لقد باتت الأراضي السورية اليوم ملعبًا للعديد من الفصائل المسلّحة السورية وغير السورية، وأصبح عدد المقاتلين المتصارعين في الثورة وعليها – من الداخل والخارج – هائلاً، لدرجة لا تسمح بظهور أفق واضح للصراع تتضح فيه بعض مآلاته المرحلية، ووسط النيران ثمة بلد اسمه “سوريا” يُدمّر ويُخرّب تمامًا، وصارت الدماء هباءً منثورًا، وأصبح الجميع مطاردًا، إما من الموت أو الاعتقال والتعذيب، ومن كُتبت له النجاة منهما فلا مفرّ له من التشرّد، هذا البلد الذى تفككت تركيبته الاجتماعية بما لا يسمح – ربما – بعودته مرة أخرى بذات الصورة التي كان عليها من قبل.
حتى اليوم يُقدّر عدد الوفيات المسجلة فقط بمائة وثلاثين ألف سوري، ما يقارب من 80% منهم من المدنيين، كما يقدر عدد المفقودين بـ 800 ألف مواطن سوري، وعدد النازحين السوريين داخل سورية جرّاء المعارك وصل إلى 6 ملايين سوري، فى الوقت الذى بلغ فيه عدد اللاجئين المسجلين فقط إلى خارج سوريا 3.5 مليون سوري، يتوزعون على عدة دول على رأسها: لبنان، الأردن، تركيا، العراق، مصر، وبعض دول شمال أفريقيا، وعدد قليل فى بعض الدول الأوروبية.
وبالرغم من هذا الوضع المأساوي والذى وصفته الأمم المتحدة بأنه “أكبر أزمة إنسانية تواجهها فى تاربخها منذ تأسيسها” إلّا أن الجميع يبدو حتى اللحظة لم يكتفِ من المعاناة بعد، والتى أصبح أحد مسبباتها الرئيسة: هى نيران التطرف التى تنهش فى “الثورة السورية” (هذا المصطلح أصبج فى حاجة إلى تحرير) والتى أدّت إلى هجرة عدد غير قليل من المؤسسات الإغاثية بخدماتها الإنسانية خلال الشهرين الماضيين (أغلق اتحاد الأطباء العرب مستشفاه المركزى فى شمال حلب تمامًا وأخرج فريقها إلى تركيا منذ عدة أسابيع نتيجة الصراع الدائر بين “داعش” والفصائل الأخرى) هذا المستشفى المتكامل الذى يحتوى على 4 غرف عمليات، 4 غرف رعاية مركزة، و70 سريرًا طبيًا، فضلا عن قسم الأشعة والتحاليل الطبية، والعيادات الخارجية والصيدلية، وغيره، وتجاوز عدد المرضى والجرحى المستفيدين منه – منذ إنشائه فى أغسطس 2012 – إلى 60 ألف سوري، ليتوقف هذا العمل الهام للغاية وتُغلق المستشفى تمامًا، ويعود فريقها في ظل الخطورة الشديدة على حياتهم وحياة المترددين عليها.
تُعد جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام “داعش” طرفي الصراع الرئيسيين، هذان التنظيمان دائمًا ومنذ تأسيسهما كانا – ومازالا- بؤرة دائرة الاتهام بالتطرّف الديني والفكري، الذى انعكس على أدائهما العسكري، ومعاملاتهما مع المدنيين في عدة أنحاء من المناطق المحرّرة، ليطلقا شرارة الانقسامات والاقتتال بين الفصائل المسلحة منذ بضعة أشهر والذي أودى بحياة 1500 مقاتل حتى الآن على مدار ثلاثة أشهر فقط من كلا الطرفين.
