بعد أن شنت حماس هجومها المباغت على “إسرائيل” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، انحصرت التوقعات في البداية في أن تظل الحرب مجرد صراع محدود بين “إسرائيل” والمقاومة في غزة، ومع استمرار القصف الإسرائيلي المروع دون هوادة على القطاع المحاصر والمكتظ بالسكان، مخلفًا مزيدًا من الضحايا المدنيين، تُثار أسئلة في عدد من الاتجاهات بينها ما يشير إلى اتساع رقعة المعارك من حرب غزة إلى “حرب كبرى” في منطقة باتت على فوهة كل الاحتمالات وخيار الانزلاق نحو “منازلة كبرى” لم يتم استبعاده حتى الآن.
من التهدئة إلى التصعيد
منذ بداية الحرب، سعى الفاعلون إلى حصر الصراع بين دولة الاحتلال والفلسطينيين، وتدفقت التصريحات الإسرائيلية والأمريكية المحذرة من انضمام جهات خارجية للصراع، في إشارة إلى “حزب الله” بشكل أساسي، وحلفاء المقاومة الفلسطينة في المنطقة عمومًا، إلى حد أن تحذّر الإمارات بشار الأسد من التورط بنصرة غزة، وذلك بعد يوم أو يومين فقط من عملية طوفان الأقصى!
وأصبحت الحجج المنطقية لصالح الاحتواء أقل بديهية بعد أن استهدفت غارة جوية إسرائيلية مستشفى المعمداني في غزة، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، ما أودى بحياة مئات الفلسطينيين، وأدَّى إلى اندلاع الاحتجاجات في مدن بجميع أنحاء الشرق الأوسط، وقلب زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، وإلغاء عَمَّان قمة رباعية بينها وبين قادة مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
لكن حتى قبل مأساة المستشفى، كان حجم هجمات حماس والحقائق على الأرض مع اندلاع الحرب في غزة تعمل بالفعل على تغيير ليس فقط مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل أيضًا ديناميكيات الشرق الأوسط برمته، وتهدد هذه التحولات بترك إستراتيجية الولايات المتحدة الرامية إلى وقف التصعيد في المنطقة في حالة من الفوضى، وإغراق المنطقة في صراع قد لا تتمكن من التعافي منه.
وجاءت المخاوف المتزايدة من التصعيد بعد يوم من فشل “قمة القاهرة السلام” التي تم تنظيمها على عجل بدعوة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بهدف وقف تصعيد العنف في قطاع غزة، وهو ما ظهر جليًا في عدم صدور بيان ختامي مشترك، ما سلط الضوء على الانقسام المتزايد بشأن الصراع المستمر الذي اقترب من شهره الأول.
وتواجه غزة بالفعل أزمة إنسانية حادة وسط قصف إسرائيلي غير مسبوق وتوغل بري تدريجي، كما تتعرض أجزاء كبيرة من “إسرائيل” لهجمات صاروخية منتظمة من عدة جبهات، ومع استمرار هذا الوضع، سيظل الوضع النهائي غير مستقر ومحفوفًا بالمخاطر.
ومع تصاعد العدوان، وإطلاق رصاصة الرحمة على الجهود الدبلوماسية، ووجود تحرشات محدودة من أطراف محسوبة على محور الممانعة، وتصريحات تحمل صبغة تهديدية من مسؤولين إيرانيين، سادت التكهنات عن اتجاه الأمور إلى توسيع رقعة الحرب الدائرة، وانتشارها إلى ساحات أخرى، وقد سبق أن دعا قائد كتائب القسام محمد الضيف في بيانه الأولى عقب انطلاق عملية “طوفان الأقصى” إلى التحام جبهات المقاومة في سوريا والعراق واليمن ولبنان وإيران.
ومنذ أبريل/نيسان عام 2023، يؤكد قادة “حزب الله” وحماس على مبدأ “وحدة الساحات” بين الفصائل التي تقاتل الاحتلال على مختلف الجبهات، وكجزء من مواجهتها مع “إسرائيل”، طورت إيران سياسة ردع تقوم على إنشاء منطقة عازلة دفاعية في شرق البحر الأبيض المتوسط تضم عددًا من الحلفاء الإقليميين من غير الدول، ما يعني أن أي هجوم يستهدف البقاء السياسي والمادي للآخر، سيؤدي إلى صراع أوسع.
