تجاهد إيران محاولةً استباق الزمن في سعيها لتنفيذ مشروعها الاستراتيجي المتمثل بالخط البري الواصل بين بلدها والأراضي السورية وصولًا حتى البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي العراقية، في مشروع تُعلق عليه أمالها لكي يكون تتويجًا لجهودها التي قامت بها في العراق وسوريا، من تغيرات كبرى في ديمغرافية المناطق التي يمر بها هذا الخط البري، لتستطيع بنهاية الأمر ربط كل المناطق الخاضعة لنفوذها، بطريق بري يمكنها استخدامه لدعم مناطق نفوذها عسكريًا واقتصاديًا، وممارسة سياسة الأمر الواقع على منافسيها في عموم المنطقة.
ما مسار ذلك الخط البري المزمع إنشاؤه؟
الخط البري المزمع إنشاؤه إيرانيًا في العراق، يمر بمناطق سنية في أغلب مساره، ومن خلال منفذين أحدهما يمر بديالى والآخر يمر بالسليمانية، ليمتد إلى كركوك، ثم يلتقيان في مدينة الشرقاط، ومنها يمتد إلى مدينة الحضر ثم تلعفر فسنجار حتى الحدود العراقية السورية، وصولًا إلى مدينة الحسكة السورية.
وعملت إيران على تطهير تلك المناطق من أهلها السنَّة بشتى الذرائع، كان أهمها، السماح لتنظيم داعش بالاستيلاء عليها، لتأتي بعده المليشيات وجيش حكومة بغداد، لتنزع تلك المناطق من هذا التنظيم، من خلال معارك حطمت بها البنية التحتية لها وطاردة لأهلها العرب السنَّة، مستهدفةً تأمين هذا الخط البري، حتى لا يشكل العرب السنَّة أي خطر عليه.
وقد اقتربت إيران من تحقيق مشروعها هذا ولم يتبق لها سوى منطقة تلعفر التي يعارض الجيش الأمريكي بشدة دخول المليشيات إليها، وهذا يفسر لنا سبب الإصرار الكبير الذي تبديه المليشيات لدخول تلك المنطقة.
لم يعد هذا الأمر سرًا أو يُناقش خلف الأبواب المغلقة، فقد اضطر مدير المركز الإعلامي لوزارة الإعمار والإسكان والبلديات العراقية، أحمد اوات، لتكذيب الأنباء التي أفادت بعزم وزارته لإنشاء هذا الطريق، وقال: “لا وجود لنية إنشاء طريق بري رابط بين الحسكة وكركوك”، مضيفًا: “لم يصدر أي قرار عن هذا الأمر”، بينما كشفت وكالات أنباء عربية عديدة عن افتتاح طريق بري يمتد من مدينة الحسكة في كردستان سوريا إلى إيران مرورًا بمدينة كركوك.
إيران تستغل الطموحات الكردية
يتعامل النظام الإيراني مع طيف واسع من الأحزاب والمنظمات المسلحة ويشملها برعايته، منها ما هو إرهابي بنظر المجتمع الدولي، وما هو غير ذلك، ويحاول النظام الإيراني الاستفادة من تلك المنظمات بأقصى ما يستطيع، وهذه المرة يريد اللعب على الطموحات القومية للأكراد، لكي يجندهم في مشاريعه المتمثلة بالسيطرة على المنطقة، ذلك أن النظام الإيراني ببرغماتيته العالية، لا يتردد بالتحالف مع كل الأطراف على اختلافهم.
فالطريق الذي يبدأ في أحد منافذه بمناطق كردية، ينتهي في سوريا بمناطق كردية أيضًا، وقد ربط النظام الإيراني نفسه بأقوى العلاقات مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المسيطر على السليمانية وكركوك، ومع وحدات حماية الشعب الكردية السورية في الحسكة، مرورًا بمناطق سنجار التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني التركي، تلك التنظيمات التي تتوافق في ولائها للنظام الإيراني وتنسيقها العالي مع النظام العراقي والسوري وبنفس الوقت عدائها للحكومة التركية وحزب البارزاني.
ماذا يمثل هذا الطريق للأكراد؟
يمثل هذا الطريق أهمية قصوى لأكراد سوريا وتركيا لا تقل عن أهميته للنظام الإيراني، حيث إنَّ إقامة طريقٍ بري جديد يربط بين الحسكة وكركوك من شأنه أن يسمح لوحدات حماية الشعب الكردية بالتخلي عن اعتمادها على معبر “فيشخابور” الحدودي الواقع على المثلث التركي العراقي السوري، والذي لا يزال تحت السيطرة الكاملة للحزب الديمقراطي الكردستاني (جماعة البارزاني) المقرب للحكومة التركية.
فمن شأن هذا الطريق كسر العزلة التي يعانيها الأكراد السوريون بعد أن قطعت تركيا بعمليتها “درع الفرات” بين مناطق الأكراد في الحسكة شرق سوريا ومناطق عفرين غرب تركيا، وحالت دون توحيد طرفي مناطق الأكراد لتشكيل شريط كردي محاذٍ للحدود التركية، وسيكون لحزب العمال الكردستاني مطلق الحرية في الحركة بين العراق وسوريا وتوفير الدعم لفرعه في سوريا عسكريًا واقتصاديًا، وسيكون هذا الطريق متنفسًا اقتصاديًا لصادرات الأكراد المحلية عوضًا عن تصريفها عبر المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، والذي اختاره الأكراد بعد أن قطع الأتراك والجيش السوري الحر الطريق عليهم.
