لعل دجلة العظيم أكثر من عَرَفَ للمَوصلِ قدرها، فأخذ بالانحناء قبيل دخوله مدينة الأنبياء، عرفًا بحقها وإقرارًا بفضلها، ومعطيًا لقبًا جديدًا للمدينة الموصلة بين الشرق والغرب وهو لقب “الحدباء” التي لقبت به لاحتداب مجرى النهر فيها، إضافة لبساطها الأخضر الدائم، مكسبها لقبًا رقيقًا “أم الربيعين” التي لم تستطع الحرب بكل بارودها أن تغتال هذين اليافعين المتزينين بزهرة البابونج الرمز لعاصمة الأشوريين “نينوى” التاريخية التي تقبع في جانب الموصل الشرقي عند تل كويسنجق أو تل التوبة الذي صعد فيه أهل نبي الله ذو النُّون تائبين ليخلد ذكرهم في القرآن إلى يوم يبعثون.
للأسف يعرف العالم قصة الموت والخراب الذي أصاب الموصل لكنه لا يعرف قصة الحياة التي عاشتها إحدى أعرق مدن العالم
تلك الغمامة السوداء التي أصابت العراق اليوم كان للرأس نصيب الأسد فيها، من القتل والدمار والتهجير، فقدت عروس الشمال الكثير من شواهدها التاريخية وشخصياتها العلمية والثقافية التي طالما كانت تفاخر بهم المدن، للأسف يعرف العالم قصة الموت والخراب الذي أصاب الموصل لكنه لا يعرف قصة الحياة التي عاشتها إحدى أعرق مدن العالم.
ظهر البغدادي في جامع النوري الكبير بملابسه السوداء وخطابه الذي حلله الآلالف من المحللين في شؤون الجماعات المسلحة ولم يتوقف الإعلام عن نقل أدق التفاصيل وصولاً بقصة ساعة البغدادي اليدوية نوع روليكس.
لم يذكر أحد أن البغدادي يلوث تاريخًا ممتد الجذور، لكل دين فيه نصيب ولكل عرق مشاركة، خطب البدري في ظلال منارة الحدباء التي بناها الملك الصالح نور الدين زنكي مؤسس الدولة الزنكية في فترة حكم الخليفة العباسي المستضيء بالله سنة (566-568هـ) والتي منع سقوطها أحد أبناء الموصل “عبود الطنبرچي” من المسيحيين الذين أحبوا الموصل بكل معالمها الإسلامية قبل المسيحية، فخاطر بحياته لسد الفجوة التي انهارت في جزء من أجزاء المنارة الشامخة.
لم يدرك العالم ولا مجموعة المسلحين الذين يقفون خلف “البغدادي” وهو يحاول استعراض براعته في مخارج الحروف في أثناء التلاوة، أنهم يصلون وأمامهم محراب يعود تاريخه لـ14 قرنًا من العراقة
لم يدرك العالم ولا مجموعة المسلحين الذين يقفون خلف البغدادي وهو يحاول استعراض براعته في مخارج الحروف في أثناء التلاوة، أنهم يصلون وأمامهم محراب يعود تاريخه لـ14 قرنًا من العراقة، فهو محراب الجامع الكبير أو الجامع الأموي والذي شُيد في القرن الأول للهجرة ونقل للجامع النوري الكبير لاحقًا.
مدينة الموصل التي دخلها الإسلام في وقت مبكّر، حيث فتحت عام 17هـ على يد الصحابي ربعي بن الأفكل، وترك التاريخ الإسلامي على مر عصوره المختلفة شواهد مثل الدُر المنثور فوق مساحتها الجغرافية لم تستطع كل معاول الهدم من إزالة الحقيقة رغم هدمها للشواهد وكل ما يمكن أن يعطي للموصل مجدها.
لم يمح الإسلام تاريخ المدينة التي فتحها، بل أكمل على ما كان فيها لتتشكل المدينة بامتداد تاريخها المتراكم الذي قدم للبشرية أول مكتبة حقيقية (مكتبة أشور بانيبال) وحكمت أرض باتساع من شرق دجلة إلى غرب نهر النيل في فترة الأشوريين الذهبية، فيما توالت عليها الحضارات وسجل فيها أقدم الممالك العربية “مملكة الحضر” التي لا زالت شاخصة وشاهدة بقصورها التي تتوسط الصحراء جنوب الموصل.