حرب متعددة الجبهات
وتتلاحق الحوادث على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية منذ اليوم التالي لإطلاق المقاومة الفلسطينية عملية “طوفان الأقصى”، منذرة باشتعال ما تسميها تل أبيب “الجبهة الشمالية”، وهي الجبهة المقابلة لنظيرتها الجنوبية مع قطاع غزة، وتوليها “إسرائيل” أهمية فائقة، وتعتبرها خطًا أساسيًا لأمنها.
ورغم الانتشار الكثيف لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) التي تراقب ما يعرف بـ”الخط الأزرق”، يتزايد القلق لدى الاحتلال الإسرائيلي دائمًا من وقوع اختراقات تقلب الحسابات، فخلف الحدود نحو 25 تجمعًا سكانيًا تبدو أهدافًا سهلة لـ”حزب الله” والفصائل المقاومة الفلسطينية في لبنان.
سيناريو اشتعال هذه الجبهة ظلّ حاضرًا منذ الساعات الأولى لطوفان الأقصى، وحدث ما توقعته “إسرائيل” بالفعل، فمع تصاعد حدة العدوان على غزة، إذ شهدت الحدود اللبنانية مع “إسرائيل” تدهورًا بطيئًا ومطردًا لقواعد اللعبة التي تم التوصل إليها في عام 2006 لإدارة الصراع بين “حزب الله” و”إسرائيل”، وأشارت المتحدثة باسم “حزب الله”، رنا الساحلي، بشكل خاص إلى زيادة حدة تبادل إطلاق النار عبر الحدود باعتباره “مجرد مناوشات” ويمثل تحذيرًا لـ”إسرائيل”.
وفي الآونة الأخيرة، بدت الرسائل العامة من قادة إيران بمثابة تأييد ضمني للجماعات المسلحة الإقليمية التي قد ترغب في الانضمام إلى الصراع، وتركوا الباب مفتوحًا أمام التدخل الإيراني المباشر، وبرَّر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ذلك خلال زياراته الأخيرة إلى سوريا ولبنان والعراق وقطر، معتبرًا أنه “من الطبيعي ألّا تسكت المجموعات الموالية لطهران في المنطقة على جرائم الاحتلال ودعم الولايات المتحدة الكامل للكيان الصهيوني”، مضيفًا “إذا قررت إسرائيل دخول غزة، فإن قادة المقاومة سيحولوها إلى مقبرة لجنود الاحتلال”.
ومع اتساع رقعة الحرب على غزة، تتسع الاحتمالات المفتوحة بين “إسرائيل” و”حزب الله”، إذ لا يكاد الهدوء يخيم لساعات على هذه الجبهة حتى يعود القصف المتبادل من جديد، وشهدت المنطقة ارتفاعًا في مستوى الضربات المتبادلة بين جيش الاحتلال و”حزب الله” ومقاتلين من كتائب القسام وسرايا القدس من جهة أخرى، وفي تطور هو الأول من نوعه، أعلنت جماعة “الفجر”، الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان، أنها استهدفت بالصواريخ مواقع إسرائيلية بالأراضي المحتلة.
ووسط ترقب لاحتمالات فتح جبهة جديدة ضد “إسرائيل” من لبنان، ألقى الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله خطابًا مطولًا لأول مرة منذ بدء الحرب على غزة، سبقه عدة مشاهد ترويجية، وحمل الكثير من التهديد والوعيد الموجه للإسرائيليين والأمريكيين بأن “كل الخيارات مفتوحة إذا ما استمرت الحرب”، وأن “التهديد بالأساطيل لا يجدي نفعًا”، مشيرًا إلى أن “إسرائيل سترتكب أكبر حماقة إذا هاجمت لبنان”، حسب تعبيره.
