نفّذت القوات المدرعة الإسرائيلية، أمس الاثنين، للمرة الثانية تقدمًا بريًّا إلى داخل الحيز الجغرافي لقطاع غزة، إذ تقدمت من السلك الشائك بضعة أمتار في منطقة شارع صلاح الدين بموازاة نقطة محررة (نتساريم)، الخط الذي يربط شمال القطاع بجنوبه، بعد سلسلة أحزمة نارية نفّذتها المقاتلات الجوية والمدفعية الإسرائيلية خلال الأيام الماضية على المنطقة.
قال المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إن بضع دبابات وجرّافة لجيش الاحتلال الإسرائيلي توغلت في شارع صلاح الدين، انطلاقًا من المنطقة الزراعية المفتوحة بمنطقة جحر الديك، وأضاف: “لا يوجد أي تقدم برّي داخل الأحياء السكنية في قطاع غزة بشكل قاطع، وما جرى على شارع صلاح الدين هو توغل بضع دبابات لجيش الاحتلال وجرّافة انطلاقًا من المنطقة الزراعية المفتوحة بمنطقة بلدة جحر الديك”.
من جهته، قال متحدث الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، في مؤتمر صحفي: “نقوم بعملية برّية موسعة داخل القطاع، والقوات البرية والدبابات وقوات المشاة والمدرعات تتجه نحو الإرهابيين”، مضيفًا أن قواته “تتقدم تدريجيًّا في قطاع غزة”، مع دفع المزيد من القوات إلى القطاع.
وعلقت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، بالقول إن “الكتائب تواصل التصدي للعدو وتدير المعركة بكفاءة”، وتابعت أن “العدو أدخل دبابات إلى مناطق رخوة بعد أن قصف كل شيء فيها”، وأكدت القسام استهداف آليتَين تابعتَين لقوات الاحتلال التي توغّلت في حي الزيتون شرقي غزة، وأضافت في بيان أنها استخدمت قذائف الياسين 105 في تصدّيها للدبابات الإسرائيلية المتوغلة.
محور الخاصرة الرخوة
عن محور التوغل الجنوبي، يمتد شارع صلاح الدين، الذي احتدم القتال فيه عصر أمس الاثنين، على مسافة 45 كيلومترًا من بيت حانون أقصى شمال غزة حتى رفح جنوبًا، ويعدّ أحد الشارعَين الرئيسيَّين للقطاع مع شارع الرشيد غربًا، وتبلغ المسافة التي تربطهما بالجهات الأربعة ما يقارب 365 مترًا مربعًا.
وساعد الآليات العسكرية على التقدم السريع وقوع الشارع في ما يعرَف عسكريًّا بالخاصرة الرخوة أو الضيقة، نظرًا إلى بساطة تضاريسها وقلة كثافتها السكانية حيث تعدّ منطقة زراعية بالدرجة الأولى، إلى جانب قربها الشديد من السياج الفاصل بين الجانبَين، حيث لا تتعدى المسافة بينهما الـ 3 كيلومترات.
توقع محللون أن سيطرة جيش الاحتلال على خط صلاح الدين إذا تمكّن منها فعلًا، ستؤدي إلى فصل مناطق شمالي قطاع غزة وجنوبه، كجزء من الحرب البرية التي تقول قوات الاحتلال إنها بدأت تتعمّق شيئًا فشيئًا، بينما تقول المقاومة إنها محاولة فاشلة لإرضاء الشارع الإسرائيلي واسترداد الثقة بجيشه.
وخلال السنوات الماضية، حاول الاحتلال الوصول إلى هذه المنطقة، بوابة صلاح الدين، 3 مرات، خلال الحروب المتتالية على القطاع، فمنذ عام 2008-2009 وصلت الدبابات الإسرائيلية إلى عمق هذه المنطقة وصوّر الاحتلال آلياته إعلاميًّا، وفي عام 2014 حاول العبور لكنه لم يصل إلى طريق صلاح الدين وتراجع وانسحب.
واليوم يعيد المحاولة للمرة الثالثة، وعمدت “إسرائيل” في الأيام الماضية على تنفيذ ما يعرَف بـ”تسطيح الأرض”، من خلال تدمير العديد من المباني السكنية القريبة من نقطة التوغل مثل أبراج الزهراء، وكذلك الحشد العسكري الذي يأتي استجابةً لمطالبات سياسية إسرائيلية وجبهتها الداخلية للتدخل البرّي، للوصول إلى تحرير الرهائن الإسرائيليين في قطاع غزة دون ثمن، لذلك الظروف تغيّرت عن حرب 2014 وغيرها، واختلف سقف الأهداف عن اليوم.
مقاومة شرسة أمام محاولة صنع انتصار برّي
يرى المحلل السياسي يوسف فارس، أن دخول الأرتال المسلحة بقصف جوي مكثف ليس سوى البداية، حيث عمل الجماعات غير المتكافئة عسكريًّا يبدأ ما بعد الدخول، فالاحتلال يحاول تحقيق منجزات معنوية وليست عملانية، حيث “ماذا في رمال نتساريم سوى مساحة لذيذة لتحليق الكورنيت؟” وفق تساؤله.
ويقول فارس لـ”نون بوست” إنه لا يبدو في أعقاب تطوير الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة إلى مرحلته الثانية منذ 4 أيام، أن الميدان البرّي يلعب في مصلحة العدو، إذ لاقى منذ مساء يوم الجمعة الماضي مقاومة شرسة في كافة محاور القتال، رغم إفراط الاحتلال في توظيف قوة النار من مختلف الوسائط البرية والبحرية والجوية في التمهيد لدخول المدرعات، ولعلّ ما حاول الاحتلال تسجيله خلال الأيام الماضية، تنحصر مهمته في صناعة صورة انتصار جزئية.
