بدأت تركيا مرحلة جديدة بعد الاستفتاء الدستوري الذي أظهرت نتائجة الأخيرة تمرير التعديلات الدستورية بنسبة 51.4%. المرحلة الجديدة من المفترض أن تكون البدء بالتجهيز للنظام الرئاسي الجديد ولكن الرئيس والحكومة اختاروا الانشغال بأهم من ذلك الآن، وهو ملف الاقتصاد.
علي باباجان: مهنددس النهضة قادم
كشفت صحيفة جمهورييت التركية حول تعديلات سيتم اتخاذها في الحكومة التركية وأن الحديث يدور حول إعادة وزير الاقتصاد التركي السابق ونائب رئيس الوزارء السابق علي باباجان إلى الحكومة، حيث عُرف باباجان بـ”مهندس النهضة التركية” في البلاد.
يطلق الأتراك على الرجل لقب ثعلب السياسة الاقتصادية التركية، لما ينسب له الفضل في نقل البلاد بعد العام 2002 من الوضع المنهار الذي كان فيه إلى الشكل الذي تتربع فيه تركيا الآن؛ في المرتبة الـ17 كأكبر اقتصاد في العالم والأكبر على مستوى العالم الإسلامي، بسبب السياسات الاقتصادية التي اتبعها.
تولى باباجان حقيبة الاقتصاد في معظم فترة حكم حزب العدالة والتنمية المستمرة منذ 13 عامًا، وساهم في إصلاحه وإنعاشه بعد سنتين فقط من مباشرة عمله بعد سنوات من الأزمات الطاحنة التي عانتها البلاد وقت الحكومات الائتلافية. إذ استلم باباجان الحقيبة الاقتصادية في ظل التزمات حكومية سابقة على صندوق النقد الدولي أدت إلى اختلال الأوضاع المالية للبنوك العامة والخاصة وارتفاع في معدلات العجز وحجم المديونية الخارجية وانخفاض في احتياطي الدولة من العملات الأجنبية. وبسبب هذا أغلقت مئات آلاف الشركات التجارية وتقلص حجم الاستثمار إلى أقل من النصف وبلغت البطالة حدودا كبيرة.
استلم باباجان الحقيبة الاقتصادية في ظل التزمات حكومية على صندوق النقد الدولي أدت إلى اختلال الأوضاع المالية للبنوك العامة والخاصة وارتفاع في معدلات العجز وحجم المديونية الخارجية وانخفاض في احتياطي الدولة من العملات الأجنبية
تمكن باباجان وفريقه الاقتصادي الذي استلم تلك الحقبة الحساسة من صياغة برنامج علاجي لتجاوز الأزمة، ومن جملة السياسة الاقتصادية المتبعة: ترك العمل بنظام الصرف الثابت والتحول نحو نظام الصرف المرن والاعتماد على استثمارات القطاع الخاص الذي أهتمت به الحكومة وعملت على حل الكثير من مشكلاته، ووضع هدف بأن تتجاوز معدلات الاستثمار 30% من الناتج القومي الإجمالي، وليتم لها ذلك عملت على زيادة التقشف وخفض النفقات وجذبت رؤوس أموال أجنبية بشكل مباشر، وعملت على تأمين الطاقة وضمانها بأسعار مناسبة، وأصلحت التعليم المهني ومشكلة نقص الأيدي العاملة الماهرة وحسنت بيئة العمل، وأصلحت الجهاز الإداري للدولة وضمان الشفافية والمراقبة والمحاسبة.
كانت السياسات الاقتصادية المطبقة كفيلة بإخراج الاقتصاد التركي من محنته، والأرقام كفيلة للدلالة على هذا. إذ كان معدل دخل الفرد السنوي في العام 2002 لا يتجاوز 3500 دولار وأصبح في العام 2013 17468 ألف دولار، وفي عام 2002، بلغت قيمة الصادرات التركية 36 مليارًا، واستمرت في الارتفاع حتى وصلت 140 مليارًا في نهاية العام 2013، ووصل احتياطي البنك المركزي التركي إلى 134 مليار دولار في نهاية العام 2013، وأزيلت ستة أصفار من الليرة التركية إذ كان الدولار في عام 2002 يساوي مليونًا ونصف المليون ليرة تركية، ليصبح يساوي 2.6 ليرة تركية في عام 2014.