خطاب نصر الله الذي جاء مخيبًا لآمال الفلسطينيين وأنصارهم، أعاد الجدل حول ما يسمى “محور المقاومة” في الصراع العربي الإسرائيلي، واحتمالات التصعيد التي تأتي في ظروف حساسة، وجمعت تصريحاته بين الحذر والتهديد في محاولة لثني “إسرائيل” عن توجيه ضربة استباقية إلى “حزب الله”، ما يجعلها لا تفضل خوض معركة متعددة الجبهات في المستقبل القريب، كما أكد وزير أمن الاحتلال يوآف غالانت.
تتعزز الخشية الإسرائيلية مع تطور القدرات العسكرية لـ”حزب الله” اللبناني، إذ يمتلك قدرات عسكرية تفوق قدرات الجيش اللبناني نفسه، وأكثر تقدمًا بكثير من تلك التي تمتلكها حماس، من بينها صواريخ دقيقة سبق للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله أن صرّح أنها “تستطيع الوصول إلى جميع أنحاء إسرائيل”، بالإضافة إلى ترسانة كبيرة من الصواريخ والقذائف القادرة على ضرب البنية التحتية الإسرائيلية الحيوية وتدمير الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية بسهولة أكبر حتى من أقوى الضربات التي تشنها حماس.
ومع ذلك، يرهن الحزب تدخله المحتمل باستمرار القصف على غزة أو تنفيذ الاحتلال توغلًا بريًا واسعًا فيها، ويبقي هجماته عند مستوى منخفض حتى الآن رغم مواصلة الاحتلال عدوانه الغاشم على المدنيين في غزة الذي أودى – حتى الآن – بحياة أكثر من 9 آلاف من الفلسطينيين المدنيين، ثلثاهم من الأطفال والنساء.
ويرى مراقبون في ذلك محاولة لتشتيت أو إبعاد ما يكفي من قوات الاحتلال عن غزة وتخفيف الضغط على الفصائل الفلسطينية من أجل إحباط محاولات التقدم البري، وهو ما أكد عليه حسن نصر الله في خطابه، أو قد يكون جزءًا من خدعة هدفها إعطاء الاحتلال شعورًا زائفًا بالأمان في انتظار انخراط معظم القوات البرية الإسرائيلية في الزحف البري لتسديد ضربة أكبر في الشمال.
ويعني اشتعال الجبهة الجنوبية للبنان في حال حدوثه توسع دائرة الحرب، ووصولها إلى مآلات لا يمكن رصدها ولا توقع الأطراف التي ستدخل فيها، سواء عبر الدعم العسكري أم التدخل المباشر ربما، ما يجعل حرب عام 2006 تبدو كنزهة أمام ما هو منتظر.
استعدادًا لهذا السيناريو، أمرت “إسرائيل” بالفعل بإخلاء عشرات البلدات والمستوطنات القريبة من الحدود مع لبنان للحد من احتمال وقوع خسائر في صفوف المدنيين، وتحركت لنقل المخزون العسكري والمعدات إلى الحدود، معلنة جاهزيتها للقتال على جبهتها الشمالية، وهي مقاربة تبدو الآن بفعل “طوفان الأقصى” أمام اختبار صعب وعسير.
وفق خبراء لن يكون جيش الاحتلال قادرًا على فتح جبهتين في آن واحد، خاصة في ظل ما تكبده في عملية “طوفان الأقصى” غير المسبوقة، التي عرَّت مواطن ضعف المنظومة العسكرية والأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية، وأدَّت إلى أزمة سياسية وخلافات وتبادل اتهامات بالمسؤولية بين نتنياهو وقادة جيش الاحتلال.
السيناريو الآخر يشير إلى أن “حزب الله” لا ينوي الدخول في مواجهة حقيقية مع جيش الاحتلال، من شأنها أن تثقل كاهل لبنان المنهار اقتصاديًا وسياسيًا، مع الأخذ في الاعتبار شروع لبنان في أعمال التنقيب عن الغاز بموجب اتفاق ترسيم الحدود البرية مع “إسرائيل”، وأي استهداف إسرائيلي للحقول اللبنانية يعني تحميله مسؤولية الحرمان من موارد الطاقة.
