ترجمة حفصة جودة
ما الجرم الذي ارتكبه عالم الأحياء الحاسبي مايكل إيسن وتسبب في طرده من عمله كمحرر في مجلة “eLife” العلمية المرموقة المتخصصة في علوم الطب الحيوي وعلوم الحياة؟ هذا العالم الأمريكي اليهودي الذي ينتمي لعائلة إسرائيلية شارك منشورًا من موقع “Onion” الساخر بعنوان “أموات غزة يُنتقدون لعدم استخدام كلماتهم الأخيرة في إدانة حماس”.
هذه السخرية المريرة تتحدث عن حقيقة لا تقبل الشك: أن الفلسطينيين يموتون بسبب منطق الذنب الجماعي، وفقًا لما أقره الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ، الذي قال: “هذه الأمة بأكملها مسؤولة عن ذلك”.
أشاد إيسن بالموقع الساخر لشجاعته وبصيرته ووضوحه الأخلاقي الذي تفوق فيه على قادة المؤسسات الأكاديمية، أدان إيسن حماس أيضًا، لكنه فُصل من عمله بعد 10 أيام.
أصدر مجلس الإدارة بيانًا أشار فيه إلى أن “منهجية إيسن في القيادة والتواصل واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كانت مضرة بتماسك المجتمع الذي نحاول بنائه في الأوقات العصيبة وبالتالي مهمة المجلة، لقد ساهم وقوع المزيد من هذا السلوك في اتخاذ الإدارة قرارها”، لكنهم لم يذكروا أي تفاصيل عن الحوادث المماثلة المزعومة.
منذ أن ردت “إسرائيل” على هجوم حماس بعدوانها الوحشي الذي قتل أكثر من 8 آلاف فلسطيني، كانت هناك محاولات إسكات ومضايقة أي متعاطفين مع الفلسطينيين، لكن الفلسطينيين يعانون بالطبع من تلك الحملة لوصمهم حتى في مجرد معارضة القتل الجماعي لشعبهم.
مثال على ذلك، الكاتبة الفلسطينية الشهيرة عدنية شبلي التي فازت بجائزة “LiBeraturpreis” الألمانية هذا العام عن روايتها “Minor Detail” التي تحكي قصة حقيقية لجندي إسرائيلي اغتصب وقتل فتاة فلسطينية من البدو عام 1949.
بعد بدء الأحداث، قام منظمو الاحتفالية بتأجيلها بسبب الحرب التي بدأتها حماس ويعاني منها ملايين الناس في “إسرائيل” وفلسطين، حسب قولهم.
لم يكن هناك أي إدانة لجامعة “ليفربول هوب” بعد تأجيلها محاضرة للمؤرخ الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم الذي يتحدى عمله السردية التاريخية الإسرائيلية الرسمية
تعرضت شخصية أدبية أخرى غير فلسطينية للاستهداف، كانت هناك محاضرة للأديب فيت توان نوين – وهو ابن للاجئين ومتعاطف مع جميع النازحين من الشعوب الأخرى – في مركز “92nd Street Y” في نيويورك، لكنها أُجلت بعد توقيعه على خطاب مفتوح يطالب بإنهاء العنف والدمار في فلسطين.
يصف المركز نفسه على موقعه بأنه منظمة يهودية بكل فخر، وفي بيان أرسلوه إلى وكالة رويترز قالوا إنهم بحاجة إلى مزيد من الوقت ليقرروا كيفية استخدام المنصة بشكل أفضل لدعم مجتمع “92NY” بأكمله.
أُلغي مؤتمر الحملة الأمريكية للحقوق الفلسطينية أيضًا في هويستن بعد أن وصفت الغرفة التجارية اليهودية الأرثوذكسية الحدث بأنه مؤتمر لمناصري حماس، أما فندق هيلتون فقد قال إنه ألغى الحدث لأسباب أمنية.
تعرضت رشيدة طليب – أول سيدة فلسطينية أمريكية تدخل الكونغرس – لحملة تشويه من الجمهوريين، وانتقادها بدعوى معاداتها للسامية وتعاطفها مع المنظمات الإرهابية، وكلها مزاعم لا أساس لها من الصحة.
