بات الخلاف على تدخل الحرس الثوري الإيراني في مفصل الاقتصاد وتحكمه بقطاعات مهمة أكثر وضوحًا مما سبق، إذ عمد بعض مرشحي الرئاسة إلى توجيه اتهامات لمؤسسة الحرس الثوري على إخفاقاتها في الاقتصاد والتي أودت بالاقتصاد الوطني إلى أزمات كثيرة.
روحاني ينتقد الحرس الثوري
بقي نحو ثلاثة أسابيع على الانتخابات الرئاسية في إيران المزمع إجراؤها في 19 من مايو/ أيار المقبل، وحتى ذلك اليوم يتنافس المرشحون على عرض برامجهم السياسية والاقتصادية أمام الحشود الشعبية، ومن بين المرشحين الرئيس الحالي حسن روحاني الذي يسعى لإعادة انتخابه لولاية جديدة.
يركز روحاني في خطاباته على الإنجازات التي تحققت منذ انتخابه في العام 2013 ويذكر محاسن السياسات التي اتبعها لإنهاء عزلة البلاد وخلق مجتمع أكثر تحررًا، والاتفاق النووي مع الدول الكبرى.
انتقد روحاني الحرس الثوري والدور الرجعي الذي يقوم به على الاقتصاد والانتكاسات التي لحقت بالاقتصاد الوطني الناجمة عن بسط الحرس سيطرته على كثير من القطاعات المهمة في البلاد
حيث تمكنت حكومته في فترة حكمها البلاد من خفض التضخم من 40% إلى أقل من 10%، وخفضت نسبة البطالة إلى 12% وأنهت العقوبات الدولية بالتوصل إلى اتفاق نووي مع القوى العالمية الكبرى، وعادت مبيعات النفط الإيراني للانتعاش مجددًا وتسعى إلى إيصالها إلى 4 مليون برميل نفط يوميًا كما كان الوضع قبل فرض العقوبات الدولية، وعقدت الحكومة العديد من الصفقات التجارية كتجديد أسطول الطائرات المدنية بشراء عشرات الطائرات من “إيرباص” و”بوينغ” وعقد اتفاقات تجارية مع دول عديدة من بينها تركيا روسيا والصين بالإضافة إلى جذب استثمارات أجنبية إلى البلاد بشكل محدود.
إلا أن هذه الإصلاحات لا تزال تعترضها الكثير من المنغصات، إذ لا يزال الركود يسيطر على الاقتصاد الإيراني على الرغم من رفع العقوبات، والسبب يعود إلى أن الشركات والمؤسسات الأجنبية لا تزال متخوفة من استمرار العقوبات الأمريكية على إيران، وهو ما يحجب إيران عن تدفق الاستثمارات الأجنبية إليها بشكل كبير ودخول الشركات والمؤسسات المالية الكبرى.
فرفع الحظر عن إيران بعد توقيع الاتفاق النووي شمل فقط الحظر الخاص بالبرنامج النووي، إذ رُفع عن 26 مؤسسة مالية فقط، فيما توجد في إيران مئات المؤسسات المالية التي لا تزال تحت الحظر وكذلك المصارف والشركات التابعة للحرس الثوري. كما أن نسبة البطالة لا تزال عالية بين فئة الشباب حيث وصلت إلى الربع حسب أحدث البيانات الرسمية، فيما تعرضت العملة الإيرانية إلى موجة هبوطية خلال الفترة الماضية وصل خلالها الريال إلى 41.5 ريال مقابل الدولار.
إحجام البنوك الأوروبية عن التعامل مع طهران يمثل مشكلة سياسية واقتصادية لحكومة الرئيس حسن روحاني لأن منتقديه المحافظين في البرلمان شكوا من أن الاتفاق النووي لا يقدم لإيران المزايا المرجوة
روحاني لم يقف عند ذكر إنجازاته فقط بل انتقد الحرس الثوري الإيراني والدور الرجعي الذي تقوم به المؤسسة على الاقتصاد والانتكاسات التي لحقت بالاقتصاد الوطني الناجمة عن بسط الحرس سيطرته على كثير من القطاعات المهمة في البلاد.
فرغم جهود الحكومة وتأملاتها بتدفق الاستثمارات بعد رفع العقوبات، فإن سيطرة مؤسسة الحرس الثوري على معظم الشركات المالية والمصارف في إيران شكلت عائقًا كبيرًا أمام تعامل المؤسسات والدول مع طهران، وهذا ما شكل انتكاسة كبيرة لحكومة روحاني في الفترة الماضية وظهر أن رفع العقوبات لم تستفد إيران منه كثيرًا، وعرقل عقد صفقات تجارية كبيرة مع الخارج.
وحسب مراقبين فإن إحجام البنوك الأوروبية عن التعامل مع طهران يمثل مشكلة سياسية واقتصادية لحكومة الرئيس حسن روحاني لأن منتقديه المحافظين في البرلمان شكوا من أن الاتفاق النووي لا يقدم لإيران المزايا المرجوة.
الحرس الثوري يملك 20% من إجمالي أسهم الشركات المسجلة في بورصة طهران، وتقدر قيمة هذه الأسهم بنحو 16.5 مليار دولار
أضف أن البنوك الأوروبية والعالمية التي تكبدت غرامات كبيرة بسبب تعاملاتها مع إيران تتخوف من الوقوع في شباك المصارف الإيرانية والمؤسسات التي لم يتم رفع الحظر عنها بعد، إذ لا تزال الولايات المتحدة تفرض عقوبات على أشخاص وشركات ومصارف إيرانية بسبب ضلوعها في الإرهاب وتصديره في دول المنطقة وبسبب تمويلها برنامج الصواريخ البالستية.
الخلاف بين روحاني ومن يؤيده مع الحرس الثوري الإيراني ومؤيديه لا يعد جديدًا في الملف الاقتصادي، على الرغم من اتفاقهما على المسائل الخارجية، ففي الوقت الذي يرى الحرس الثوري أنه داعم رئيسي للحكومة في حل المشكلات المعيشية للمواطنين ومؤسساته جاهزة لتعبئة قدراتها لمساعدة الحكومة، يرى روحاني أنه من الضروري أن تكف المؤسسة العسكرية يدها عن مشاريع الاقتصاد ويتم فتح الباب أمام الشركات الأجنبية للدخول إلى الأسواق والاستثمار للمساهمة في رفع النمو الاقتصادي والتخلص من المشاكل التي يعاني منها المجتمع من فقر وبطالة وفساد. أما مؤيدو الحرس الثوري فيرون أن الدور الاقتصادي الذي تقوم به هذه المؤسسة كفيل بإبعاد تهديد الأجانب عن البلاد، ورفع معدلات الإنتاج المحلي بهدف الاكتفاء الذاتي.
الخلاف بين روحاني والحرس الثوري في الملف الاقتصادي يعد فلسفيًا بالدرجة الأولى، فبينما يرى روحاني أنه من الضروري لتطوير الاقتصاد الوطني والتخلص من الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، إلى اتخاذ سياسات ليبرالية في الاقتصاد تقوم على فتح باب الاستثمار الأجنبي وخصخصة جزء من القطاعات، بينما يقف الحرس الثوري على النقيض إذ يرى أن تحقيق الاكتفاء الذاتي وتطوير الاقتصاد يكون بالاعتماد على الموارد المحلية دون الاستعانة بالدول الأجنبية.
يُذكر أن الحرس الثوري هو الجيش العقائدي والحرس الوفي للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران رغم أنه لا يعد من الناحية التنظيمية جزءًا من القوات المسلحة الإيرانية بل يتمتع بقيادة مستقلة تتلقى أوامرها من خامنئي مباشرة. ظهر في 5 مايو/أيار 1979 بعد انتصار الثورة الإسلامية والإطاحة بنظام الشاه، عبر مرسوم من قائد الثورة آية الله الخميني، ووضع تحت إمرة المرشد مباشرة.
وكان الهدف الرئيس من إنشاء هذه القوة جمع القوات العسكرية المختلفة التي نشأت بعد الثورة في بنية واحدة موالية للنظام لحمايته وإقامة توازن مع الجيش التقليدي الذي لم يشارك في الثورة وظل بعض ضباطه أوفياء لحكم الشاه. ويقدر عدد عناصره بحسب تقديرات المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن بـ350 ألف عنصر. ويعد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد أحد أعضائه ووصوله إلى الرئاسة يعد إشارة إلى نفوذ الحرس الثوري في جسم الدولة.
امبراطورية الحرس الثوري
بدأ دخول الحرس الثوري في الاقتصاد الإيراني إبان تولي الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني الرئاسة، والتي أعقبت خروج البلاد حديثًا من حرب مع العراق دامت 8 سنوات استنزفت البلاد واقتصادها بشكل كبير.
