“وثيقة المبادئ والسياسات العامة”، بهذا الاسم أخرجت حماس وثيقتها السياسية في مؤتمرها الصحفي في الفاتح من مايو 2017 وعلى لسان قائدها العام أ. خالد مشعل “أبو الوليد”، وثيقة تحديد الهوية وتعريف الماهية، لتكون وحدها التعريف الجامع المانع المعتمد والمرجع المُقر الذي تعبر به إلى كل مكان يوجب الوطن أن تكون فيه ولا تغادره إلا بإذنه والمكانة التي يجب أن ترتادها.
فكانت – بحق – وثيقة وطنية بامتياز لما حملته من معانٍ ودلالات اختزلت فلسطين وقضيتها بأجزل العبارات، صِيغت في 42 بندًا تضمنها 12 فصلاً، مستهلة بمقدمة.
لم أشأ في هذا المقال التطرق بالقراءة في نصوص هذه الوثيقة أو الوقوف على أهم دلالاتها الفكرية والسياسية، بل وجدت أنَه من الجدير الإجابة على السؤال الذي تجده أول ما يتبادر إلى الأذهان:
لماذا هذه الوثيقة الآن؟ وما الداعي إليها مع وجود ميثاق مقر لحماس منذ عقود ثلاث؟
نعم، أطّلت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على المشهد الوطني الفلسطيني بهذا الاسم الذي أصبح أحد أبرز أيقونات الثورة الفلسطينية، وقد جاءت إطلالتها الأولى في خضم تسابق قيادتها لتتصدر توجيه المسار الثوري الذي بدأ بالاشتعال إبان الهبة الجماهيرية عام 1987.
فكان الميلاد لحركة حماس مع أول بيان أصدرته توجه فيه فعاليات انتفاضة المساجد (الحجارة) بتاريخ الـ14 من ديسمبر من ذلك العام.
لتأتي انطلاقتها فعليًا متزامنة مع التحامها بالجماهير في ميادين المواجهة وقيادتها لكثير من فعالياتها الثورية، لهذا أصبحت حماس مثار تساؤلٍ واستفسار: ما هذه الحركة التي سرعان ما تفاعلت وتفاعل معها الشارع الفلسطيني؟!
فكان لا بد من الإجابة الصريحة السريعة لتوضيح ماهية حماس والكشف عن هويتها، بما يتناسب مع مرحلة نشأتها الأولى وهي ما زالت تبتدئ مسارها الثوري الوطني في مواجهة جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه على الأرض الفلسطينية المحتلة.
وهذا ما انعكس على طبيعة صياغة ميثاقها الأول، والذي جاء على عجل ومتناسب – كما أسلفنا – للحالة التنظيمية والظروف الموضوعية، وقد عبرت فيه حماس عن نفسها بلغة ثورية هي أقرب إلى التنظير الأيديولوجي منها إلى الطرح السياسي الموضوعي.
لم يكن هناك ما يدعو أن تعيد حماس النظر في هذه الصيغة التعريفية الأولى، لولا أنها بلغت من التعريف الذاتي على المستوى الوطني ما جعل اسمها علمًا لا يستلزم التعريف
فكان نعم الميثاق في زمانه، لما كان من تماشيه تمامًا مع مقتضى الحال ووجهة الخطاب، وقد صُرفت يومها بكليتها لتجيب الجماهير الثائرة عن حقيقتها وطبيعة كينونتها، ولهذا أدى الميثاق الذي عليها بالحق، ولم يكن هناك ما يدعو أن تعيد حماس النظر في هذه الصيغة التعريفية الأولى، لولا أنها بلغت من التعريف الذاتي على المستوى الوطني ما جعل اسمها علمًا لا يستلزم التعريف (المعرف لا يعرف)، فلم تحتج أن تُعرَف بأكثر من اسمها!