ومع ذلك، يتصاعد التوتر يومًا تلو الآخر على الحدود الشمالية، بعد دخول أسلحة جديدة بمعارك “حزب الله” و”إسرائيل” من بينها استخدام الطائرات المسيرة المفخخة للمرة الأولى على مواقع جيش الاحتلال الإسرائيلي، في اختبار للخطوط الحمراء الإسرائيلية السابقة، حيث أدَّت الهجمات حتى الآن إلى مقتل وإصابة 120 جنديًا إسرائيليًا وتدمير 9 دبابات وإسقاط طائرة مسيَّرة بعدة عمليات عبر الحدود.
ودخلت جماعة الحوثيين في اليمن على خط الحرب لأول مرة، معلنة تنفيذ هجمات صاروخية وجوية عابرة للبحر الأحمر نحو الأراضي المحتلة كان آخرها يوم الثلاثاء الماضي، ما اضطر الاحتلال إلى إنزال السفن الحربية في منطقة البحر الأحمر، في إشارة إلى احتمالية توجيه ضربة إلى الأراضي اليمنية التي تسيطر جماعة الحوثي على أجزاء من شمالها، ومن ثم جر البلد إلى مربع يشمل الشرق الأوسط بأبحاره وأراضيه.
الحادثة ذكَّرت بتصريحات البنتاغون التي كشف فيها قبل أسبوعين أن سفينة حربية تابعة للبحرية الأمريكية تعمل في الشرق الأوسط اعترضت عدة صواريخ وطائرات مسيرة قال إنها أطلقت من اليمن باتجاه “إسرائيل” على الأرجح، مقابل استمرار صمت الحوثيين المدعومين من إيران.
وبين الحادثتين، يظهر هوس تل أبيب بإعلان نفسها المستهدَفة، والإعلان هنا له مآرب كثيرة، فـ”إسرائيل” سارعت بإعلان استهدافها قبل أن يتبين للجيش الأمريكي نفسه حقيقة الحدث، والأمر ذاته يتكرر مع الجانب المصري، فقد ادعت “إسرائيل” الشهر الماضي أن استهداف دباباتها لموقع عسكري مصري كان عن طريق الخطأ، والخطأ في رواية “إسرائيل” يحمل عدة أوجه.
ولم تكن الجبهة السورية كذلك أقل سخونة، حيث تستمر “إسرائيل” بتوجيه ضربات تستهدف بشكل شبه يومي بنى تحتية ومواقع عسكرية داخل سوريا، فبعد يومين من القصف الإسرائيلي الذي أدَّى إلى خروج مطاري دمشق وحلب من الخدمة بدعوى منع إيران من نقل الأسلحة والذخائر جوًا، استهدفت الغارات الإسرائيلية اللواء 12 في درعا ردًا على ما قالت إنه “قصف من الأراضي السورية” على الجولان السوري المحتل.
ووسط مخاوف من أن تتسع دائرة الضربات لأهداف ومواقع جديدة داخل سوريا بسبب انتشار الميليشيات التابعة لإيران و”حزب الله” واستمرارها في استخدام الأراضي السورية، وضع قائد “فيلق القدس” إسماعيل قآني جميع الفصائل الموالية لإيران في سوريا في حالة تأهب قصوى، وفي وقت سابق، تحدثت مصادر عن دخول أعضاء في قوات الحشد الشعبي العراقي إلى لبنان وسوريا بالتزامن مع تشكيل “غرفة عمليات للمقاومة” من 3 بلدان، إلى جانب حركة “حماس”.
250-500 Iraqi PMF fighters made it to Syria and Lebanon, to participate if any large scale conflict occurs with Israel. #Iraq
— Tammuz Intel (@Tammuz_Intel) October 16, 2023
احتمالات المواجهة المباشرة
المواجهة المباشرة بين “إسرائيل” وإيران ليست مجرد سيناريو افتراضي، فقد كان الصراع بينهم يحدث قبل فترة طويلة من الحرب الحاليّة بين “إسرائيل” وحماس، ولعقود من الزمن انخرطت “إسرائيل” وإيران في “حرب الظل” التي دارت رحاها على الأرض وفي الجو والبحر.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للولايات المتحدة، فالصراع المديد بين طهران وواشنطن يجعل الحديث عن توسع رقعة الحرب بدونهما لا يستقيم، فمنذ الساعات الأولى لطوفان الأقصى، بدأ الحديث عن دور إيراني في التخطيط للعملية وإعطاء الضوء الأخضر لتنفيذها.
