بات التقدم السريع لشركات التكنولوجيا العالمية وما تقدمه من منتجات تقنية عالية الدقة مع اتساع نطاق استخدامها حول العالم وتزايد الاستثمار فيها خلال الأعوام المقبلة، يفرض نمطًا جديدًا على القطاعات الاقتصادية قد تلغي النمط الإنتاجي الحالي ليحل محلها نمط إنتاجي آخر، فما هو معالم الاقتصاد الجديد الذي تقودنا إليه التكنولوجيا الحالية في المستقبل؟
التطور التكنولوجي واقتصاد المعرفة
شكل انتشار استخدام الكومبيوتر وبعده الانترنت منذ تسعينات القرن الماضي نقلة نوعية للقطاعات الاقتصادية (صناعة، زراعة، تجارة، خدمات) بدأت رويدًا رويدًا تتغير معالمها، إذ صار عامل التكنولوجيا محركًا كبيرًا لزيادة الإنتاج واعتبر العامل الخامس من عوامل الإنتاج (الأرض، العمل، رأس المال، التنظيم).
إذ عملت التكنولوجيا على استغلال الموارد الطبيعية بأفضل صورة ممكنة وخلفت آثارًا إيجابية على العملية الإنتاجية، كالسرعة في تنفيذ العملية الإنتاجدية وزيادة الإنتاج كمًا ونوعًا، وتقليل التكلفة والزيادة في معدلات النمو الاقتصادي وتحسين المستوى العام للحياة، وأتاحت الاتصال بكل أنحاء العالم، ووخلقت فرص عمل جديدة. واخترقت مجالات الطب والهندسة وعلوم الفضاء والأرض وأصبحت جزءًا أساسيًا في التسليح والحروب، وأصبحت مصدرًا لتلقي الخبر والمعرفة ونشرهما.
اقتصاد المعرفة يعد محركًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي ويعتمد بشكل أساسي على تكنولوجيا المعلومات وتكنوولجيا الاتصال والابتكار
في العام 1995 تحدث جاك ديلور -رئيس المفوضية الاوروبية السابق – في تقريره لمنظمة اليونسكو عن مدى تأثير التكنولوجيا على الحياة الاقتصادية واصفًا الحياة الاقتصادية العالمية بأنها ستتحول من المثال الصناعي الذي عم في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا والحياة العلمية .
واليوم اقتصاد المعرفة يشكل لبنة أساسية لتطور أي اقتصاد وبدونه قد يبقى الاقتصاد في غياهب التخلف، إذ بات هذا الاقتصاد محركًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي ويعتمد بشكل أساسي على تكنولوجيا المعلومات وتكنوولجيا الاتصال والابتكار.
استخدام تقنية الواقع الافتراضي في ترتيب الأثاث
وبين اقتصاد يقوم على أسس تقليدية واقتصاد يقوم على المعرفة فرق كبير، فالأول يعتمد على عوامل إنتاج تقليدية (أي أنها تعتمد على العمالة البشرية والآلات في حدود ضيقة في كل القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية) ولا تتوفر فيه عمالة مؤهلة وماهرة، ولا يحتوي على تكنولوجيا عالية ومتطورة وصناعات دقيقة، ومنتجاته لا تحظى بتنافسية في العالم وذو بنية تحتية متأخرة ويغيب فيه الابتكار والإبداع.
على خلاف الاقتصاد القائم على المعرفة الذي يستخدم مهارات عالية مبنية على المعرفة فـ70% من العمالة في الاقتصادات المتقدمة هي عمالة معلومات فأغلب عمال المصانع أصبحوا يستخدمون ذكائهم وعقولهم أكثر من أيديهم، وينتشر فيه شبكات الكومبيوتر والإنترنت ويحتوي على صناعات تكنلوجية متوسطة وعالية الدقة ورفيعة المستوى كخدمات الأعمال والخدمات المالية.
خلال الأعوام السابقة كان النقاش بين الاقتصاديين يقوم على هل سيكون هناك أثر للتطور التكنولوجي على العمالة أم لا! واليوم تطرح أسئلة أعمق من قبيل كيف ستؤثر التكنولوجيا على الشركات القائمة وعلى نمط الإنتاج؟ علمًا أنه لا توجد إجابات جاهزة تعطي نموذج معين ومعالم واضحة لشكل الاقتصاد المستقبلي وسط هذا التطور الكبير في التكنولوجيا.
70% من العمالة في الاقتصادات المتقدمة هي عمالة معلومات
فالتطور التكنولوجي نقل الكومبيوتر من طاولة المنزل إلى جيب الناس، وتستعد الشركات الكبرى إلى نقل الكومبيوتر من جيب الناس إلى أجسامهم وعقولهم وخيالهم. وحسب توقعات شركة “إنتل”، فإن عدد الأجهزة التي سوف تتصل بشبكة الإنترنت في أفق سنة 2020، سوف يفوق حاجز 50 مليار جهاز متصل.
خلال الأعوام الماضية تدرجت خدمة التكنولوجيا للناس، ففي البداية كان الزبون مجبرًا للقيام بأي عملية مصرفية للذهاب إلى البنك والانتظار في طابور ومن ثم التعامل مع موظف البنك، وبعدها وُجدت آلة الصرف الآلي (ATM) والتي تخدم الشخص 24 ساعة بدون الحاجة للتعامل مع الموظف، ومن ثم جاء دور التطبيق الذكي الذي يخدم الزبون من خلال هاتفه الجوال في أي وقت وبكل ما يريد. والملاحظ أنه مع كل تطور يلغي الخدمة السابقة، فآلة الصرف الآلي ألغت دور الموظف، وتطبيق البنك على الجوال ألغى الموظف والآلة.
عدد الأجهزة التي سوف تتصل بشبكة الإنترنت في أفق سنة 2020، سوف يفوق حاجز 50 مليار جهاز متصل.
وقس على هذا في كافة النشاطات التجارية والصناعية والخدمية. في المطعم مثلا كان الزبون مضطرًا أن يذهب إلى المطعم وينتظر النادل ويأخذ طلبات الطعام، ومن ثم طورت التكنولوجيا من هذه الخدمة واستعاضت بالنادل بجهاز إلكتروني يقوم الزبون بتلقينه طلباته، ومن ثم أجهزت التطبيقات الذكية على الخدمتين، فالزبون صار يدخل من خلال هاتفه الجوال من أي مكان ويطلب ما يريد ويدفع إلكترونيًا ويأتي بطلبه شخص ما يوصل الطعام. وحتى هذا الشخص سعت شركات إلى استبداله بطائرة صغيرة مخصصة لإيصال طلبات الزبون.
كذلك قضت شركة “أوبر” لنقل الركاب على شركات النقل التقليدية، فبدل أن ينتظر الشخص سيارة أجرة، بات من خلال تطبيق شركة “أوبر” أو غيرها، يوفر لك سيارات خاصة مستعدة لنقلك إلى الجهة التي تريدها وبأسعار منافسة.
سيارة ذاتية القيادة
ولا داعي اليوم أن تتعلم لقيادة السيارة، فالسيارة ذاتية القيادة تحل لك جزء كبير من هذه المشكلة إذ يقول هينريك كريستينسن رئيس معهد علوم الروبوتات السياقية في جامعة كاليفورينا “أتوقع ألا يحتاج الأطفال الذين يولدون اليوم إلى قيادة سيارة أبدًا، فالسيارات بلا سائق ستسود خلال 10 إلى 15 عامًا، وتؤكد شركات السيارات: دايملر، وجنرال موتورز، وفورد، أنه في ظل 5 سنوات سوف يكون لديها سيارات بلا سائق على الطرقات“. علمًا أن ما يقرب من 35 شركة صناعة سيارات وتكنولوجيا تسارع الخطى لإنتاج هذا النوع من السيارات ومن بينها آبل، وغوغل، وإنتل، والعديد غيرها. هذه التقنية بالطبع ستلغي شركات التدريب على قيادة السيارات وكل ما هو متعلق بها.
ملايين الشركات اليوم صارت مضطرة لنقل خدماتها إلى الخدمات الذكية من تطبيقات ووسائط ما شابه ذلك بسبب تطور التكنولوجيا، لعدم خسارة زبائنها، والشركة التي لا تنخرط في هذا التطور لن تجد لها حصة في السوق، إذ سينخفض عدد زبائنها بشكل دراماتيكي ويؤثر على أرباحها ويؤدي بالنهاية إلى إخارجها من السوق وإفلاسها.
السيارات ذاتية القيادة، بلا سائق ستسود خلال 10 إلى 15 عامًا
هذا التطور بات يحتم على الشركات ابتداءًا صرف أموال أكثر على تطوير طريقة خدمة الزبون من خلال التكنولوجيا المتوفرة، ومن ثم الدول ثانيًا من خلال تجهيز البنية التحتية والمالية والقانونية والتكنولوجية والتعليمية وغيرها أمام هذا التطور، وإلا ستخسر استثمارات هائلة وتحرم نفسها من ضرائب كثيرة ولن تكون في عداد الدول المتقدمة.
مع ذلك لا تزال الشركات التكنولوجية الكبرى في العالم تطور من منتجاتها وخدماتها ويفتح العلم لها آفاقًا أكبر وأوسع أمامها لتسهيل الخدمة المقدمة للناس، وخفض التكلفة، والارتقاء بالمستوى المعيشي.
الواقع الافتراضي والمعزز
لم تكتفي الشركات التكنولوجية بإنتاج هاتف ذكي وتطوير تطبيقات ذكية لها تقدم الخدمات والمنتجات بطريقة أسهل وأقل تلكفة، إنما أقحمت نفسها بالخيال العلمي وأنتجت نظارات وعدسات لاصقة وساعات ذكية تجعل من الواقع الافتراضي أمام الشخص كشاشة عملاقة موجودة في الواقع نفسه، يستطيع التفاعل مع ذلك الواقع بكل سلاسة، فيما سمي بالواقع المعزز أو (augmented reality).
والواقع المعزز لا ينقل الشخص إلى الواقع الافتراضي فقط وإنما يدمج ما بين الواقع والافتراض، بحيث يستطيع الشخص التحكم بالصور والأشياء التي تحيط به افتراضيًا، تتيح له أيضًا الحصول على معلومات مباشرة من موقع تواجده حول كل ما يحيط به بشكل تفاعلي مباشر. والفرق بين الواقع المعزز AR والواقع الافتراضي VR (virtual reality) أن الأخير يقوم باستبدال الواقع بآخر افتراضي ويتفاعل المسخدم مع واقع مفترض منفصل تمامًا عن الواقع الحقيقي أما الواقع المعزز فهو يسمح للمستخدم برؤية العالم الحقيقي من حوله مع إدخال الافتراض إليه إن كان صور أو بيانات أو غيرها.
الواقع المعزز لا ينقل الشخص إلى الواقع الافتراضي فقط وإنما يدمج ما بين الواقع والافتراض
شركات التكنولوجيا مثل مايكروسوفت، وماجيك ليب، وآبل، وفيس بوك، وسامسونغ، ضخت مبالغ كبيرة في تطوير منتجات في الواقع الافتراضي والمعزز، ففي العام 2015 تم إنفاق 700 مليون دولار على هذه التقنيات وتزايد هذا الرقم في العام 2016 ليصل إلى 2.3 مليار دولار. ومن المتوقع بحسب دراسات أن يرتفع حجم السوق من 20 مليار دولار في العام 2018 إلى 80 مليار دولار في العام 2020 و 120 مليار دولار في العام 2021 وتشير تلك الدرسات أن استثمارات الواقع المعزز ستصل إلى 83 مليار دولار.
ومن المتوقع أن تؤثر انتشار هذه التقنية في أسس الاستثمارات في المستقبل لتدخل القطاعات الإنتاجية والخدماتية والترفيهية، فبحسب دراسة منشورة في موقع”ستاتيستا” حول تأثير هذه التقنيات على الاقتصاد العالمي فإن 8 قطاعات ستشهد نموًا استثماريًا مرتبطًا بهذه التقنيات وهي: الألعاب الترفيهية، العقارات، الأمن، التجارة، الصحة، التعليم، الهندسة، والفيديوهات.