وقد أصبح لها من الرمزية والرموز الوطنية ما جعلها تزاحم بقوة سجلات القوى الوطنية التي سبقتها بعقدين أو يزيد مجتمعين، وأضحت حركة جماهيرية عريضة في كل الساحات الفلسطينية، بما قدمته من البطولات والعمليات النوعية وقوافل الشهداء والجرحى، وقوة إسهامها في الحركة الوطنية الأسيرة، وتميزها الإبداعي في العمل الطلابي، ومنافستها القوية في العمل النقابي بكل قطاعاته المهنية والعلمية، إلخ.
وكان هذا التطور النوعي، والتراكم في العمل الثوري، وتسجيل الحضور في كل ميادين المراغمة، ما أهلها لفوز كبير في الانتخابات المحلية التي أجريت أول مرة وشاركت فيها بكتلة حصرية لها عام 2004- 2005.
ثم ما كان من التحول الكبير الذي غيّر تركيبة المعادلة السياسية في المشهد الفلسطيني السياسي، بفوزها الكاسح في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في يناير 2006، وقد عُبّر عنه بأنّه تسونامي سياسي جارف.
وإنّه بهذا التحول الذي ترجمته حماس بحضورها هذه المرة على المسرح السياسي المحلي والإقليم والدولي من خلال تشكيلها للحكومة العاشرة منفردة، بعد اعتذار القوى الفلسطينية عن مشاركتها، أو النأي عن تحملهم ما ستؤول إليه الأمور نتيجة لما كان يبيته البعض أو ما يخشاه الآخرون، غير أن قيام حماس بتحملها لهذه المسؤولية هو ما جعلها تتصدر المشهد وبقوة عندها عاد السؤال يُطرح من جديد.
ما هي حماس؟
ولكن هذه المرة لم يكن السائلون محليين، بل الذي يتساءل هو العالم الخارجي بكل مؤسساته الرسمية والشعبية، وكذلك تساءلت القوى الدولية الفاعلة.
فبدأ رموز حماس والمحبون والدارسون لها والمهتمون بها وفي أحيان كثيرة تصدر المعادون ليجيبوا ويجتهدوا في الإجابة للتعريف بهوية حماس لمن يسأل أو يتساءل، كل يدلي من منطلقه وبمنطقه.
ذلك لأن الوثيقة الأولى (ميثاق 1988) لم تُعد ابتداءً لهذا، بالإضافة إلى أن الزمن قد تجاوز الكثير من مفرداتها وعباراتها، ناهيك عن الصياغة التي كانت تخاطب جمهورًا محليًا شعبيًا.
لكل هذا، كان الواجب على حركة حماس أن تقدم نفسها بلغة جديدة يفهمها المخاطَبون الجدد، وبصياغة تراعي أبجديات الخطاب الدولي والإقليمي.
كما أنّه في الوقت نفسه يجب أن تعكس الصيغة التعريفية، الحضور الذي تسجله حماس الماثل بقوة على الساحة النضالية الوطنية، وتفصح فيها عن مساحة مشاركتها الرائدة في المشهد السياسي الفلسطيني الرسمي والشعبي.
انبرت قيادة حماس في دورتها التي أشرفت على نهاية آخر مراحلها بإعلان الوثيقة في تدشن هذه الوثيقة السياسية، لتعرف فيها ذاتها وتُعبر عن منطلقاتها ومبادئها وغايتها الوطنية
لذا انبرت قيادة حماس في دورتها التي أشرفت على نهاية آخر مراحلها بإعلان الوثيقة في تدشن هذه الوثيقة السياسية، لتعرف فيها ذاتها وتُعبر عن منطلقاتها ومبادئها وغايتها الوطنية.
وليس خافيًا أن البداية كانت بمسودة أولية صدرت من الساحة الأكثر فاعلية ودينامية لحماس ألا وهي ساحة غزة التي تعدّ خزان الثورة ومخزونها الاستراتيجي.
ثم استمرت الصياغات والمشاورات والقراءات على مدار خمس سنوات متوالية من العمل المتتابع، إلى أن أخرجت إلى النور بهذه الوثيقة الوطنية أو كما جاء في تقدير كثير من المراقبين بأنها تُصلح بأن تكون أساسًا لإطار وطني فلسطيني جامع.