طهران نأت بنفسها عن هذه المزاعم، مكتفية بتثمين عمل المقاومة، وظل موقفها ضبابيًا بشأن احتمال الدفع بـ”حزب الله” لفتح المواجهة مع جبهة مع “إسرائيل” الشمالية أو انخراطها بشكل مباشر، لكن القادة الإيرانيين بعثوا برسائل تحذير لنظرائهم الأمريكيين أضافت المزيد من التكهنات عن ما يسمى بـ”فتح الجبهات”، خاصة من لبنان وسوريا.
الولايات المتحدة ليست بعيدة عن تبعات إشعال الحرب في المنطقة، فهي تتمتع بوجود عسكري مترامي الأطراف في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
واشنطن بدورها هددت برد حازم في حال المس بمصالحها في المنطقة، معززة وجودها في شرق المتوسط بأكبر حشد عسكري منذ الحرب على داعش، آخره الحديث عن إرسال قوة الرد السريع إلى الشرق الأوسط، في سعي لتطويق الشرق الملتهب قبل أي انفجار يهدد النظام العالمي الذي نصَّبت أمريكا نفسها حامية حماه وهي تقود القطب الواحد أمام قوى تنازعه الهيمنة وتطمع أن تقاسمه النفوذ والسيطرة.
ولم تتردد الولايات المتحدة في إعلان دخولها على خط الدعم غير المشروط بهذه الكثافة منذ اليوم الأول لبدء العدوان الإسرائيلي على غزة، فقد وصل الدعم إلى تحريك حاملات الطائرات بكل ما عليها، وأرسلت أحد أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية الأكثر تقدمًا “ثاد” وكتائب إضافية من نظام صواريخ “باتريوت” إلى المنطقة، ردًا على ما وصفه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بـ”التصعيد الأخير من جانب إيران والقوات التابعة لها” في سوريا ولبنان والعراق.
سبق كل ذلك، إغراق الولايات المتحدة البحر الأحمر بقواتها العسكرية منذ منتصف العام، لكنها اتخذت وتيرة أسرع مع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، ففي مطلع أغسطس/آب الماضي، أرسلت واشنطن إلى البحر الأحمر 3 آلاف جندي، فيما قالت إنه لتعزيز حضورها العسكري في المنطقة وتحجيم حضور إيران، الأمر الذي يثير عدة تساؤلات بشأن التصعيد في البحر الأحمر وارتباطه بالأحداث في غزة، أو كونه أبعد من ذلك.
هذه التحركات يبقى الغرض منها وفق الرؤية الأمريكية منع اتساع دائرة الحرب وتجنب تكلفتها السياسية والاقتصادية، ويبدو أن إيران فهمت الرسالة، فقد حذر وزير خارجيتها من تحول الصراع إلى حرب إقليمية مفتوحة في ظل التدخل الأمريكي، وتمادي “إسرائيل” في عدوانها على المدنيين في غزة، وعلت نبرة التهديدات الإيرانية في تصريحات قائد الحرس الثوري الإيراني الذي اتهم واشنطن بالسعي لتغيير المعادلات وإشعال حرب في المنطقة، وقال إن “إسرائيل ستحترق بالنار التي أشعلتها في غزة، والإسرائيليين سيُدفنون في القطاع إذا ما أقدموا على اجتياحه بريًا”.
وفي حين يُنظر إلى “إسرائيل” باعتبارها الوكيل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة ليست بعيدة عن تبعات إشعال الحرب في المنطقة، فهي تتمتع بوجود عسكري مترامي الأطراف في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولديها قوات في الكثير من الدول مثل سوريا والعراق، وأصبح هذا الوجود العسكري في المنطقة من نقاط ضعفها الواضحة بعد اندلاع الحرب على غزة.