في الوقت نفسه، أوقفت قناة MSNBC ثلاث من مذيعينها المسلمين عن تقديم برامجهم دون تفسير، لكن القناة زعمت بعد ذلك أن أي تغيير في برامجها هو محض صدفة.
في بريطانيا، يُقال لنا منذ فترة طويلة إن طلاب “ووك” (مصطلح يشير إلى الوعي بالتحيز والتمييز العنصري) يشكلون تهديدًا للحرية الأكاديمية، لكن لم يكن هناك أي إدانة لجامعة “ليفربول هوب” بعد تأجيلها محاضرة للمؤرخ الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم الذي يتحدى عمله السردية التاريخية الإسرائيلية الرسمية، قالت الجامعة دفاعًا عن نفسها إنها اتخذت هذا القرار من أجل سلامة وأمن الطلاب والموظفين.
دافعت الوزيرة ميشيل دونيلان عن قانون حرية التعبير في التعليم العالي العام الماضي بزعمها أن هناك تقويضًا للحرية الأكاديمية في تلك المؤسسات بما يشكل خطرًا على الديمقراطية، وأضافت أن الأكاديميين يمارسون الرقابة الذاتية بدافع الخوف.
في بريطانيا الحديثة، أصبح سلوك معارضي القتل الجماعي غير مقبول
ومع ذلك، ففي الأسبوع الماضي وفي خطابها إلى مؤسسة البحث والابتكار في المملكة المتحدة، أعربت دونيلان عن غضبها واشمئزازها لتعيين أكاديمييّن في المجموعة الاستشارية المعنية بالمساواة والتنوع والشمول لأن أحدهما حسب كلامها “يدين العنف في كلا الجانبين لكنه يشير إلى الإبادة الجماعية والفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل”.
لقد أدانت الكثير من المنظمات الفصل العنصري الإسرائيلي مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ومنظمة بتسليم الحقوقية الإسرائيلية، بينما حذر خبراء الأمم المتحدة من خطر تعرض الشعب الفلسطيني للإبادة الجماعية.
هذه كلها مواقف مشروعة يمكن للأكاديميين أن يعبروا عنها، لكن دفاع دونيلان عن حرية التعبير تلاشى عندما أصبحت الآراء بشأن القمع الإسرائيلي العنيف للفلسطينيين.
في الوقت نفسه، علق حزب العمال عضوية آندي ماكدونالد لحديثه عن المظاهرات المناهضة للحرب وقوله: “لن نهدأ حتى تتحقق العدالة ويعيش الجميع – إسرائيليون وفلسطينيون – من النهر إلى البحر في حرية وسلام”.
لنكون واضحين فقد كان ماكدونالد يعبر عن دعمه الحماسي لحل الدولتين، لكن بالنسبة لحزب العمال بقيادة ستارمر، فهذا المطلب الإنساني بالتعايش السلمي يبدو مشينًا أخلاقيًا على عكس دعم إسقاط الصواريخ فوق رؤوس المدنيين ومن بينهم الأطفال.
أُقيل كذلك النائب المحافظ بول بريستو من دوره كمساعد حكومي لمطالبته بوقف إطلاق النار، في بريطانيا الحديثة، أصبح سلوك معارضي القتل الجماعي غير مقبول.
كشفت القضية الفلسطينية عن نفاق “ثقافة الإلغاء”، لقد أخبرونا كثيرًا أن هناك إسكاتًا جماعيًا لشخصيات عامة لحديثها المشين عن المجموعات المهمشة مثل العابرين جنسيًا واللاجئين، لكن على عكس المتعاطفين مع الفلسطينيين، فقد ردد هؤلاء شعارات شاركتها النخبة السياسة والإعلامية.
أما من عارضوا النظام الاقتصادي أو السياسة الخارجية الغربية أو كليهما، فقد تعرضوا لإسكات حقيقي، إن معارضة العنف ضد المدنيين يعرض وظيفتك وسمعتك للخطر.
هذه التهديدات ستكون لها عواقب وخيمة، فهي تقوض الضغط العام على حلفاء “إسرائيل” في الغرب لإيقاف الذبح وإنهاء الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري الذي يعزز هذا الكابوس، والحل بالطبع ليس في الترويع، بل الحديث بصوت أعلى أكثر من ذي قبل.
المصدر: الغارديان