في تصريح فاضح وكاشف لرئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023 قال إن كيانه المحتل لا يحارب وحده في غزة لكنه يحارب نيابة عما أسماه “الإنسانية جمعاء” على حد قوله، مضيفًا أن أصدقاءه في العالم العربي يعرفون أنه في حال هزيمة “إسرائيل” في تلك الحرب فإن الدور سوف يأتي عليهم.
يحاول نتنياهو كما دويلته المحتلة العزف على وتر شيطنة المقاومة لا سيما حركة حماس، وترهيب الأنظمة العربية مما يمكن أن يترتب على نجاحها وتمددها في القطاع، ساعيًا لإيهام الحكومات العربية أن ترسيخ أركان المقاومة يعني في المقابل تعرضها للخطر، وعليه فإن الضمانة الوحيدة لبقائها على قيد الحياة هي التخلص من المقاومة ودعم مخططات الاحتلال في القيام بتلك المهمة.
تعلم دولة الاحتلال أن المقاومة والقطاع هما الشوكة الأبرز في ظهر طموحاتها التوسعية في المنطقة، وعليه فهي تحاول بمساعدة حلفائها الغربيين تدشين تحالف إقليمي ودولي للقضاء عليها بزعم مسؤوليتها عن تصعيد الأحداث بما يهدد المنطقة، التساؤل هنا: هل تعي الحكومات العربية أهمية المقاومة في دعم أمن بلدانها القومي؟ وماذا لو أطيح بالمقاومة من أمام دولة الاحتلال؟ أي خطر يمكن أن يهدد الأنظمة العربية؟
أولًا: ما دور المقاومة فلسطينيًا؟
بداية لا بد من الإشارة إلى أن المقاومة المسلحة الطرف الوحيد إقليميًا ودوليًا الذي يُبقي القضية الفلسطينية على الساحة، بل إنها باتت الترمومتر الذي يحدد صعود وهبوط زخم القضية التي أصبحت مرهونة ببقاء المقاومة على خط المواجهة.
ومع تمييع القضية بالزج ببعض الدول إلى حظيرة التطبيع، وتراجعها على قائمة أولويات الخطاب الرسمي العربي الذي بات مربوطًا بسلاسل البرغماتية والمصالح، لم يعد هناك من يدافع عن الأرض والعرض إلا فصائل المقاومة التي أصبحت – بعد أن تخلى الجميع عنها – المتحدث الرسمي باسم الصراع العربي الإسرائيلي.
وتمثل المقاومة الخنجر الأكثر إيلامًا في ظهر الكيان المحتل، والنافذة الكبرى لاستنزاف دولة الاحتلال ومواردها وقدراتها الاقتصادية والعسكرية، بجانب نجاحها في إشغال الاحتلال عن مخططات التوسع الإقليمي التي يسعى لها جنوبًا وشمالًا.
ثانيًا: ما أهمية المقاومة للأمن القومي العربي؟
تمثل المقاومة الفلسطينية حائط الصد الأبعد والأقوى للأمن القومي العربي، خاصة البلدان الحدودية المتاخمة لفلسطين، مصر والأردن وسوريا ولبنان، فوجودها يشكل حيلولة مؤقتة دون تهديد الكيان المحتل للأمن القومي لتلك البلدان بشكل مباشر.
كما أنها تؤجل احتمالات الاشتباك بين الدول المتاخمة وتل أبيب لا سيما في ظل تحرشات الأخيرة بين الحين والآخر بتلك الدول، كما حدث مع مصر مؤخرًا، وما يحدث مع بقية البلدان على مدار السنوات الماضية.
ومن هنا فإن استمرار المقاومة على خط المواجهة يعني باختصار توسعة الهوة بين دولة الاحتلال والبلدان العربية، بما يوفر حماية الأمن القومي العربي، ومن ثم فإن ضعفها – أي المقاومة – يعني تهديد المنظومة الأمنية من النقطة صفر.
السؤال هنا: ماذا لو لم تكن هناك مقاومة من الأساس؟ حينها لن يكون هناك أي مانع أو معرقل لدولة الاحتلال في التوسع نحو جيرانها، حتى تلك التي تتمتع بعلاقات جيدة معها في الوقت الحاليّ، وذلك في ضوء هيمنة الخلفية الأيديولوجية العقيدية على العقلية الإسرائيلية والغربية عمومًا في إدارتها لهذا الملف.
هل يحول التطبيع دون حلم التوسع الإسرائيلي؟
يتوهم المطبعون أن اتفاقيات أبراهام والتقارب مع دولة الاحتلال سيرجئ حلمها في التوسع من البحر إلى النهر كما تخطط، ومما يزيد التوهم حضورًا أن يعتقد الداخلون إلى حظيرة التطبيع أن دخولهم جعلهم في مأمن من الغدر الإسرائيلي، فضلًا عن إمداد جسر من المصالح مع المعسكر الغربي الداعم للاحتلال.
الحرب الحاليّة كشفت بشكل كبير عن الوجه الحقيقي لدويلة الاحتلال وداعميها، وأسقطت الأقنعة المزيفة التي طالما أوهموا بها العالم أنهم أنصار الحقوق والمبادئ والعدالة، لتسقط كل تلك الشعارات على أعتاب الضربة الموجعة التي تلقاها الكيان في 7 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ.
