجد بالفعل الكثير من أقاربه وأصدقائه في هذا العدوان الإسرائيلي، لكن عائلته المباشرة نجت حتى الآن، وعندما عادت الاتصالات جزئيًا يوم الأحد كانوا لا يزالون بين الأحياء، لكن الكثير من الفلسطينيين الآخرين فقدوا حياتهم.
هذا الانقطاع الذي استمر 36 ساعة كان مميتًا، فقد أعاق عمل فرق الإنقاذ التي لم يتمكن الناس من التواصل معها لاستخراج الضحايا من تحت الأنقاض، ولم تستطع بالطبع الرد على المحتاجين إليها.
في الوقت نفسه، تسبب انقطاع الاتصال بالطبع في إعاقة جهود الصحفيين ومواطني غزة الذين ينشرون محتواهم بشكل يومي من خلال هواتفهم وشبكة الإنترنت المتداعية لنقل حقيقة الإبادة الجماعية التي تحدث الآن.
والآن رغم عودة الاتصالات إلى غزة، فقد كشفت فترة الانقطاع الدموية عن هدف “إسرائيل” الحقيقي: وهو إخفاء الفلسطينيين من الوجود ماديًا ومفاهيميًا.
في الحقيقة، لن يكون مبالغًا إذا قلنا إن قطع الإنترنت عن غزة هو المفهوم الحديث لظاهرة الإخفاء القسري قديمًا، على الأقل فيما يتعلق بانعدام المسؤولية عن الضحايا، بالإضافة إلى التأثير النفسي على العائلات.
لسوء حظ “إسرائيل” لا يمكن إخفاء الشعب الفلسطيني ولا جرائم الحرب الإسرائيلية بسهولة، هذه هي رسالتنا العاجلة لـ”إسرائيل”
فالمختفون لا يمكنهم السعي نحو العدالة في أثناء اختفائهم، ولن يحظى أحبابهم بخاتمة عاطفية دون معرفة مكانهم أو مصيرهم.
وكما رأينا مرارًا وتكرارًا خلال العقود الماضية في أحداث الإخفاء القسري الجماعية من الأرجنتين إلى السلفادور ومن إسبانيا إلى سريلانكا، فعائلات المختفين قسريًا يواجهون إهمالًا نفسيًا دائمًا، فهم غير قادرين على بدء عملية الحزن الإنسانية اللازمة بينما لا يزالون غير قادرين على معرفة أخبار المفقودين.
قبل عدة أعوام في قريبة معروب جنوب لبنان، التقيت رجلًا يُدعى عابد، كان شقيقه الأصغر أحمد قد انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان واختفى عام 1983 بعد عام من الاجتياح الإسرائيلي المروع للبلاد الذي قتل عشرات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين.
وفقًا لعابد، فهم يعتقدون أن أحمد في السجون الإسرائيلية، لكن عدم وجود معلومات أكيدة يعني أن أفراد العائلة سيقضون بقية حياتهم في تلك الحالة من العذاب العاطفي.
من الواضح أن تجربة انقطاع الاتصالات في غزة كانت بمثابة عملية إخفاء قسري قصيرة المدى، لكن في سياق الـ75 عامًا الماضية من المذابح الإسرائيلية والإبادة العرقية ضد الفلسطينيين، فهذا الانقطاع يوجه رسالة عاجلة بالفعل حسب كلمات المتحدث الرسمي للجيش الإسرائيلي.
يتذكر المرء الآن المزاعم المشينة لرئيسة الوزراء الإسرائيلية الراحلة غولدا مائير عندما قالت: “لا وجود لشيء اسمه الشعب الفلسطيني”، هذه المزاعم بالطبع ساهمت في تاريخ المجازر الإسرائيلية، فمن السهل قصف أشخاص لا وجود لهم، أليس كذلك؟
والآن من السهل قصفهم أيضًا في أثناء انقطاعهم عن الإنترنت، لكن لسوء حظ “إسرائيل” لا يمكن إخفاء الشعب الفلسطيني ولا جرائم الحرب الإسرائيلية بسهولة، هذه هي رسالتنا العاجلة لـ”إسرائيل”.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية