في فيلم “مجتمع الشعراء الأموات Dead Poet Society”، كانت أعظم نصيحة أعطاها الأستاذ، الذي أدى دوره الممثل الراحل روبن ويليامز، لطلابه حينما قرأ لهم مقطعًا من قصيدة الشاعر الإنجليزي روبيرت هيليك: “تجمعن أيتها البراعم طالما تستطعن، الزمن الغابر لا زال طائرًا، ونفس هذه الزهرة التي تبتسم اليوم ستموت غدًا”، حينما فسرها بالكلمة اللاتينية Carpe Diem، أي “عِش يومك”، واستغل كل لحظاتك الحالية بعيدًا عن التفكير بالماضي وترقب المستقبل.
في علم النفس هناك ما يُعرف باليقظة التامة أو الوعي التام “Mindfulness”، ويعني القدرة على ممارسة الحياة بحضورٍ تام، بوعي مطلَق لما نقوم به ولماذا نقوم به، مع إمكانية مراقبة أفكارك ومشاعرك دون اللجوء للحكم عليها بأنها جيدة أو سيئة، بكلمات أخرى، فالمصطلح يعني “العيش في اللحظة الحالية وإدراك التجربة التي نقوم بها”.
على الرغم من أن حياتنا تتجلى في الوقت الحاضر، إلا أننا في معظم الأحيان نسمح لأفكارنا وعواطفنا بالانزلاق نحو مستنقع الماضي أو الوقوع في دوامة المستقبل، فنبقى عالقين في بُقعةٍ لا نستطيع الفكاك منها دونما إعطاء اللحظة الحاضرة أي قيمة مطلقة أو تقدير.
عندما نكون في العمل أو على مقاعد الدراسة، نفكر بالإجازة والعطلة، وحينما يحين موعد العطلة يبدأ عقلنا بالتفكير بجدول الأعمال أو الدراسة المتراكمة علينا وبالتعب أو الإنهاك الذي سيواجهنا حال عودتنا إليها.
فليس من السهل على المرء عدم التفكير بما جرى معه سابقًا وتمنيه بأنْ لم يحدث، وليس من السهل عليه أيضًا عدم التفكير بتوترٍ وقلق فيما سيحدث معه في المستقبل، فجميعنا مربوطون بصراعٍ كثيف بين ماضينا ومستقبلنا، مهملين دون وعي منا، الحاضر واللحظة التي نعيشها، فعندما نكون في العمل أو على مقاعد الدراسة، نفكر بالإجازة والعطلة، وحينما يحين موعد العطلة يبدأ عقلنا بالتفكير بجدول الأعمال أو الدراسة المتراكمة علينا وبالتعب أو الإنهاك الذي سيواجهنا حال عودتنا إليها.
في التعاليم البوذية، يوصف هذا النوع من التفكير بـ”عقل القرد”، فعقولنا تتأرجح من فكرة لفكرة ومن ذكرى لذكرى كما تتأرجح القرود على الأشجار، فنحن نعيش مع أفكار تطفلية تملأنا ندمًا على الماضي أو تجعلنا خائفين مما قد يحدث في المستقبل.
يقول الفيلسوف البريطاني ألان واتس إن ما يقف في طريق سعادتنا هو عدم قدرتنا على العيش في الحاضر، ووفقًا لواتس أيضًا، فالسعادة لا تكمن في تحسين تجاربنا أو مجابهتها، بل إن السعادة تكمن في قدرتنا على عيشها لحظةً بلحظة وإضفاء أقصى قدر ممكن من المعنى عليها.
توصلت الكثير من الأبحاث أن استغلال اللحظة يقلل من الإجهاد ويعزز أداء الجهاز المناعي للجسم، عدا عن أنه يساعد مرضى الأمراض المزمنة بتخفيف أعباء آلامهم والحد منها من خلال تخفيف حدة التوتر والقلق الذي يمكن لهم أن يعانوا منه
كثير من الدراسات والأبحاث، أشارت إلى أن تعلم “كيفية استغلال اللحظة وعيش اليوم” يؤدي إلى الحد من التوتر وإضفاء مزيدٍ من الراحة والحرية والفعالية في الحياة اليومية، فالتمتع بما بين يديك يساعدك على تقدير ما تملك بدلًا من التباكي على الأشياء التي تحصل عليها والأهداف التي لم تصلها، عدا عن أن “استغلال اللحظة” يجعل منك قادرًا على تحسين علاقاتك بهم وتقوية أواصر المودة والمحبة سواء على صعيد الأزواج أو العائلة والمجتمع.
بالإضافة لذلك، توصلت الكثير من الأبحاث أن استغلال اللحظة يقلل من الإجهاد ويعزز أداء الجهاز المناعي للجسم، عدا عن أنه يساعد مرضى الأمراض المزمنة بتخفيف أعباء آلامهم والحد منها من خلال تخفيف حدة التوتر والقلق الذي يمكن لهم أن يعانوا منه.
ووفقًا للدراسات نفسها، فالأشخاص “اليقظون” يكونون أكثر سعادة، وأكثر اندفاعًا، وأكثر تعاطفًا مع الآخرين، وأكثر شعورًا بالأمان وأكثر تقبلًا لنقاط ضعفهم وانعدام إمكانياتهم، إذ إنهم يستطيعون التعامل مع ردود الفعل السلبية والتعليقات النقدية بقدرة عالية دون أن يشعروا بالتوتر أو التهديد.
العيش في اللحظة والوصول لحالة اليقظة التامة والتركيز الكامل هو أمرٌ ممكن وفقًا لعلماء النفس ومتبعي البوذية، لكنه بكل تأكيد يحتاج جهدًا وتدريبًا طويلين للوصول إلى تلك الحالة، عدا عن أن الأمر يستغرق بعض الوقت أو ربما كثيره.
التفكير المفرِط بما تقوم به يجعلك تنتجه بشكلٍ أسوأ، لأن عقلك وقتها لا يركز سوى على الجوانب السلبية من التجربة، مما يقلل تركيزك ويزيد من حدة القلق الذي تشعر به
هناك عدة طرق قد تساعد المرء على اقتناص لحظاته والعيش في الحاضر فقط، دون الاجترار لمستنقع الماضي أو دوامة المستقبل المُقلِقة، معظمها تحتاج لجهدٍ يومي وتركيز عالٍ، لكن بكل تأكيد الأمر لن يحدث خلال أسبوع أو أسبوعين، فالحالة التي نسعى إليها هنا ستكون أسلوب حياةٍ كامل.
أولًا، فلتعش اللحظة وتزد من فعالية ما تقوم به، توقف عن التفكير في أدائك! فالتفكير المفرِط بما تقوم به يجعلك تنتجه بشكلٍ أسوأ، لأن عقلك وقتها لا يركز سوى على الجوانب السلبية من التجربة، مما يقلل تركيزك ويزيد من حدة القلق الذي تشعر به، أما عندما تركز على تجربتك الفردية دون التركيز في أدائك وتقييمك الذاتي لنفسك، فالأمور غير السارة والسلبية مثل التعليقات والانتقادات من الآخرين ستصبح أقل تهديدًا لذاتك.
ركز على اللحظة الراهنة فقط! وتعلم كيف تُبعد نفسك قدر الإمكان عن التفكير بالمستقبل وما سيحدث فيه
ثانيًا، ركز على اللحظة الراهنة فقط! وتعلم كيف تُبعد نفسك قدر الإمكان عن التفكير بالمستقبل وما سيحدث فيه، أو حتى التفكير بالماضي، ففي كثير من الأحيان ننسى اللحظة والتجربة التي نحن فيها ونفكر في أشياء حدثت أو قد تحدث، فنشرب فنجان القهوة ونحن نفكر فيما سنفعل بعد التخرج، نخرج مع أصدقائنا ونحن نفكر بخطوةٍ قمنا بها قبل أعوام.
في كتابها “أكل، صلاة، حب” الذي تحول لفيلم فيما بعد، ذكرت إليزابيث جيلبرت أن إحدى صديقاتها كانت دومًا تعيش حالة من التفكير في المستقبل مهملةً اللحظة الراهنة التي هي فيها، كأن تكون في مكان جميل جدًا فتبادر بالقول “إنه مكان جميل! حتمًا سآتي إلى هنا لاحقًا”، دون أن تتمتع باللحظة الراهنة التي هي فيها.
والسمة الأساسية للاكتئاب والقلق المفرط هو التفكير بأشياء لم تحدث حتى اللحظة، وربما لن تحدث أبدًا، وإذا استمر الأمر لفترة طويلة فسيصبح أسلوب حياة، جرب أن تخصص من وقتك ساعةً أو نصفها كل يوم، دون أن تفكر بما مضى أو بما يمكن أن يحدث، فما مضى مضى ولن يعود وما يمكن أن يحدث قد لا يحدث على الإطلاق.
بمجرد اعترافك أنك لا تعرف كل شيء أو أنك ترغب في تعلم أشياء جديدة، ستمارس تجربتك بشكلٍ مختلف وبمعنى مختلف
ثالثًا، أبْقِ باب التعلم مفتوحًا وعود نفسك على معرفة ما لا تعرفه في التفاصيل كافة، في علم النفس، يُستخدم مصطلح “الطيار الآلي” على الأفكار والسلوكيات التي نقوم بها بشكلٍ آلي دون وعيٍ مطلق لما نقوم به، فقط حفظناها لكثرة ما مارسناها حتى بتنا نقوم بها وكآننا آلات أو روبوتات.
تفقد الأشياء معناها مع التكرار في حال غياب الوعي والتركيز، لذلك ينصح علماء النفس للتخلص من حالة “الطيار الآلي” تعويد النفس والعقل على ملاحظة الأشياء الجديدة في كل التجارب والبيئات من حولنا، فحتمًا هناك أشياء وتفاصيل جديدة لا نعرف عنها ولا نعلم بها موجودة من حولنا وفي كل تجربة نقوم بها.
فإن تظن نفسك قادرًا على إنجاز شيء ما بقدرة عالية لدرجة ظنك ألا شيء جديد يمكنك تعلمه بخصوصه، يجعل منك آليًا يقوم بخطوات مرسومة فقط، وبمجرد اعترافك أنك لا تعرف كل شيء أو أنك ترغب في تعلم أشياء جديدة، ستمارس تجربتك بشكلٍ مختلف وبمعنى مختلف.