(داعش ومعها الحليف الوحيد “جيش المهاجرين والأنصار” بقيادة أبي عمر الشيشانى القيادى السابق في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق في طرف، وجبهة النصرة ومعها كافة الفصائل المسلحة الأخرى ومنها الكتائب التابعة للجيش السوري الحر في الطرف الآخر)، وأدى هذا الاقتتال إلى تراجع العمل العسكري العملياتي ضد النظام كثيرًا مقوّضًا كافة مسارات “الثورة السورية” ليصبح عبئًا ثقيلاً على كاهل الثورة ومستقبلها، وتُصبح القضية الأهم على الساحة الآن التي تقتضي حلاً سريعًا من أجل نجاة “الثورة” ذاتها، خاصة وأن أطراف الصراع الرئيسيان ليسوا سوريين بالأساس، ولا تقتصر أجندتهم أو امتدادهم التنظيمي على الداخل السورى، مما يُعقّد الحلول بل ويُزيد اتساع دائرة الصراع يومًا بعد يوم، هذا الصراع الذى جاء نتيجة نشأة “داعش” الضارّة التى جاءت على حساب الجميع – بما فيهم الفصيل الذى كان يُعد الحليف الأقوى والأقرب لها – لتنتشر معه ممارساتها الإقصائية التى تمثّلت بالأساس في السعي للانفراد بقيادة المشهد العسكري، وفرض تبعية الفصائل الأخرى لها تنظيميًا، فتسعى إلى فرض بيعة الجميع للبغدادي، وتكفير كل من يرفضها، بالإضافة إلى ممارساتها المتطرّفة للغاية فى التضييق على المدنيين تحت زعم “تطبيق شريعة الإسلام” (فرض الحجاب فى المناطق المحررة، منع الاختلاط الطبيعى، تطبيق الحدود بتطرّف وتوسّع شديدين “تصل إلى جلد من تفوته صلاة الجمعة 25 جلدة على الملأ”) تلك الممارسات التى تطورت إلى تكفير تبعه قتال بعض فصائل المعارضة المسلحة وعلى رأسها الجيش السوري الحر لينتقل لغيره من الفصائل التي لفظتها ورفضت ممارساتها.
داعش … القطة التى أكلت ابنتها
بعد مقتل “أبي مصعب الزرقاوي” في يونيو 2006 في ديالي بالعراق، والذي كان قائد تنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” الذي يتبع تنظيم القاعدة وولاءه لابن لادن، تأسس تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” في أكتوبر 2006 بقيادة “أبي بكر البغدادي” وما لبث أن أعلن البيعة لأبي عمر البغدادى أمير مجلس شورى المجاهدين في العراق في ذلك الوقت والذي يتكوّن من ثمان جماعات مسلّحة تواجه أمريكا في العراق منذ بداية الغزو عام 2003 والذي كان أميره من قبل “أبو مصعب الزرقاوي”.
قُتل “أبو عمر البغدادي” في أبريل 2010 على يد القوات الأمريكية فى العراق، ليُعلن تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق عن تولي “أبي بكر البغدادي” – أبو دعاء – إمارة التنظيم خلفًا لأبي عمر، والذى يعد أحد أبرز قادة القاعدة في العراق منذ عام 2006 وشكّل تهديدًا حقيقيًا للقوات الأمريكية بخبراته العسكرية العالية، الأمر الذي دفع أمريكا إلى محاولة اغتياله عدة مرات منذ عام 2006، إلا أنها فشلت على مدار خمسة أعوام واضطرت إلى الإعلان في عام 2011 عن مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يقتله أو يدلي لها بمعلومات عنه، وعلى مدار فترة إمارة “أبي عمر البغدادي” كان “أبو بكر” هو القائد التنفيذي للتنظيم القائم على كافة أعمال التخطيط والتنفيذ للعمليات الميدانية في العراق مكبدًّا القوات الأمريكية والعراقية خسائر فادحة على مدار عدة سنوات، وهو ما استمر بعد خلافته لأبي عمر منذ عام 2010 حتى يوليو عام 2013 مع بدء دخوله ساحة القتال فى سوريا.
أبو محمد الجولاني (اسم غير حقيقى) مقاتل سابق في القاعدة شارك في القتال ضد القوات الأمريكية في العراق مع رفيقه “أبو بكر البغدادي”، كانت مهمّة الجولاني بالأساس – منذ بداية غزو العراق – تنحصر داخل الأراضي السورية، وتتمثّل في تيسير إرسال المقاتلين الراغبين في المشاركة في القتال عبر سوريا إلى العراق بالتنسيق مع البغدادى في العراق، واستمر كذلك إلى أن تم اعتقاله عام 2008 من قبل الحكومة السورية في سجن صيدنايا هو وابنه، ثم أطلقت الحكومة السورية سراحه بعد بداية الثورة في 20 يونيو عام 2011 في العفو الذي صدر عن بعض المعتقلين السياسيين فيما بقي ابنه في السجن، ليذهب فور خروجه إلى رفيقه “أبي بكر البغدادي” في العراق ليعرض عليه خطتة في تأسيس “جبهة النصرة لأهل الشام” -ما تسمى اختصارًا بـ”جبهة النصرة” – وتوسيع العمليات الجهادية للقاعدة في سوريا، ليشجّعه على المشاركة في ساحة “الجهاد” فى سوريا ضد نظام الأسد وطلب منه الدعم بالمقاتلين والسلاح، وهو ما استجاب له البغدادي ليتعاونا في تأسيس الجبهة في يناير 2012 ويتولّى الجولاني قيادتها.
تتراوح قوة الجبهة ما بين سبعة إلى ثمانية آلاف مقاتل، تكوّنت في بدايتها من المقاتلين الذين أرسلهم البغدادى إلى سوريا، ليكونو نواة “الجبهة” تحت قيادة الجولاني، ثم خلال بضعة أشهر قليلة نجح الجولاني في تطعيمها بمقاتلين سوريين جدد، ثم أضيف إليهم “المهاجرون” من مقاتلين القاعدة من عدة جنسيات مختلفة: عرب، أتراك، أوزبك، شيشانيين،وطاجيك، وقلة من الأوروبيين، ممن لهم باع طويل فى الحروب ضد الجيوش النظامية في أفغانستان والشيشان، تتراوح أعمارهم من 18 إلى 50 عامًا، لتصبح الجبهة الفصيل الأقسى على النظام من حيث القدرات القتالية العالية والتسليح النوعي، وبدأت عملياتها في دمشق وحلب ثم توسّعت لتشمل أغلب الأراضي السورية، لتصبح الفصيل الأبرز على مستوى كافة الفصائل المسلحة داخل سوريا وتقود أغلب العمليات النوعية ميدانيًا.
في أبريل 2013 “أعلن أبو بكر البغدادي” قائد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق عن دمج تنظيمه مع جبهة النصرة ليصبح “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” ما يطلق عليه “داعش”، هذا القرار الذى يعد البداية الحقيقية لتنظيم الدولة المشاركة فى الساحة الجهادية السورية – تنظيميًا – بعد أن وجد أن هناك حاجة لقيادة العمل الجهادي، والقضاء على الأطراف التى تسيء بممارساتها إلى الجهاد والإسلام (انتهاكات بعض الفصائل لحقوق المدنيين، وعدم الالتزام الدينى أو تطبيق الشريعة فى المناطق المحررة) وهو ما لقي رفضًا شديدًا من الجولانى الذى أصرّ على الفصل بينهما، واعتبر الدمج يضر كثيرًا بالتنظيم وبدور الجبهة على الساحة الجهادية في سوريا، إلاّ أنه أمام إصرار البغدادي انتهى الأمر بعدم التوافق، وبدء حدوث انشقاقات فى الجبهة تلاه هجرة جماعية للمقاتلين خاصة الغير سوريين من النصرة إلى “داعش”، حيث عاد الذين أرسلهم البغدادي فى بداية التأسيس إلى أميرهم الحقيقي، وقد كان هؤلاء يشكّلون القوة الرئيسة المتماسكة للجبهة، نظرًا لخبراتهم القتالية العالية، وانضباطهم العالى تنظيميًا؛ وهو ما أدى إلى تراجع الجبهة كثيرًا أمام داعش وانكماش قدراتها القتالية، وتصدّع تنظيمها بعد أن وجد الجولاني نفسه محاطًا بالمقاتلين السوريين والقليل من المهاجرين، الذين انضموا حديثًا بعد تأسيس الجبهة، هذا بالإضافة إلى فقده للدعم الذى كان يتلقاه باستمرار من البغدادي، فضلاً عن أن السوريين الذين انضموا إلى جبهة النصرة بعد تأسيسها أفسدوها بخبراتهم القتالية المحدودة وضعفهم التنظيمي وسوء انضباطهم، وقد تجلّى ذلك في ممارسة بعضهم بعض أعمال الاستيلاء على المعامل والمصانع والمنشآت الاقتصادية، مما جعل الحاضنة الشعبية لجبهة النصرة تتآكل تدريجيًا لصالح تنظيم “الدولة” الذى تميّز بالنظام والانضباط الشديدين، فضلاً عن الخبرات القتالية والتسليح العاليين، الأمر الذى زاد شعبيته بعد أن أثبت قدرته على توفير الأمن للأهالي وتيسير العديد من الخدمات المعيشية لهم (الخبز والوقود).
بعد فترة قصيرة بدأت تظهر الممارسات المتطرّفة لداعش على مستوى تحكّمها فى المناطق المحررة الخاضعة لسيطرتها وسعيها لتطبيق الشريعة الإسلامية وفق فهمها، لتحتل منابر المساجد وتبدأ في سن بعض القوانين “الشرعية” وفرضها بالقوة على المواطنين (فرض الحجاب، منع الاختلاط، تحويل كافة الكنائس إلى مقرات لهم، وبدء تطبيق الحدودة بقسوة شديدة) وهو الأمر الذي كانت الجبهة تمتنع عنه بدرجة واضحة اتباعًا لقاعدة (لا تطبيق للحدود في غياب الحاكم)، ومع استمرار تلك الممارسات التى كانت تتطور يوما بعد يوم، ويزداد توسعها لتنتقل أيضًا إلى بعض الفصائل المسلحة، التي كانت تراها “داعش” واقعة في مخالفات شرعية حادة تقتضي التدخل الفوري لتبدأ في مواجهتها وفرض البيعة للبغدادي عليها وتكفير كل من يرفضها وقتاله.
كانت أول مواجهات لداعش في سوريا مع الجبهة بعد أن رفض الجولاني الاندماج، لتبدأ داعش في عملية “استعادة” الدعم الذي كان البغدادى يمد به الجبهة سابقًا، فتستولى على مقرات الجبهة ومخازن الأسلحة، في محاولة لتثبيت نفوذها في سوريا في أسرع وقت، في البداية سعى الجولانى جاهدًا فىيمحاولات تفاوض مع البغدادي للتصالح والوصول لتصور يرضي الطرفان ويمنع المواجهات بينهما، حيث كان يرى أن مواجهته لداعش فتنة كبرى تشغلهم عن عدوهم الحقيقي، كما كان قلقًا من فقده لرضا التنظيم الدولي للقاعدة الذي يوفر له مظلة شرعية يحتاجها على الساحة الجهادية إذا ما أعلن الحرب على داعش التي تمثل القاعدة منذ سنوات فى العراق، ولكن باءت كل محاولات الجولاني بالفشل، حتى بعد تدخّل الظواهري في محاولة للإصلاح والتي كانت فى صالح الجولاني، حيث رأى الظواهري أن يعود البغدادي للعراق ويظل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق كما هو ويترك الجبهة كما هى تقوم بمهمتها الجهادية فى سوريا، وهو ما لم يستجب له البغدادي، ودخل فى مواجهات شرسة مع الجبهة لم تترك للجولاني غير البدء فيها، ليحدث أول انشقاق داخل تنظيم القاعدة تاريخيًا، وتبدأ داعش في محاولة ابتلاع الجبهة بكل شراسة.
– قبل اعتقال الجولاني عام 2008 ومنذ عام 2004 مع بداية عمله مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق بقيامه بإمداد التنظيم داخل العراق بالمجاهدين، كان يقوم بهذا العمل تحت أعين المخابرات السورية ومن عاصر تلك الفترة شهد أنّ كل المجاهدين التابعين لتنظيم الدولة في العراق كانوا يأتون إليها عبر سوريا مباشرة من عدة دول، لا يواجهون أية عقبات سواء في دخول الأراضي السورية أو منها إلى العراق بمساعدة الجولاني في سوريا والبغدادي في العراق.
– قامت الحكومة السورية بالإفراج عن الجولاني مع الاحتفاظ بابنه فى يونيو عام 2011 كما ذكر من قبل بالرغم من علمها التام بتاريخه الجهادي في القاعدة، ليذهب بعد ذلك إلى “البغدادي” في العراق طالبًا الدعم العسكرى لتأسيس الجبهة، الأمر الذي كان متوقّعا بدرجة كبيرة.
– منذ أن بدأ الخلاف بين البغدادي والجولاني تغيّرت ممارسات النظام السوري مع داعش، لتتحوّل إلى تقديم الدعم الغير مباشر لها سعيًا في تثبيتها على الساحة “الجهادية” السورية، بعد أن أصبحت طرفًا أساسيًا في قتال “النصرة” وأغلب فصائل المقاومة السورية، لتشكّل بذلك عصى غليظة لها على الثورة السورية، تمثّلت تلك الممارسات فى إيقاف استهداف مواقعها العسكرية ومقرّاتها بهجمات الجيش السورى -إلا فيما ندر- فاتحًا لها المجال في عدة مناطق للحصول على الأراضي السورية، واستيلائها على عدة مخازن للسلاح التابعة للنصرة ولبعض الفصائل الأخرى بل وللجيش السورى نفسه، وذلك عبر عملياتها التى كانت تتم بمقاومة متواضعة من الجيش السوري، بل وصل الأمر إلى دعمها عسكريًا في قتالها للجبهة وحلفائها، مستخدمًا القصف الجوي لتوفير غطاء لها، ويمهّد لها الاستيلاء على مناطق محرّرة تحت سيطرة غيرها من الفصائل، حيث تستهدف داعش بالأساس مقرات الجبهة ومخازن أسلحتها (قام طيران النظام مؤخّرًا بقصف قوّات الفصائل المسيطرة على مدينة الباب في حلب والتي كانت تحاصرها قوات “داعش” في محاولة لاقتحامها والسيطرة عليها، وهو ما مهّد الطريق لها بالفعل لتنجح فى ذلك) هذا بالإضافة إلى استهداف طيران النظام لقوات “جيش المجاهدين”، جبهة ثوار سورية” و”الجبهة الإسلامية” (الفصائل الرئيسية التي تواجه تنظيم الدولة) في مناطق متفرّقة في ريف حلب وإدلب، لتقويض قدراتها وإضعافها لصالح “داعش” وتكثيف استهدافه مقراتها ومواقعها العسكرية.
كل ما سبق من ملابسات مريبة – سواء فيما تعلّق بنشأة تنظيم الدولة وعلاقته بالجبهة، أو أدائه العسكري – يثير شكوكًا حقيقية تجاه الدور الذى تلعبه داعش على الساحة “الجهادية” السورية وتبعاته على مستقبل الثورة السورية، لنجد أنفسنا أمام نتيجة واضحة مؤكّدة وهى: أن هذا التنظيم أصبح شوكة ضارة في ظهر الثورة السورية، نزعها يعد أولوية حاليًا وخطوة أساسية للمضي قُدمًا.
تلك الملابسات فسّرها البعض وفق نظرية المؤامرة الكلاسيكية بأنها ظاهرة مخابراتية بالأساس أطلقها النظام السوري والمخابرات الأمريكية (على غرار ما فعلته الحكومة العراقية والمخابرات الأمريكية في العراق مع المقاومة العراقية) ليشق “الصف الجهادي” ويثبت تهمة التطرّف على المعارضة في سوريا مما يعزّز موقفه التفاوضي خاصة قُبيل جنيف 2، إلّا أن إشكالية هذا التفسير أنه لا ينتبه لحقائق هامة ويختزل “داعش” في بعض الممارسات ويجعلها مجرّد “أداة” يستخدمها النظام السوري فى ترجيح كفّته ودعم موقفه السياسي والعسكري، وهو ما يدفع بعيدًا نحو تجاهل جذور المشكلة الحقيقية حتى يمكّن من بناء استراتيجيات متماسكة واضحة فى مواجهته، كما أن هناك عدة شواهد تُضعف فرص هذه الرؤية أهمها: ما حدث فى العراق بين تنظيم الدولة والمخابرات الأمريكية (سيأتى ذكره لاحقًا)، والتوسع التنظيمى لداعش من خلال سعيها لضم بعض الحركات الجهادية في المنطقة لتعزيز موقفها أمام “القاعدة” دوليًا، فضلاً عن أن جبهة النصرة كانت ستكون الأحق بإلقاء تهمة كهذه على “داعش” بالتأكيد، وهو لم تشر إليها بأي طريقة مطلقًا، حيث عاصرت تمامًا تاريخ تنظيم الدولة منذ نشأته وحتى تحولها تنظيميًا إلى داعش، تعلم جيدا ظروف النشأة والتكوين لها وطبيعة موقفها من النظام السوري وأمريكا، هذا بجانب الاهتمام الذي حظى به هذا الانقسام من القيادة العليا للقاعدة متمثّلة في “أيمن الظواهري” الذي حاول عدة مرات حل الخلاف بين داعش والجبهة، وهو ما انتهى إلى تصوّر يصب في مصلحة النصرة وهو ما رفضته داعش تمامًا وأصرّت على مواقفها، وقد تدخّل الظواهري لإدراكه مدى خطورة مثل هذا الانشقاق – الذي يعد بالأساس الانشقاق الأول في صفوف تنظيم القاعدة – على مستقبل التنظيم الذي طالما تميّز بتماسكٍ خاص، حتى بالرغم من الانفصال التنظيمي لفصائله في أغلب الأوقات وهو ما يحدث لأول مرة بهذه الحدة والعداء على مدار تاريخها.
بالتأكيد لا يمكن إنكار حجم استفادة النظام السورى من ظهور داعش وسعيه لاستغلال هذا الوضع لصالحه بما يشوّه الثورة السورية ويُضعف كثيرًا الموقف التفاوضي للمعارضة، وقبل ذلك يقوّض الإنجازات العسكرية لها ميدانيًا، إلّا أنه لم يتّبع الطريقة المخابراتية الكلاسيكية على غرار نشأة “الصحوات” السنيّة في العراق، بل اتبع سياسة مغايرة تمامًا وهى سياسة التحكّم وليس الامتلاك أو السيطرة، التحكّم فى توجيه “الأهداف والطموح” لدى البغدادي والتركيز على المساحات المشتركة في الأهداف بغض النظر عن الدوافع والأسباب، وعمل على تحقيق ذلك عبر التحكم في معادلتين رئيسيتين هما: معادلة التسليح، والنفوذ على الأرض، وقد نجح حتى الآن إلى حد كبير في توجيه الصراع بما يضمن تكبيد الجميع أكبر قدر من الخسائر، ليُلحق ضررًا بالغًا بكافة مسارات القضية: الحراك الثورى، العملية السياسية، والعمل العسكري، بل أصاب الثورة بالفعل بوصمة التطرّف وأصاب أغلب الفصائل المسلّحة في مقتل بالدفع بها في صراعٍ شرس للغاية يستنزف مواردها ويوقف تقدّمها.
يمتلك النظام السورى خبرة عالية في التعامل مع الجماعات الجهادية على غرار “داعش” وجبهة النصرة، تلك الخبرة التى اكتسبها مؤخّرًا منذ بداية غزو العراق وما بعده، وشارك تنفيذيًا فى إحياء ودعم عدد من تلك الجماعات، التى كانت – وما زالت – تحقق عدم الاستقرار “اللازم” في العراق حتى يومنا هذا، وفى ظل هذا المشهد العبثي للغاية الذي وصلت إليه سوريا تبقى كافة الخيارات مفتوحة وواردة من الجميع بما يجعل محاولات التنبؤ بما هو قادم أمرًا معقّدًا للغاية في ظل التسارع العنيف للأحداث، وكثرة وتنوّع الأطراف المتصارعة ومستوى التعقيد والتركيب في الصراعات الدائرة، التي تجعلنا نرى عدة صراعات بين عدة أطراف تتقاطع في مساحات متباينة، ويحيط بكل ذلك من كل جانب رحلة المعاناة اليومية لملايين من البشر ممن أصبحت لديهم الحياة هي العناء، والموت هو الهناء والراحة والنجاة من هذا الجحيم.
تكرار سيناريو العراق
يوجد تشابه كبير بين طبيعة صراع “داعش” مع الفصائل الأخرى – وعلى رأسها النصرة – وبين صراعها السابق في العراق مع العديد من فصائل المقاومة العراقية، على مدار عامين كاملين منذ نهاية عام 2006 وحتى نهاية 2008، دارت رحى المواجهات بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والذي كان يقوده آنذاك “أبو عمر البغدادي” – كما ذُكر سالفا – وبين عشائر الأنبار، مثل: الجيش الإسلامي في العراق، حماس العراق، جماعة أنصار السنة، كتائب ثورة العشرين، جيش الراشدين، وغيره من فصائل “الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية” بالإضافة إلى أجنحة “الإخوان المسلمين.