والآن، في أفضل الأحوال، تسعى واشنطن جاهدة للرد على عمليات استهداف لتمركزاتها العسكرية ومصالحها الاقتصادية في المنطقة، ففي العراق، تعرضت القوات الأمريكية لهجومين منفصلين أصابا بعض الجنود الأمريكيين، وجاء الهجوم الأخير في سوريا ردًا على استهداف فصائل المقاومة العراقية قاعدة التنف التي تعسكر بها قوات أمريكية على الحدود السورية
وفي الوقت الذي ترد فيه القوات الأمريكية والإسرائيلية على الهجمات القادمة من سوريا والعراق، تكتفي الدولتان بالدفاع والتصدي للهجمات القادمة من اليمن، وهو موقف يعكس مخاوف حقيقية من توسع رقعة الحرب ورغبة أمريكية في إبقاء الحوثيين خارج معادلة الحرب الجديدة التي أفرزها العدوان الغاشم على غزة.
لكن تصاعد هجمات الحوثيين وتبنيهم الرسمي لها واعتراض السعودية صواريخ حوثية كانت في طريقها إلى “إسرائيل”، كلها تطورات تضع واشنطن أمام تحدٍ جديد قد يدفعها للتخلي عن دورها الحالي إلى التورط مباشرة في حرب إقليمية في الشرق الأوسط.
في المقابل، يبدو موقف السعودية أكثر تعقيدًا، فالعودة إلى الحرب مع الحوثيين تعرِّض علاقتها الجديدة مع إيران للخطر، وستجد نفسها مجبرة على استكمال مسار التطبيع واتخاذ موقف من الحرب على غزة يتسق مع الرؤية الأمريكية.
الأهم من ذلك أن طهران يمكن أن تتوقع بقاء شركائها من القوى العظمى خارج الصراع، بل وربما ترحب روسيا بتزايد عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وتورط الولايات المتحدة في صراع آخر في المنطقة وإضعاف تحالفاتها مع الدول العربية، وتعتبر الحرب مجرد ملهاة عن أعمالها التدميرية في أوكرانيا، واستنزافًا للموارد الأمريكية العسكرية والمالية والدبلوماسية المتاحة لمساعدة المجهود الحربي في أوكرانيا.
دخول روسيا على الخط خلط الأوراق أكثر، وما كانت تخشاه تل أبيب أصبح واقعًا لا محالة، فحبل الود مع موسكو قد ينقطع، ولم يعد يمكنها اللعب على الحبلين، وقد تنحدر العلاقة المحسوبة والمتوازنة بين البلدين مع موافقة النظام السوري على تسليم “حزب الله” نظامًا دفاعيًا صاروخيًا روسيًا عبر مجموعة مقاتلي فاجنر، لكن ليس من الواضح أن النظام الصاروخي قد تم تسليمه بالفعل أو اقترب وقت تسليمه.
موجة السخط الإسرائيلي على ما يبدو دفعت إلى إيقاف الخط الساخن مع موسكو بشأن العمليات في سوريا بحسب وكالة “بلومبرج” الأمريكية التي أشارت إلى أن “إسرائيل” لم تعد تخبر روسيا بالهجمات التي تشنها على الأراضي السورية رغم تكثيف الضربات ضد الميليشيات الإيرانية والمطارات السورية منذ بدء العدوان على غزة، وسط مخاوف من ظهور سوريا كجبهة جديدة في حرب غزة.
في المجمل، يمكن أن يؤدي فتح المزيد من الجبهات، واستمرار المناوشات بين “إسرائيل” وإيران ووكلائها في الشرق الأوسط، ناهيك عن حرب واسعة النطاق، إلى زعزعة استقرار المنطقة، وتعطيل الأسواق العالمية، والتسبب في أضرار جسيمة للمدنيين، وجر القوات الأمريكية إلى ساحة المعركة، وربما حتى دفع إيران إلى تسليح قدراتها النووية.
وسوف يتحدد مدى التحول في الديناميكيات في الشرق الأوسط الذي أحدثته عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول من خلال قدرة الولايات المتحدة واستعدادها لكبح جماح “إسرائيل”، وما لم تمارس الضغوط على حكومة الاحتلال الإسرائيلية لحملها على وقف الحرب على غزة ورفع الحصار والبدء في التفاوض مع الفلسطينيين، فإن الحرب على غزة ستشعل الشرق الأوسط.