لماذا تمثل الحرب على كوريا الشمالية – إذا وقعت – عملًا مشروعًا من الناحية التاريخية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية؟ إليكم القصة من حيث تبدأ.
على مدى عقود من الحرب الباردة، شكلت سياسة احتواء الاتحاد السوفيتي العقيدة الدفاعية المركزية للولايات المتحدة الأمريكية، وقد تطلبت المرحلة من الولايات المتحدة أن تعتمد سياسة إنفاق هائلة على برامجها الدفاعية تمثلت بحدود 10% من ناتجها المحلي الإجمالي.
ولكن مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، تلاشى المبرر من وراء هذا الإنفاق الكبير، ولتلافي الخفض المتوقع لميزانية الدفاع، بادر البنتاغون بتقديم رؤية استراتيجية جديدة تتضمن العقيدة الدفاعية التي يجب أن تتبعها الولايات المتحدة في المرحلة ما بعد الحرب الباردة، لم يرد لوبي المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة أن يفقد نفوذه السياسي فبادر باتخاذ خطوة استباقية للأمام.
أعد الرؤية الجديدة رئيس هيئة الأركان المشتركة للولايات المتحدة حينها الجنرال كولون باول وقدمها للاعتماد من الرئيس جورج بوش الأب مطلع عام 1990، وقد احتوت الرؤية على ضرورة قيام الولايات المتحدة بمحاربة تلك الدول التي تملك قدرات عسكرية قوية، ولديها تاريخ طويل من العداء للغرب، وتسعى لامتلاك أسلحة دمار شامل، ولا تقبل العمل وفق المبادئ والقواعد الدولية.
خضعت كل من العراق وليبيا وإيران وكوريا الشمالية، للاستهداف المباشر من قبل السياسية الجديدة للولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، دعيت هذه الدول بالدول المارقة
وضمن هذه المعايير، خضعت كل من العراق وليبيا وإيران وكوريا الشمالية، للاستهداف المباشر من قبل السياسية الجديدة للولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، دعيت هذه الدول بالدول المارقة، وأصبحت السياسة الأمريكية في التعاطي معهم تعرف بعقيدة الدول المارقة Rogue States doctrine.
بدأت الولايات المتحدة باستهداف العراق، الكثيرون يجادولن بأنك إذا أردت الحرب، خلقت الأسباب لخوضها، وقد استطاعت واشنطن التخلص من النظام العراقي على مرحلتين، كانت أولهما عندما قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا لإخراج العراق من الكويت، وقد شكلت هذه الحملة البداية الفعلية للنظام العالمي الجديد وفق الفلسفة الأمريكية بحيث تكون فيه الولايات المتحدة هي القطب الأوحد والقوة الوحيدة القادرة على ممارسة سياسة العصى الغليظة ضد كل أولئك الذين لا يتلزمون بمقتضيات الهيمنة الأمريكية.
ثم فرضت واشنطن ضمن سياسة الاحتواء المزدوج حصارًا خانقًا على بغداد، استطاع أن يضعف الدولة والجيش إلى حد كبير، الأمر الذي مهد الطريق إلى المرحلة الثانية والتي أنجزها الرئيس جورج بوش الابن من خلال الغزو المباشر للعراق وإسقاط نظام صدام حسين.
كان الغزو الأمريكي للعراق الترجمة الفعلية لعقيدة بوش المتمثلة بمحور الشر الذي احتوى كل من العراق وإيران وكوريا الشمالية، والذي يعتبر – أي محور الشر – النسخة المحدثة من عقيدة الدول المارقة التي سبقته بنحو عقد من الزمان.
كان من الممكن أن يكون الهدف الثاني نظام معمر القذافي في ليبيا، فقد كانت العلاقة بين واشنطن وطرابلس متوترة على الدوام، تعرضت طرابلس للقصف الأمريكي المباشر في العام 1986، وكان برنامج ليبيا الكيمياوي محل جدل كبير، هذا بالإضافة إلى نشاطها الموصوم “بالإرهاب”، وضلوعها بعمليات إرهابية مثل حادثة لوكرباي.
قبول النظام الليبي بتفكيك برنامجه الكيماوي، قد صرف الولايات المتحدة عن الاستهداف المباشر له ضمن المعايير المدرجة في عقيدة الدول المارقة
غير أن قبول النظام الليبي بتفكيك برنامجه الكيماوي، قد صرف الولايات المتحدة عن الاستهداف المباشر له ضمن المعايير المدرجة في عقيدة الدول المارقة، ولكن هذا لا يمنع أن الولايات المتحدة، وضمن معايير أخرى لاحقًا، قد تدخلت لتسقط نظام العقيد معمر القذافي، فعبر نافذة التدخل لدواعٍ إنسانية، شاركت الولايات المتحدة بالمجهود العسكري الأكبر لحلف الناتو حينما تدخل في ليبيا ضد نظام معمر القذافي بعيد انطلاق الثورة في العام 2011 ضمن قرار الأمم المتحدة رقم 1973.