معدل دخل الفرد التركي السنوي في العام 2002 كان لا يتجاوز 3500 دولار وأصبح في العام 2013 17468 ألف دولار
أسهمت السياسات الاقتصادية في الانخفاض التدريجي والمستمر لنسب التضخم في تركيا، حيث بلغت نسبته 70.8% في نهاية عام 2002 في حين بلغت نسبته حتى شهر مارس/آذا رالماضي عند 11.9%. وبلغت نسبة النمو في الاقتصاد التركي 6.1% بين السنوات 2002 – 2008 واستمر في نموه حتى وصل 8% نهاية عام 2011. وكذلك ارتفعت أجور الموظفين والعاملين في القطاع العام التركي إلى 188% في السنوات بين 2002 – 2009.
كما ارتفع عدد الشركات الأجنبية المشاركة من 5400 شركة في العام 2002، إلى37.373 ألف شركة أجنبية تعمل في تركيا حتى بداية العام 2014. يُذكر أن الحكومة اتخذت عدة خطوات بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية ومنها تحديث النظام الضريبي، وتشجيع الشركات الأجنبية على بدء مشروعات في المناطق الأقل نموًا. وكانت ديون تركيا لصندوق النقد الدولي في عام 2002، تصل إلى 23.5 مليار دولار، انخفض هذا الرقم إلى 6.8 مليار دولار في العام 2009، وتم سداده بشكل نهائي في نيسان عام 2013.
بعد النهضة الاقتصادية التي شهدتها تركيا في العام 2002 مرت تركيا بانتكاسات كبيرة على المستوى الاقتصادي خلال العامين الماضيين وهو ما أثر على رضى المواطن من أداء الحكومة والحزب الحاكم، إذ تراجعت معدلات النمو وارتفعت معدلات البطالة والتضخم وانخفضت السياحة وقيمة الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، وهو ما يؤشر إلى ضعف في أداء الحكومة بشكل عام، وهو ما قررت الحكومة علاجه من خلال إحضار الوزراء الذين أسهموا في تطوير الاقتصاد التركي بعد العام 2002.
عودة باباجان إلى كراسي الحكومة وإدارة دفة البلاد اقتصاديًا سيضيف رصيد مهم إلى الحكومة ويرفع من ثقة المستثمرين بالبلاد
حيث بلغ معدل البطالة 11.1% حتى يناير/كانون الثاني الماضي، أما معدل التضخم فوصل إلى 11.9% في مارس/آذار الماضي وهو المستوى الأعلى في 8 سنوات ويعود السبب إلى استمرار ضعف الليرة وما عكسه على أسعار المستهلكين، كما قالت هيئة الإحصاء التركية، يوم الجمعة الماضي، أن إيرادات السياحة تراجعت في تركيا بنسبة 17.1% على أساس سنوي إلى 3.37 مليارات دولار في الربع الأول من العام الحالي، كما قلصت المخاوف الأمنية المتزايدة إثر سلسلة هجمات في 2016 إيرادات السياحة التركية للعام الماضي بأكمله إلى 22.11 مليار دولار من 31.46 مليار دولار في 2015.
يرى مراقبون أن عودة باباجان إلى كراسي الحكومة وإدارة دفة البلاد اقتصاديًا سيضيف رصيد مهم إلى الحكومة ويرفع من ثقة المستثمرين بالبلاد حيث يعرف الرجل بصيت إيجابي بين رجال الأعمال والمستثمرين المحليين والأجانب، بسبب خبرته الكبيرة في التعامل مع الأزمات وأحد أصحاب الفضل في نهضة تركيا في العقد الماضي.
ويُذكر أيضًا أن باباجان يعد من أشد المؤيدين لضرورة تعزيز استقلالية البنك المركزي التركي ليظل بعيدًا عن الخلافات السياسية، ويدير سياسته النقدية من مكافحة التضخم وإحداث استقرار في سوق الصرف بعيدًا عن إدارة السياستين المالية والاقتصادية التي تتولى الحكومة إدارتهما، وهذا مطلب رئيسي للمستمثر الأجنبي والمحلي على حد سواء طوال الفترة الماضية.