وأضاف: “الخرق الثاني بعد بيت حانون شهده هذا المحور بداية من جحر الديك، وهي خاصرة القطاع الأضيق التي لا تتجاوز مساحتها من الحدود الشرقية وحتى ساحل المنطقة الوسطى أكثر من 6 كيلومترات، هناك تقدمت دبابات وجرافة في عمق 3 كيلومترات، واستطاعت قطع شارع صلاح الدين الذي يصل شمال القطاع بجنوبه لبضعة ساعات، قبل أن تتعرض القوة الإسرائيلية لهجوم بالصواريخ المضادة للدروع، أجبرتها على التراجع تحت غطاء ناري كثيف”.
وكان ملاحظًا منذ بدء الهجوم البري، الذي أُطلق عليه “المناورة البرية”، أن الكثافة النارية تضاعفت 5 درجات، حيث يسمع في مختلف مناطق القطاع أكثر من 3 انفجارات خلال كل دقيقة.
ويستطرد المحلل فارس في هذه النقطة: “ما يمكن تسجيله بكل ثقة حتى اللحظة هو أن القوات الغازية لم تستطع تثبيت تمركزها في أي من النقاط التي تقدمت إليها، رغم أن تلك المساحات هي مناطق محروقة ومكشوفة بالمعنى العسكري، أي لا تعطي تضاريسها المنبسطة للمدافعين أي هامش للاختباء والمناورة، كما أنها لم تستطع الدخول إلى المناطق الحضرية العمرانية حتى المُخلاة من السكان منها بفعل التدمير الكلي الذي طاولها، إذ لا يأمن جيش العدو ما ينتظره هناك من مفاجآت”.
“حتى اللحظة، لا يمكن الزعم بانتفاء قدرة جيش الاحتلال على تنفيذ عمليات اختراق أو حتى توغل موضوعية، ذلك لأن العمل الدفاعي يبدأ عادة بعد تمركز القوات، غير أن سلوك المقاومة يُظهر أنها تعمّدت جعل تقدم القوات مكلفًا، حيث أدت الخطوط الدفاعية المتقدمة دورها، ولعبت الأسلحة المضادة للدروع دورًا في إيقاع إصابات مباشرة ومحققة”، وفق حديث المحلل السياسي فارس.
التوغُّل بداية مرحلة جديدة
وفي هذا السياق، كشفت القسام لأول مرة عن تدشين أسلحة مصنّعة محليًّا، من مثل قذيفة “الياسين الترادفية” المضادة للدروع، وفي ذلك إشارة إلى وفرة الوسائط القتالية المعدّة سلفًا للتصدي لتقدُّم من هذا النوع.
ويقول الكاتب المحلل إبراهيم المدهون: “إن دخول الدبابات الإسرائيلية لا يعني النهاية، بل بداية مرحلة جديدة تم الاستعداد لها جيدًا، وسيلقى العدو من رجال المقاومة ما يغيّر المعادلة في المنطقة، مع العلم أن محور نتساريم الواقع على خط شارع صلاح الدين، يعدّ من أضعف مناطق قطاع غزة والأقصر مسافة داخل عمق القطاع”.
وأشار في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن الاحتلال يصرّ على التوغل برًّا، ويبحث عن صورة نصر، حيث تقدم الدبابات في منطقة نتساريم الفارغة مناورة محدودة تهدف للتغطية على أحداث شمال غزة، واستكشاف المنطقة ومحاولة استفزاز كمائن ركن العمليات، واستعراض إعلامي كصورة تفوق، وإرهاب السكان ودفعهم للنزوح، ثم انسحابه سريعًا استكمالًا للمناورة.
طريق النزوح الدامي
وبحسب المدهون، يتبع الجيش الإسرائيلي الخطة الأمريكية لغزو بغداد، معتمدًا الدخول من عدة محاور، وضرب الروح المعنوية بالتدمير العشوائي المركّز، وإظهار الدبابات على الشاشات تقتل المدنيين بوحشية وبصورة استعراضية لضرب الإرادة القتالية.
وأثناء التوغل، أظهر مقطع مصور استهداف تلك الدبابات التي توغلت عبر شارع صلاح الدين الأيوبي سيارتَين مدنيتَين، أدّى إلى استشهاد 3 مواطنين، قبل أن تجبرها المقاومة على التراجع.
فهذه ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها “إسرائيل” نازحين كانوا في طريقهم هربًا من الموت من شمال قطاع غزة نحو الجنوب في شارع صلاح الدين الأيوبي، حيث قصف الطيران الإسرائيلي قبل أسبوعَين شاحنة تقلُّ عددًا منهم، أدّى إلى استشهاد 70 شخصًا على الأقل في لحظة واحدة.
وقالت حركة حماس إن “مجزرة الاحتلال ضد عائلات نزحت تحت القصف جريمة نكراء لن تزيد شعبنا إلا تمسُّكًا بأرضه”، مضيفة أن هذه الجريمة تكشف كذب “إسرائيل” وخداعها.
ومنذ بداية الحرب ومطالبات الإخلاء، نصح الاحتلال الإٍسرائيلي الغزيين بالنزوح إلى جنوب القطاع عبر شارع صلاح الدين، لضمان نجاتهم من الغارات، لكن ما حدث أن قنابله وصواريخه رافقتهم في الطريق.
وارتفعت حصيلة الشهداء جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة في يومه الـ 25 على التوالي إلى 8 آلاف و525 شهيدًا، معظمهم مدنيون وبينهم 3 آلاف و542 طفلًا، وفق ما أعلنت وزارة الصحة في غزة يوم أمس الاثنين.