تمثل عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 نقطة فارقة في مسيرة القضية الفلسطينية، عملية سيكون لها تبعات وتداعيات سترسم بشكل كبير الكثير من الخيوط التي تحدد هوية القضية مستقبلًا، وتعيد تشكيل حدودها وخريطة تحالفاتها فيما أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية.
وبعيدًا عن الخسائر البشرية والمادية في صفوف الفلسطينيين، وهو أمر اعتاده أصحاب الأرض والقضية، إلا أن هناك الكثير من المكاسب التي حققتها تلك العملية، سواء على مستوى الخسائر الموقعة ماديًا في صفوف الاحتلال التي بلغت أعلى مستوى لها منذ عام 1948، فضلًا عن هدم أسطورة الجيش الذي لا يقهر بعدما تحول إلى ألعوبة في أيدي مقاتلي المقاومة، أم حالة الرعب التي خيمت على المستوطنين والكيان بأكمله بسبب الرشقات الصاروخية التي لا تتوقف.
ومن مكرمات العملية التي قد تكون على رأس هرم المكاسب إعادتها زخم القضية الفلسطينية للشارع العربي، والمصري على وجه الخصوص، الذي غابت عنه القضية سنوات طويلة بسبب التسطيح المتعمد، وابتعاد القاهرة عن القيام بمسؤولياتها إزاء هذا الملف في ضوء تغير الحسابات السياسية والأمنية في الآونة الأخيرة.
ردود الفعل الأولى للشارع المصري إزاء طوفان الأقصى برهنت بشكل كبير على أن القضية لم تمت يومًا ما، وأن جذوتها مشتعلة وإن أُخمدت بفعل فاعل، لكن الظاهرة الأبرز تمثلت في تفاعل صغار السن والنشء ممن لم ينخرطوا قبل ذلك في معمعة القضية التي غابت عن الشارع منذ أكثر من 23 عامًا، حين اغتالت يد الاحتلال الطفل محمد الدرة عام 2000.
تغييب القضية لأكثر من عقدين
ومنذ مقتل الدرة لم تحظ القضية الفلسطينية بهذا الحضور المجتمعي، حيث دخلت عنوة إلى ثلاجات التبريد الممنهج في ظل المقاربات الجديدة للأنظمة العربية التي تعاملت مع القضية ببرغماتية بحتة، فتغلبت المصالح على المبادئ، والمكاسب على المعتقدات، ثم جاءت اتفاقيات أبراهام كأول خيط في كفن القضية.
وبعد أن كانت التظاهرات الداعمة للفلسطينيين تزلزل شوارع المدن العربية والإسلامية والجامعات في شتى البلدان في العشرية الأولى من الألفية الحاليّة وما سبقها، إذ بها تُجبر على التجمد، رافق ذلك أجندات إعلامية واجتماعية حاولت بشكل كبير تذويب الجدران النفسية الغليظة تجاه دولة الاحتلال، في مسعى لإخراجها من محور الأعداء إلى الحليف الموثوق به، بزعم المستجدات والتطورات الراهنة.
وبعدما كان الداعمون للقضية الفلسطينية من المصريين يحظون بالمكانة الاجتماعية والإعلامية، إذ بهم خلال السنوات الماضية يواجهون التهم ويتعرضون للتنكيل، وتحولت دولة الاحتلال إلى دولة حليفة مستأنسة في ضوء العلاقات الجيدة التي وصلت إلى مستويات متقدمة خلال الأعوام الأخيرة.
وفي تلك الأثناء نشأ جيل بأكمله لا يعرف عن القضية الفلسطينية إلا مسماها العام، دون التوغل في تفاصيلها والوقوف على أطرافها، فضلًا عن ميوعة المنهجية المحددة لمصطلحات العدو والخصم، هذا بجانب التشويه الجمعي وتسطيح الوعي عبر أدوات الغزو الثقافي المدروسة، حيث المواد الإعلامية والفنية والثقافية الهشة التي شكلت وعيًا فاسدًا لغالبية الشباب.
طوفان الأقصى.. نقطة التحول
ظل الأمر على شاكلته تلك حتى جاء يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ليقلب الطاولة، ويعيد القضية الفلسطينية للشارع بشكل ما كان يتوقعه أحد، زخم شعبي وحضور اجتماعي وهيمنة مطلقة على أولويات واهتمامات الناس، ليس في الشارع العربي والإسلامي فقط.
المقاطع التي تناقلتها منصات التواصل الاجتماعي وما حوته من جرائم وانتهاكات بحق أطفال غزة تحديدًا، كانت نقطة التحول الكبيرة في مسار المزاج الشعبي المصري على وجه الخصوص الذي غُيب بفعل فاعل لسنوات طويلة، لا سيما صغار السن من النشء والجيل الجديد.