تعتبر الموصل أولى المدن العربية دخولاً تحت حكم العثمانيين عام 1515م وآخر المدن العربية التي غادرها الجيش العثماني عام 1917م
كل هذا الرصيد التاريخي إضافة للموقع المميز والمواد الطبيعية من ماء وأرض خصبة (فقد كانت وما زالت الموصل سلة خبز العراق وأرض الجزيرة أكثر الأراضي الزراعية خصوبة في المنطقة)، إضافة لجغرافيتها على رأس العراق وطرقه التجارية مع بلاد الشام والأناضول جعل الدولة العثمانية تختصها بالعناية، فتعتبر الموصل أولى المدن العربية دخولاً تحت حكم العثمانيين عام 1515م وآخر المدن العربية التي غادرها الجيش العثماني عام 1917م، هذه الفترة الطويلة من الحكم جعلت الموصل جزءًا محوريًا في الدولة العثمانية وجعلت الدولة العثمانية جزءًا محوريًا من تاريخ المدينة.
ولعل أبرز ما يفسر هذا التأثير ظهور مثل عائلة الجليلي الموصلية التي وصلت لمناصب مميزة داخل الدولة العثمانية وتقلد أفرادها حكامًا على ولايات متعددة داخل الدولة العثمانية، وبعض الشخصيات الموصلية التي وصلت للبلاط العثماني أمثال ملا عثمان الموصلي الأديب والموسيقار الذي كان يخطب بالمسلمين في الحج بالنيابة عن سلاطين الدولة العثمانية، ومن جهة ثانية ما زالت اللهجة الموصلية أيضًا شاهدة بكل وضوح على التأثر بتلك الحقبة، فكثير من مفردات اللهجة الموصلية ستجدها كلمات بنفس المعنى في اللغة العثمانية وكثير من الشواخص المعمارية الخاصة بالمدينة تعود لتلك الحقبة التاريخية.
الموصل الحديثة ومع تشكيل الدولة العراقية كانت جزءًا أصيل من الفسيفساء العراقية ورجال الموصل كانوا من أبرز رجال الحكم في العراق في مسالك العسكر والقضاء والتعليم
الموصل الحديثة ومع تشكيل الدولة العراقية كانت جزءًا أصيل من الفسيفساء العراقية ورجال الموصل كانوا من أبرز رجال الحكم في العراق في مسالك العسكر والقضاء والتعليم، فالمدينة منجم للقبول تنتظر مستكشفين أو فرص لتبرع بشكل حقيقي.
برز في الموصل شخصيات خلدها التاريخ، سياسية وعسكرية وأدبية أمثال نور الدين وعماد الدين زنكي والجليلي في الحكم والأصمعي في الشعر ومحمود شيت خطاب وشنشل في العسكر وزها حديد في الهندسة المعمارية وقدامة الملاح في الفيزياء النووية وفتح بن عطاء الموصلي وقضيب البان في التصوف وعماد الدين خليل وسعيد الديوجي في التاريخ وملا عثمان الموصلي في الموسيقى، والقائمة تطول ولا تنتهي، قطفت لكم من كل بستان زهرة لا على التعيين، فرجالات الموصل برعوا في كل مجال وأسهموا في التاريخ العراقي والعالمي عبر محطات متعددة من هذا التاريخ كان لهم فيه بالغ الأثر وجميل الذكر.
اليوم ورغم كل هذا الدمار والخراب تنفض الموصل غبار الحرب بسرعة لم يستطع الكثير فهمها، رغم أن الحرب لم تضع أوزارها، فقد نهض شباب المدينة ورجالاتها في كل مجال، يد تقدم الإغاثة ويد تعيد الشوارع لسابق عهدها ويد تعيد الخدمات ويد تعيد البناء، يتسابق الطلاب لمدارسهم لا يهمهم انهيار الجدار بسبب قذيفة ولا يوقفهم الخوف من هشاشة الوضع الأمني، كل هذا وأصوات الحرب تطرق المسامع على بعد أمتار في أجزاء الموصل الغربية.
ولاستيعاب فكرة عودة المدينة للحياة بهذه السرعة والنهوض من الكبوة بهذا الإصرار على الحياة والبناء يجعلني أكتب كل ما تقدم لأصل إلى فكرة المقال وهي أن مدينة بهذه المقومات غير قابلة للموت ولا تمتلك في قاموسها كلمة “النهاية”.