يعرف باباجان بأنه من أشد المتحمسين لأفكار وطروحات مستقبلية كثيرة منها حاجة الاقتصاد التركي لزيادة الإنتاج والصادرات الخارجية
يعرف الرجل أيضًا من أشد المتحمسين لأفكار وطروحات مستقبلية كثيرة منها حاجة الاقتصاد التركي لزيادة الإنتاج والصادرات الخارجية، وخاصة ذات القيمة المضافة، وخفض استيراد الطاقة التي تستهلك جزءًا كبيرًا من النقد الأجنبي، وهو ما سيساعد في تقليل الضغط على النقد الأجنبي، وبالتالي تضييق العجز في الميزان التجاري التركي، لذا سيكون استقدام هكذا شخص لإدارة الاقتصاد دفعة قوية نحو تحقيق أهداف الحكومة في العام 2023.
الجدير بالذكر أن علي بابا جان بالغ من العمر 50 عامًا تخرج من كلية تيد في العاصمة أنقرة عام 1985، ودرس في جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة 1989 وحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الصناعية، توجه إلى الولايات المتحدة لاستكمال تعليمه بمنحة من مؤسسة فولبرايت، وفي عام 1992 حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من معهد كيلوغ للإدارة في جامعة نورث في ولاية الينوي، دخل السياسة في عام 2002 وكان أحد المؤسسين لحزب العدالة والتنمية وعضو مجلس إدارته.
أردوغان في رحلة مكوكية
فيما يخص العلاقات الخارجية التركية فمن المقرر أن يقوم أردوغان برحلة مكوكية يزرو فيها العديد من البلدان تهدف لتعزيز أواصر التعاون الاقتصادي وحل المشاكل العالقة، إذ سيبدأ زيارته إلى الهند غدًا الأحد وسيشارك أردوغان والوفد المرافق له خلال زيارته إلى الهند في منتدى الأعمال التركي-الهندي، بحضور مديري الشركات الهندية الرائدة، وفي 3 مايو/ايار سيزور روسيا ويلتقي ببوتين ليكون الملف الاقتصادي على أجندة الرئيسين، فعلى الرغم من تحسن العلاقات بين البلدين ما تزال تعترضها بعض المشاكل في ظل القيود الروسية المفروضة على المنتجات الزراعية التركية وفرض أنقرة ضرائب على القمح المستورد من روسيا.
فيما ستكون المحطة الثالثة مشاركته في الـ 14 والـ 15 مايو/أيار في منتدى (الحزام والطريق) في العاصمة الصينية بكين، بمشاركة رؤساء 28 دولة بينها روسيا والفيليبين وإندونيسيا وباكستان، والمنتدى يهدف إلى تعزيز الترابط والعلاقات التجارية بين دول جنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى والدول الأوروبية من خلال الممرات البحرية والبنية التحتية الأرضية الحديثة.
ستسهم إعادة الرجال الذين أسهموا في النهضة الاقتصادية بعد العام 2002 إلى كراسي الحكومة من جديد، ورحلة أردوغان الخارجية إلى إعادة الاستقرار للاقتصاد التركي
كما سيزور أردوغان أيضًا واشنطن في يوم 16 مايو/ أيار، في زيارة تستمر يومين، يلتقي فيها نظيره الأميركي دونالد ترامب. وتنتهي الجولة بزيارة للعاصمة البلجيكية بروكسل يلتقي عددًا من القادة الأوروبيين على هامش انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي الناتو. جميع هذه الزيارات تهدف إلى تأطير الاستقرار في تركيا في المرحلة المقبلة وتعزيز أواصر التعاون الاقتصادي بين تركيا ودول العالم وتجاوز الخلافات الموجودة.
ستسهم إعادة الرجال الذين أسهموا في النهضة الاقتصادية بعد العام 2002 إلى كراسي الحكومة من جديد، ورحلة أردوغان الخارجية إلى إعادة الاستقرار للاقتصاد التركي وإعادة الثقة فيه لترتفع مجددًا معدلات الاستثمار وتسهم بتحسن الليرة التركية وانخفاض معدل البطالة.