اشتعلت تلك المواجهات بسبب إفراط تنظيم الدولة الإسلامية في الممارسات المتطرّفة كتعمّد استهداف المتطوعين في الجيش العراقي والشرطة العراقية، واستهداف أي فصيل يتعاون مع الحكومة العراقية على أي مستوى واتهامه بالعمالة والخيانة، الأمر الذى دفع “ابن لادن” في ذلك الوقت إلى التدخّل ومطالبة “البغدادي” بالتراجع عن مثل تلك الممارسات ونبذ التعصب والتطرف وهو ما فعله “الظواهري” أيضًا، إلّا أن ذلك لم يلق صدى لدى البغدادي الذى استمر في ممارساته، التي دفعت فصائل الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية إلى الاصطفاف في مواجهته وحلفائه، بعد أن أدرك الجميع أن هذا التنظيم فتح باب تشويه المقاومة العراقية، واستمراره سوف يؤدي إلى إلحاق الضرر البالغ بالمقاومة ومستقبل العراق.
كان هذا الصراع على أعين القوات الأمريكية، التي وجدت استفادة كبيرة من تأجيج الصراع بين تنظيم الدولة التي كانت ترى فيه خطرًا وتهديدًا حقيقيًا عليها وبين باقى فصائل المقاومة، التي أيضًا كانت تُكبّد القوات الأمريكية خسائر فادحة، ورأت أن استمرار هذا الصراع يحقق لها عدة مكاسب أهمها:
- أنه يخفف وطأة المواجهات عليها، ويحد من الخسائر التي تلقاها على أيدي تنظيم الدولة والمقاومة العراقية، بما يعطيها متنفسًا لإعادة تنظيم صفوفها.
- ضرب المقاومة العراقية في مقتل بتثبيت تهمة التطرف عليها، وتفتيت المقاومة باستنزافها في صراع داخلي يبعدها عن مهمتها الأساسية في مواجهة القوات الأمريكية.
ولم تكتفِ المخابرات بالمشاهدة فقط بل قرّرت التدخّل في هذا الصراع بما يضمن استمراره حتى يتحقق لها مرادها، فقامت بتطعيم الطرف الذي يواجه تنظيم الدولة بقوات “الصحوات” وهي مجموعات مسلحة – منها بعض البعثيين – كانت تقاتل مع القاعدة ومع فصائل المقاومة الأخرى منذ بداية الغزو وليس لها انتماءات أيدولوجية أو تنظيمية متماسكة محددة، وقد نجحت المخابرات الأمريكية في استقطابهم عبر دفع “السلطة العراقية” إلى دعوتهم إلى “مصالحة وطنية” بموجبها تسقط عنهم كافة التهم وتقدم لهم دعمًا يصل إلى دمجهم في القوات العراقية ليكونوا جزءًا من مستقبل العراق، وهو ما قاومته بعض الأجنحة داخل الحكومة العراقية في ذلك الوقت إلا أن المخابرات الأمريكية فرضت ذلك عليها وبدأت في تقديم دعمها لتلك الصحوات، والذي وصل إلى 200 مليون دولار شهريًا، لتبلغ قواتها مائة ألف مقاتل في أواخر عام 2008، كل ذلك في مقابل محاربة تنظيم الدولة وحلفائه (الفصائل الجهادية التابعة للقاعدة فى بلاد الرافدين والتي بايعت البغدادى أميرًا لها)، لتصبح “الصحوات” أكبر اختراق حقيقي للمقاومة العراقية، وسببًا رئيسًا فى فنائها.
وها هى الأيام تمر لتدور الدائرة مرة أخرى على تنظيم الدولة بنفس الأسباب الرئيسة، الصراع الذي لا يصب سوى في مصلحة النظام السوري، الذي يجد في استمراره مكسبًا حقيقيًا له، وهو الأمر الذي دفعه إلى التدخل الغير مباشر فيه لمحاولة ضمان استمراره بين داعش والنصرة وحلفائها أطول فترة ممكنة، هذا التدخل الذي لم يتّبع فيه النظام السوري أو المخابرات الأمريكية ذات السياسة الكلاسيكية – كما ذكر سالفا -، وهو ما يحقق لها ذات الأهداف وبكُلفة أقل بكثير عن كلفته في العراق، لذلك يجب التعامل مع أطراف الصراع في سوريا بواقعية وإدراك أن هناك تنظيمات “مستقلة” لها طموح حقيقي واضح في المنطقة وتسعى لتحقيقه بكل ما تمتلك من قدرة، وكون هناك تقاطع في الأهداف والمكاسب فهذا لا يبرر مطلقًا اختزال الصراع في نظرية مؤامرة بحتة بأيدي النظام السوري أو المخابرات الأمريكية.