في الوقت الذي شهدت فيه العديد من المدن والعواصم العربية والإسلامية مظاهرات شعبية منددة بجرائم الحرب التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة، إلا أن الحال في إيران لم يكن كذلك، خصوصًا أن النظام في طهران حرص دائمًا على ممارسة تعبئة شعبية دعمًا للقضية الفلسطينية، ويقيم عدة مناسبات أبرزها “يوم القدس”.
إلا أنه ومع الحرب الإسرائيلية الأخيرة في غزة، لم تشهد إيران جهودًا تعبوية مارسها النظام دعمًا لغزة، باستثناءات بسيطة، ولعلّ ذلك يعود إلى تصاعد الهوة الجماهيرية بين النظام والقاعدة الشعبية، وتحديدًا في أعقاب الاحتجاجات الجماهيرية التي شهدتها طهران ومدن أخرى، على خلفية مقتل المواطنة الإيرانية مهسا أميني العام الماضي.
فالرأي العام الإيراني شأنه شأن أي رأي عام في دولة أخرى، تتحكم في تحركاته وآرائه العديد من قنوات التأثير السياسي، والتي تؤدي دورًا مهمًّا في صياغة توجهات الرأي العام حيال قضية معيّنة، والحال مع القضية الفلسطينية فإنها شهدت تحولات مهمة في قناعات الرأي العام الإيراني، وذلك تبعًا لطبيعة التحولات السياسية التي مرّت بها إيران، على أقل تقدير في الـ 20 سنة الماضية.
فبعد أن كانت القضية الفلسطينية جزءًا من الخطاب الأيديولوجي للنظام، وحشدت إيران لأجلها موارد عسكرية، تحولت في الوقت الحاضر إلى جزء من خطاب سياسي موجّه إلى الخارج، بل أصبحت القضية الفلسطينية جزءًا من مشروع إيراني في المنطقة، وليس بالضرورة كل المشروع، ولعلّ هذا ما يفسر طبيعة الموقف الإيراني المتردد من الحرب الأخيرة في غزة.
لهذا، فإن أحد أبرز التحديات التي يواجهها النظام السياسي في طهران، يتمثل بتحديد موقف واحد من الأحداث الجارية في غزة، وهو أن الحرب الأخيرة تأتي في ظروف غير مواتية لإيران.
فعلى الصعيد الداخلي هناك نقمة شعبية كبيرة على النظام، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، أما على الصعيد الإقليمي فهناك مصالحات إقليمية أنتجتها إيران مؤخرًا، ولا تريد الانقلاب عليها، أما على الصعيد الدولي فقد مثّل الدعم الدولي اللامحدود الذي تلقته “إسرائيل” في حربها على غزة إدانة سياسية لإيران وحلفائها، فضلًا عن تأكيد الولايات المتحدة المستمر على تحميل إيران مسؤولية التصعيد في المنطقة، ومن ثم أثرت هذه البيئات مجتمعةً بطريقة غير مباشرة في تشكيل الرأي العام الإيراني من الأحداث في غزة.
رأي أم آراء إيرانية؟
إن نظرة بسيطة إلى طبيعة المواقف التي صدرت عن الرأي العام الإيراني في الداخل والخارج، توضّح بطريقة أو أخرى حجم الاستقطاب الإيراني الحالي من الحرب في غزة، بحيث أظهرت الأيام الماضية بروز عدة آراء شعبية إيرانية إزاء هذه الحرب، ولكل رأي من هذه الآراء الأسباب الدافعة له، فضلًا عن مدى قربه أو بعده عن النظام السياسي.
فعلى مستوى الرأي الأول، والحديث هنا عن الموقف الشعبي الداعم لحركة حماس، وهو المعبَّر عنه بجمهور النظام، فقد حرص هذا الجمهور منذ الأيام الأولى لهذه الحرب على ممارسة تعبئة جماهيرية بالضد من “إسرائيل”.
ويتمثل التيار العام لهذا الرأي بالباسيج الطلابي والعمالي داخل الجامعات والمعامل والمؤسسات الإيرانية الخاضعة لسيطرة النظام، وهو جمهور معبّأ أيديولوجيًّا نتيجة تأثُّره بأيديولوجيا النظام، ولذلك لا تعكس مواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية موقفًا مبدئيًّا من القضية، قدر تأثره بأيديولوجيا النظام التي رسخت مكانة هذه القضية في عقول مؤيديه.
أما على مستوى الرأي الثاني، فهو رأي أغلب التيارات الشعبية التابعة للتيار الإصلاحي، إذ عبّرت هذه التيارات عن مواقف متباينة من الحرب الأخيرة في غزة، وأظهرت تأكيدًا واضحًا على رفض أي انخراط عسكري إيراني في هذه الحرب، كونها لا تخدم المصلحة الإيرانية في الوقت الحاضر.