ركز رفسنجاني في ذلك الوقت على إعادة الإعمار وتطوير الاقتصاد، وعلى إثر ذلك تدخلت المؤسسة العسكرية وأسست شركات في القطاعات كافة في الصناعة والتجارة والزراعة والطاقة ولعبت دورًا مهمًا في البناء ومن ثم تطور عملها كثيرًا في زمن الرئيس محمود أحمدي نجاد، وقد ساعدت العقوبات الغربية، الحرس في السيطرة أكثر على قطاعات الاقتصاد.
الحرس الثوري يدير إمبراطورية مالية ضخمة تقدر قيمتها بنحو 95 مليار دولار تمتد من تجارة السلاح والنفط والسجاد الفارسي
القطاع الذي أسسته المؤسسة العسكرية لا هو قطاع عام تديره الدولة ولا هو قطاع خاص تديره الشركات الخاصة، فهو أشبه بالقطاع شبه العام، إذ تستأثر شركاته الضخمة على معظم الموارد المهمة في البلاد، وأبرزها الشركات المالية التي يزيد عددها على 10 من بينها مصارف، وأبرز تلك الشركات شركة “خاتم الأنبياء” المسؤولة عن مشروعات ضخمة في البلاد منها ما هو مرتبط بالعقار ومنها ما هو مرتبط بالطاقة.
يرى الخبير الأمريكي مارك دوبويتز، المتخصص في الشؤون الإيرانية، في إفادة له أمام الكونغرس الأمريكي أن الحرس الثوري يدير إمبراطورية مالية ضخمة تقدر قيمتها بنحو 95 مليار دولار تمتد إلى تجارة السلاح والنفط والسجاد الفارسي الذي تشتهر به إيران.
وتشير تقارير وزارة الخزانة الأمريكية أن ثروة الحرس الثوري الإيراني تترواح بين 20 – 30% من إجمالي الناتج المحلي للاقتصاد الإيراني برمته، الذي تقدر قيمته بنحو 600 مليار دولار وتقدر وزارة الخزانة الأمريكية أن دخل الحرس الثوري من نشاطاته التجارية بما يقارب سدس الاقتصاد الإيراني أي نحو 100 مليار دولار سنويًا، وتشير تقارير أيضًا أن الحرس الثوري يملك 20% من إجمالي أسهم الشركات المسجلة في بورصة طهران، وتقدر قيمة هذه الأسهم بنحو 16.5 مليار دولار.
يذكر خبراء أنه يصعب إجراء صفقة تجارية أو مالية في إيران دون أن يكون الحرس الثوري أو مؤسسة “سيتاد” التابعة للمرشد الأعلى للثورة الإيراينة جزءًا منها، أو المنفذ لها خلف ستار شركات الواجهة العديدة التي يملكها الحرس الثوري.
تغلغل الحرس الثوري في الاقتصاد وبسط نفوذه على قطاعات واسعة في البلاد يجعل من الصعب تحقيق رؤية روحاني القاضية بضرورة إبرام عقود مع أطراف خارجية
ويتبنى الحرس الثوري نظرية الاقتصاد الممانع التي دعا إليها خامنئي لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليص الواردات مقابل رفع الصادرات، والاقتصاد المقاوم كمصطلح في الاقتصاد هو هجين لم يتحدث به أي من المفكرين الاقتصاديين، ولم يتبع من قبل أي من دول العالم، على أنه وجد كطريقة للتعامل مع العقوبات ضد بلد أو منطقة في الحالات التي لا يسمح لها في الاستيراد والتصدير، وهو مقترح من إيران بسبب العقوبات الاقتصادية والتجارية التي تقودها الولايات المتحدة ضدها.
نظريًا يمكن لإيران ولأي بلد أن تنجح في اتباع الاقتصاد الممانع الذي يعرضه خامنئي، ولكن المشكلة الرئيسية والتي قد تُفشل الاقتصاد برمته، في الاندماج مع منظومة الاقتصادي العالمي والمجتمع الدولي وفي سماحه لإيران باتباع هكذا أنموذج.
وفي النهاية إن تغلغل الحرس الثوري في الاقتصاد وبسط نفوذه على قطاعات واسعة في البلاد يجعل من الصعب تحقيق رؤية روحاني القاضية بضرورة إبرام عقود مع أطراف خارجية، وفي حال تم انتخاب روحاني لولاية ثانية فقد يذهب في خيار التعاون مع المؤسسة لتنمية الاقتصاد المحلي، بسبب فشله في إبعاد المؤسسة العسكرية عن الاقتصاد في الفترة الماضية.