وتحولت الدفة من دعم حليف يتعرض للاستهداف من فصيل مسلح، إلى رفع شعارات الحرب الدينية وإصباغ المواجهة بالصبغة العقدية البحتة، وهو ما يمكن قراءته بشكل كبير من خلال تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الذي أعلن أن دعمه لـ”إسرائيل” من قبيل أنه يهودي قبل أن يكون وزير خارجية، فضلًا عن المسحة الدينية التي تغطي معظم خطابات نتنياهو وجنرالاته في مجلس الحرب (الكابينت).
وفي خطاب متلفز له في 25 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ ذكر نتنياهو “نبوءة إشعياء” (نبي يهودي لمملكة يهوذا الجنوبية)، قائلًا: “نحن أبناء النور بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام”.
النبوءة تشير إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة وتدميرها بالكامل، فضلًا عن السيطرة على البلدان المجاورة وعلى رأسها مصر، حيث جاء في إصحاح 11 “فيعود الرب ليمد يده ثانية ليسترد البقية الباقية من شعبه، من أشور ومصر وفتروس وكوش وعيلام وشنعار وحماة، ومن جزائر البحر، وينصب راية للأمم ويجمع منفيي إسرائيل ومشتتي يهوذا من أطراف الأرض الأربعة، وينقضون على أكتاف الفلسطينيين غربًا ويغزون أَبناء المشرق معًا، ويستولون على بلاد أَدوم وموآب، ويخضع لهم بنو عمون”.
ومن هنا فإن طموح الاحتلال لن يقف أبدًا عند حاجز القضاء على حماس ولا غيرها من الفصائل، بل هي محطة محورية للإطاحة بها تمهيدًا لاستكمال تحقيق النبوءة التي لم تكن المرة الأولى التي يتحدث عنها قادة الاحتلال، بما يؤكد أن الحرب المعلنة بالنسبة لهم هي حرب دينية في المقام الأول، حتى وإن كانت في إطار سياسي.
ما يجب على العرب تقديمه للمقاومة؟
كشفت الأيام الأخيرة أن ما كان تعتقده الأنظمة العربية بشأن قوة تحالفاتهم مع الغرب أصبح أكذوبة كبيرة، فمع أول تهديد حقيقي لـ”إسرائيل” أطاحت القوى الغربية بكل الاعتبارات الدينية والسياسية والأمنية مع حلفاء الشرق الأوسط، لتعلن دعمها الكامل للاحتلال دون أي مراعاة لوضعية حلفائها العرب.
وتجاوز الأمر حد تجاهل الاعتبارات إلى تهديد الأمن القومي العربي بشكل مباشر من خلال نشر البارجات وحاملات الطائرات في المنطقة بما يضع المنظومة الأمنية العربية في مرمى الاستهداف الأمريكي، هذا بخلاف العمل على ترسيخ الحضور الإسرائيلي ولو على حساب العرب، كالضغط لتهجير سكان غزة إلى سيناء والعمل على تصفية المقاومة بشكل كامل بما يمهد لتصفية القضية الفلسطينية برمتها.
كما تجاهلت حكومة الاحتلال العلاقات القوية التي تربطها ببعض الأنظمة، فغضت الطرف عن المناشدات المصرية بفتح معبر رفح لدخول المساعدات، وهددت بقصفها حال دخولها دون إذن، كما أحرجت نظام السيسي باستهداف بعض المواقع مع الحدود المصرية – حتى لو اعتذرت عنها وقالت إنها على سبيل الخطأ -، الأمر كذلك مع البلدان الخليجية والعربية بجانب تركيا، حيث تجاهلت كل تلك المطالبات ووضعت حكومات هذه البلدان في حرج كبير أمام شعوبها.
وبعد أن تكشفت الأمور، بات من اليقين أن كل الادعاءات التي ساقها الكيان لشيطنة المقاومة كانت بهدف تطويق حصاره وتوسيع الهوة بينها وبين الحكومات العربية، ومن ثم أصبح دعم المقاومة الفلسطينية هو الخيار الوحيد حاليًّا لردع دولة الاحتلال وحلفائها، وإثنائها عن تنفيذ مخطط وحلم التوسع من البحر للنهر.
من المؤسف ما تم تسريبه قبل أيام بشأن رغبة بعض الأنظمة العربية التخلص من المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، بدعوى أنها تشكل خطرًا على بقاء تلك الأنظمة واستمرارها في السلطة، هي السردية التي نجح الاحتلال نسبيًا في تمريرها ولاقت رواجًا لدى البعض.
في ضوء ما سبق وبصرف النظر عن الخلافات الأيديولوجية بين حماس ورفاقها في المقاومة وبعض الأنظمة العربية، فإن الوضعية الحاليّة تتطلب غض الطرف عن مثل تلك السجالات، وأن يعيد العرب حساباتهم بشأن التعاطي مع المقاومة، وألا يشاركوا المحتل في تنفيذ مخطط الإطاحة بها بزعم الاستقرار والأمان، وعليه العمل لأجل الغاية الأهم والأكبر وهي حماية الأمن القومي العربي من خلال تقليم أظافر الاحتلال عبر دعم الفصائل التي تأكد أنها امتداد لعمق العرب أمنيًا وسياسيًا وعسكريًا.