فضلًا عن تأكيدها على ضرورة بذل جهود سياسية تعيد الاستقرار في المنطقة، خصوصًا أن أي نجاح سياسي قد تحققه إيران، قد يوفّر فرصة لإعادة إحياء العلاقات التفاوضية مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي، كما أن ممارسة إيران لجهود التهدئة قد يدفع الولايات المتحدة إلى رفع العقوبات عن إيران، إذ ينظر أنصار هذا التيار أن هناك فرصًا سياسية قد تحققها إيران من هذه الحرب، دون الحاجة للتصعيد العسكري.
أما الرأي الثالث فهو رأي عامة الشعب الإيراني، ويمكن وصفه بأنه جمهور الاحتجاجات التي اجتاحت الشارع الإيراني منذ عام 2017، والذي عادة ما يؤكد على ضرورة الاهتمام بالداخل الإيراني، ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة توزيع الموارد المالية بالشكل الذي يخدم حاجات المواطن الإيراني، دون الحاجة للدخول في حروب إقليمية تنعكس سلبًا على الداخل، فهذا الجمهور غير معنيّ بما يحدث في غزة أو غيرها، ويعتبر ذلك شأنًا إقليميًّا وليس شأنًا إيرانيًّا، وقد عبّر أنصار هذا الرأي عن ذلك صراحةً عندما رفعوا شعار “لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران”.
أما الرأي الرابع فهو رأي إيرانيي المهجر أو الخارج، وقد لعب هذا الرأي دورًا مهمًّا في دعم آلة الحرب الإسرائيلية في غزة، وذلك عبر العديد من الشخصيات والمؤسسات الإيرانية في الخارج، سواء على مستوى قوى المعارضة الإيرانية في العديد من العواصم الأوروبية، أو على مستوى اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة، إذ ربط جمهور هذا الرأي بين معاداة النظام الإيراني والحاجة لدعم أمريكي، كما أنهم أكدوا على أن القضاء على حركة حماس يبدأ من إسقاط النظام في إيران.
أين يجد النظام نفسه؟
يواجه النظام موقفًا معقدًا، إذ أدى هذا الانقسام، إلى جانب أسباب إقليمية ودولية، إلى ممارسة سياسة خارجية مرتبكة حيال حرب غزة، وهو ما بدا واضحًا في التحولات التي أصابت الموقف الإيراني، من تأكيده عن عدم مسؤولية النظام عن قرار حركة حماس بدخول الحرب، إلى المواجهة المشروطة، وأخيرًا بتأكيد صحيفة “كيهان” التابعة للمرشد الأعلى علي خامنئي أن “إيران لن تخوض حربًا من أجل شعب آخر”.
وانعكس هذا الارتباك الإيراني من جهة أخرى على مواقف حلفاء إيران أيضًا، وهو ما يفسر حجم التعقيد السياسي والعسكري الذي تمرّ به إيران وحلفاؤها من هذه الحرب وتداعياتها.
فضلًا عن ذلك، فإنه رغم تحرك جبهات تابعة لإيران في العراق واليمن، عبر عدة هجمات صاروخية وطائرات مسيّرة باتجاه أهداف أمريكية أو إسرائيلية، بل حتى الخطاب المنتظر لزعيم “حزب الله” اللبناني حسن نصر الله يوم الجمعة، فإن جميع هذه التحركات العسكرية أو الخطابية لا يتوقع لها أن تتجاوز الحدود المرسومة إيرانيًّا.
ففي ظل الانقسام الداخلي الذي تعيشه إيران حيال هذه الحرب، إلى جانب الخشية من تداعيات هذه الحرب على مستقبل حلفائها ومشروعها، قد يُدفع النظام إلى التفكير كثيرًا قبل اتخاذ قرار الانخراط في هذه الحرب، وإن كان يبدو واضحًا بأن النظام لا يفكر بالانخراط بها أساسًا.
فإيران ونتيجة للتحولات السياسية التي مرّت بها، وتحديدًا بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ومن ثم اندفاعها الكبير في الشرق الأوسط بعد احتلال العراق، وسيطرتها على مصادر القرار السياسي في عدة عواصم عربية، أصبحت تهتم بحماية نفوذها أكثر من توسيعه، وعادة ما تفكر بأكثر من عقل عند الانخراط في أزمات المنطقة، والحال مع الحرب في غزة.
فإنه بالوقت الذي قد تفكر فيه إيران بالانخراط في هذه الحرب، فإن هناك عقلًا آخر يفكر بكيفية الاستثمار بنتائج هذه الحرب، وما بين الانخراط والاستثمار ستحاول إيران تحويل التهديدات إلى فرص، وقد تبدو أولى هذه الفرص في كيفية استثمار حرب غزة لتقوية النظام في الداخل، عبر محاولة الحصول على المزيد من الإغراءات الاقتصادية من الولايات المتحدة الأمريكية.