وفي الوقت الذي كان يُنظر فيه لهذا الجيل على أنه سقط بشكل كامل في براثن التسطيح والتجهيل عبر أدوات الإعلام والدراما والتضييق، إذ به يقدم نموذجًا من التفاعل كان مستبعدًا حتى لدى مراكز قياسات الرأي العام وخبراء الاجتماع السياسي.
اللافت هنا أن إدراك هذا الجيل إزاء القضية تغير بنسبة 180 درجة في غضون ساعات قليلة، لكنه الإدراك الذي انطلق من أعلى هرم الوعي، ويوصف بـ”الصادم” وهي أعلى نقطة في مسار الإدراك بحسب علماء الاجتماع.
#الجامع_الأزهر
تظاهرات اليوم من الجامع الأزهر في مصر. pic.twitter.com/TgvNUBJl9H
— Ahmed Abdo (@abdua7903) October 27, 2023
فبدلًا من التنقل عبر محطات التسلسل الزمني الإدراكي للقضية بداية من التعريف بها ثم دراسة طلاسمها، إذ به يتعرض لزلزال حرب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق أطفال القطاع، كل هذا أحدث صدمة في وعي الجيل الجديد، خاصة في ظل إدمانهم لمنصات التواصل الاجتماعي الزاخرة بآلاف المقاطع المصورة التي توثق إجرام وعنصرية الكيان المحتل.
وفجأة ودون سابق إنذار تحول اهتمام الجيل الناشئ من الأغاني التافهة ومباريات كرة القدم والأعمال الدرامية والسينمائية إلى متابعة المشهد الفلسطيني ساعة تلو الساعة، وتحول المتحدث باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، إلى نجم شباك للكثير من هؤلاء الشباب.
ويمكن الوقوف على حجم هذا الوعي المستفيق والمشكل حديثًا، من خلال التظاهرات التي خرجت للشارع ومدرجات كرة القدم، سيلاحظ أن قوامها الأساسي من صغار السن، شباب لا يتجاوز أعمارهم 20 عامًا، كانوا أطفالًا وبعضهم لم يولد في أثناء آخر صدمة تعرض لهذا الجيل عقب مقتل الدرة قبل 23 عامًا.
إسقاط مخطط التطبيع
ما حدث وما زال من الشباب المصري منذ بدء عملية طوفان الأقصى يشير إلى أن كل محاولات الاستقطاب والتهدئة التي قامت بها الدولة عبر خطابيها، السياسي والإعلامي، لاعتبارات خاصة بها، لامتصاص غضب الشباب الذي قفز في مستوى وعيه خطوات سريعة في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات، لم تؤت ثمارها، وأنها فشلت فشلًا ذريعًا.
وبلا شك فإن هذا الوعي الذي أسقط كل محاولات التهميش والتسطيح، وألقى بالمليارات التي أنفقت لتمرير التطبيع شعبيًا في سلال القمامة، أكد أن جذوة القضية ستظل مشتعلة في نفوس الأجيال القادمة، وهو بطبيعة الحال سيشكل ضغطًا على الحكومات والأنظمة.
هذا الوعي مع مرور الوقت سيشكل مزاجًا جمعيًا ضاغطًا على النظام المصري، أيًا كان، وهو ما أيقنه بالفعل مؤخرًا، حين قلق من السماح لهؤلاء الشباب بالنزول للشارع مرة أخرى خشية أن يكون رد الفعل أكبر كثيرًا مما هو متوقع بما يتجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها السلطات لمثل تلك الفعاليات.
تظاهرة ترفع أعلام #فلسطين في #السويس وتردد هتافات تضامنًا مع أهالي #غزة pic.twitter.com/oqXGPdmKIW
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) October 18, 2023
مسألة تشكيل الوعي المجتمعي تحتاج بطبيعة الحال إلى سنوات طويلة، غير أن عملية طوفان الأقصى سرعتها بشكل كبير، لكن التعويل على هذا الوعي المشكل حديثًا لإحداث أي تأثير آني فيما يتعلق بالاتفاقيات المبرمة مع دولة الاحتلال، سياسيًا واقتصاديًا، أمر ربما يكون مستبعدًا، إن لم تكن هناك مفاجآت فيما يتعلق بتجاوزات وانتهاكات الاحتلال بحق السيادة المصرية.
لكن على أي حال، فإن ما بعد السابع من أكتوبر لن يكون كما قبله، فيما يتعلق بخريطة الوعي المصري إزاء قضاياه الحيوية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهو ما يجعل فكرة تحصين معاهدة كامب ديفيد من الانهيار، وهي الفكرة التي ترسخت لسنوات طويلة، دربًا من الخيال.
وفي الأخير فإنه لم تكن هناك مكرمة لعملية طوفان الأقصى سوى أنها أعادت زخم القضية الفلسطينية للشارع العربي بعد غياب دام لسنوات بسبب التسطيح المتعمد، لكفى، فالأيام القليلة الماضية نجحت بامتياز في تدمير عقود من التهميش والتجهيل، وأسقطت مخططات أنفق لأجلها مئات المليارات على مدار أعوام عدة.