هكذا، ومع سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا عام 2012، ومن قبله نظام صدام حسين بالعراق عام 2003، بقي في قائمة الدول المارقة كل من إيران وكوريا الشمالية.
خضعت إيران للعقوبات الأمريكية منذ حادثة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران بعيد الثورة الإسلامية عام 1979، كما أدرجت إيران ضمن قائمة الدول الداعمة للإرهاب حسب اللوائح الأمريكية لمدة استمرت لأكثر من ثلاثة عقود، كما أنها دأبت منذ بداية التسعينيات في تطوير برنامجها النووي.
أصبح التوجه نحو إيران مسألة وقت فقط، ولكن مع التدهور الأمريكي العسكري في كل من العراق وأفغانستان، استطاعت إيران أن تتجنب عملًا عسكريًا أمريكيًا مباشرًا
كان التخلص من النظام الإيراني هدفًا للولايات المتحدة على الدوام، وقد سعت لتحقيقيه عبر عدة طرق، حيث رصدت ميزانية خاصة لهذا الشأن، كما أنها انخرطت في دعم واضح للعراق في أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، في حين بقي خيار استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر مطروحًا على الطاولة أمام الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين، وقد تعزز هذا التوجه بعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإدراج إيران ضمن محور الشر، وتصاعد حدة الخطاب المعادي لإيران في دوائر صنع القرار الأمريكية.
ومع وجود القوات الأمريكية في كل من أفغانستان والعراق، أصبح التوجه نحو إيران مسألة وقت فقط، ولكن مع التدهور الأمريكي العسكري في كل من العراق وأفغانستان، استطاعت إيران أن تتجنب عملًا عسكريًا أمريكيًا مباشرًا.
ليس هذا فحسب، بل تحولت إيران إلى رصيد مهم لنجاح المجهود العسكري الأمريكي في هذين البلدين، ففي أفغانستان – على سبيل المثال – ساهمت إيران في الضغط على تحالف الشمال الأفغاني للتنازل عن بعض الحقائب الوزارية من أجل تشكيل أول حكومة افغانية بعد احتلال كابل، أما في العراق فقد كان لإيران دور كبير في إقناع المكون الشيعي بعدم الانخراط في مقاومة الغزو الأمريكي، كما امتلكت نفوذًا كبيرًا على التحالف الشيعي الذي حكم العراق منذ إسقاط نظام صدام حسين.
تغاضت الولايات المتحدة عن دعم إيران “للإرهاب”، وحاولت اللجوء إلى الطرق أخرى للتعامل مع ملف إيران النووي تمثلت بخيار العقوبات الاقتصادية، والمسار الدبلوماسي، وقد أدت العقوبات الاقتصادية إلى إضعاف الاقتصاد الإيراني بشكل كبير، خصوصًا بعد الجولة الرابعة من العقوبات التي فرضت في العام 2010 ونالت من القطاع البنكي والنفطي لإيران.
وقد مهدت العقوبات من جهة، والرغبة الحقيقية للوصول إلى حل لدى الرئيسين الأمريكي باراك أوباما والإيراني حسن روحاني إلى توقيع الاتفاق النووي الإيراني بين مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، الصين، روسيا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) من جهة، وإيران من جهة أخرى في العام 2013، والتي تعهدت فيه بإيقاف العمل على تطوير برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، هكذا، ومع توقيع الاتفاق النووي تكون الولايات المتحدة قد تخلت عن هدفها القديم والمتمثل بإسقاط النظام الإيراني والتحول إلى مقاربة جديدة تعتمد على تغيير سلوك النظام عوضًا عن تغيير النظام نفسه.
إذا كان الرئيس بوش قد عالج القضية العراقية، وعالج الرئيس أوباما القضية الليبية والإيرانية، يبقى على الرئيس ترامب أن يعالج قضية كوريا الشمالية
إذًا، إذا كان الرئيس بوش قد عالج القضية العراقية، وعالج الرئيس أوباما القضية الليبية والإيرانية، يبقى على الرئيس ترامب أن يعالج قضية كوريا الشمالية، والتي تمثل آخر العنقود في محور الدور المارقة وتعتبر هدفًا مشروعًا من الناحية التاريخية لوجودها منذ البداية على قائمة دول الشر، وهدفًا مشروعًا من الناحية العسكرية لامتلاكها نظامًا رافضًا لقواعد اللعبة مع تربعه على ترسانة من أسلحة الدمار الشامل.
ولكن يبقى السؤال عن الطريقة التي سيعالج بها الرئيس ترامب ملف كوريا الشمالية، هل سيكون على طريقة الكاوبوي للرئيس بوش “من يطلق أولاً”، أم على طريقة الرئيس أوباما المحامي “تحدث لخصومك”؟