في العام 2015 تم إنفاق 700 مليون دولار على هذه التقنيات وتزايد هذا الرقم في العام 2016 ليصل إلى 2.3 مليار دولار.
المنافسة محتدمة جدًا بين الشركات على تقديم خدمات الواقع المعزز والإفتراضي، وبالأخص بين شركتي سناب شات الذي يعرض فلاتر للوجوه وعملاق التواصل الاجتماعي فيس بوك التي أعلنت مؤخرًا عن نيتها التخلي عن الهواتف الذكية للقيام بالمهام والانتقال إلى ربط الكومبيوتر بالعقل البشري لإرسال أوامر عبر العقل بدل الضغط على الهاتف. وعلى الرغم أن هذا من الخيال العلمي إلا أنه يمكن التطبيق بتوفر التكنولوجيا الحديثة وكل شيء قابل للتجربة في النهاية.
وقد أعلن مارك زوكيربيرغ في مؤتمر المطورين الثامن خدمة جديدة بعنوان spaces تعمل مع أجهزة الواقع الافتراضي، بحيث أنها تقوم برسم الشخص كرتونيًا ليتفاعل مع الشخص الآخر الذي يكلمه في عالم افتراضي كامل تضاف إليه الصور والمقاطع المصورة، كما أنه يمكن إضافة أي شي بصورة كرتونية بين المتحدثين. كما يظهر في الفيديو أدناه.
https://www.facebook.com/FacebookTips/videos/10155260579068466/
مقطع يظهر استخدام فيس بوك للواقع المعزز
وكذلك أعلنت شركة سناب شات عن فلاتر الواقع المعزز باسم world lences تتفاعل مع المحيط وليس فقط مع الوجوه، حيث بإمكان الشخص إضافة رموز وكتابات وصور ثلاثية الأبعاد إلى المقاطع في المحيط الذي هو فيه.
https://youtu.be/K6x44v8prFA8
مقطع يظهر الفلاتر الجديدة في سناب شات
من حيث الإنتاج والتطوير لا يزال العالم العربي بعيد كليًا عن هذه المنتجات التقنية ولا يمكن القيام بها في ظل الظروف الحالية، فالمنتج النهائي في الدول المتقدمة ما كان ليخرج لولا توفر حزمة كبيرة من المؤهلات مكنت الشركة على الإنتاج وأبرزها التعليم الجيد والأيدي العاملة الماهرة ومراكز البحث المتطورة والإنفاق المالي على تلك المؤسسات، بالإضافة إلى توفير بيئة مالية ومصرفية تخدم تلك الاستثمارات وهو ما لم يتوفر في الدول العربية بعد.
8 قطاعات ستشهد نموًا استثماريًا مرتبطًا بهذه التقنيات وهي: الألعاب الترفيهية، العقارات، الأمن، التجارة، الصحة، التعليم، الهندسة، والفيديوهات.
أما من حيث شكل الاقتصاد الجديد الذي تفرضه هذه التقنيات المتطورة على نمط الإنتاج، فالمؤكد أن أيًا من الدول لا يمكنها إيقاف التطور العلمي المستمر في هذه الأشياء، والمؤكد أيضًا أن على الاقتصاديين ابتداع نماذج حساب جديدة لحجم تطور الدول وطريقة حساب الناتج المحلي للدولة اعتمادًا على التقنية المستخدمة فيها، إذ قد يصبح تطور الدولة يُقاس بحجم ما تملكه أو تطبق من تقنية في قطاعاتها ليُطلق عليها دولة متقدمة.
السنوات المقبلة سنشهد استخدامًا أوسع نطاقًا للتقنية وستصبح أفلام الخيال العلمي مطبقة على أرض الواقع، وسيتحدد تطور الدولة بمدى إنتاجها التقني، وسيكون العالم أكثر انقاسمًا مما سبق فإما أن يكون مصدرًا للتكنولوجيا وما يلحق بها أو أن يكون مستهلكًا للتكنولوجيا. فلتنظر كل دولة ما تريد.