ويعارض كل من رئيس “الحزب الديمقراطي الكردستاني” مسعود بارزاني والرئيس التركي أردوغان أي محور استراتيجي يفتح منطقة غرب كردستان (روج آفا) على العالم الخارجي ويعزز أهميتها الجيوسياسية لإيران.
“طريق طهران” مشروع إيران الاستراتيجي
الطريق البري الذي تنوي إيران إنشاءه، والذي يربط بلادها بسوريا عبر العراق سيكون له تأثيرات عسكرية واقتصادية عظيمة لصالح إيران، حيث سيمثل هذا الطريق حاجزًا لعزل تركيا عن المنطقة العربية جنوبًا، والمناطق التي يسكنها العرب السنَّة في العراق وسوريا.
وستكون إيران الجارة الجديدة لتركيا، لكن هذه المرة على حدودها الجنوبية، كما أن هذا الطريق سيشكل أهمية قصوى في دعم النظام السوري، وعلى الرغم من أن هذا الطريق ليس أقصر الطرق للوصول لسوريا بالنسبة لإيران، فإنه سيوفر لإيران ميزة الالتفاف حول مناطق سيطرة تنظيم داعش على طول الحدود السورية – العراقية، وإذا ما نجحت إيران في فتح مثل هذا الطريق، فقد تصبح “روج آفا” حينذاك، طريق عبور إيراني بين العراق وغرب سوريا وحتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فيما إذا غادرت القوات الأمريكية شرق سوريا مستقبلًا، أو اتفقت معهم.
ضبابية الموقف الأمريكي
على الرغم من وضوح الرغبة الأمريكية بتحجيم النفوذ الإيراني في العراق، من خلال تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب، لكنها بنفس الوقت، تجدها متحالفة مع جماعات كردية مختلفة الولاءات، فهي تتحالف مع وحدات حماية الشعوب الكردية السورية وتدافع عنها تجاه الضغوط التركية، رغم علمها أن تلك القوات متحالفة مع حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا عندها، ومتحالف أيضًا مع النظام الإيراني الذي تريد أمريكا تحجيم نفوذه بالمنطقة، وتعتمد عليهم في حربها لتنظيم داعش بدلًا من تركيا.
لكن يمكن أن نتفهم خيار الولايات المتحدة وحلفائها بالتحالف مع أكراد سوريا، كونهم يأملون بمنع طهران من إقامة مثل هذا الطريق البري الذي تحدثنا عنه، لذلك فهم يحتاجون إلى تعزيز نفوذهم في المناطق الكردية في سوريا للحيلولة دون ذلك، وهذا ربما يفسر لنا الإصرار الأمريكي لتعزيز وجود قواتها البرية في مناطق سيطرة أكراد سوريا، كما أن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية مؤخرًا بالتعاون مع حزب البارزاني في غرب منطقة ربيعة قبالة الحدود العراقية السورية والتي توفر لها السيطرة على جبهة تمتد 70 كم من تلك الحدود، من شأنه قطع هذا الطريق أو على الأقل سوف يكون هذا الطريق تحت إشرافهم، لكنهم بنفس الوقت يغضون طرفهم عما تفعله المليشيات الشيعية من تطهير للمناطق التي يمر بها هذا الطريق في ديالى مثلًا.
على تركيا فرض أمر واقع
ويبدو أن تطور الأمور في المنطقة الكردية في سوريا سيكون في غير صالح تركيا وأمنها القومي، وعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة لا تهتم كثيرًا بالمطالب التركية، وأنها عازمة على تمكين الأكراد من إنشاء كانتون لها في سوريا بالقرب من الحدود التركية، لتكون مرتعًا لحزب العمال الكردستاني الغريم الأكبر لتركيا.
ومن هذا فإننا نعتقد أن تحركًا تركيا قويًا في تلك المنطقة، من شأنه تغيير الخارطة العسكرية على أرض الوقع، وسيفرض أمرًا واقعًا على الأمريكان، سيكونون مضطرين للتعامل معه واقعيًا والتعاون مع الأتراك كبديل للأكراد في تحرير الرقة من قبضة داعش، ومن غير المتوقع أن تُقدم القوات الأمريكية على الصدام مع الأتراك، لعدم وجود رغبة أمريكية بمثل هذا التصادم، مع دولة عضو بحلف الناتو، والمغامرة بخسارة بلدٍ مثل تركيا ذات أهمية جيوسياسية بالغة لأمريكا.
إن العمل على فرض حقائق جديدة على الأرض سيقوي الدور السياسي لمن يقوم به، وسيكون له القول الفصل، فالسياسة وحدها لا تكفي إذا لم تساندها الحقائق العسكرية على الأرض، ولا بد من عملية جراحية تقوم بها تركيا للحيلولة دون تعرضها لخطر كبير، ربما ستندم كثيرًا لأنها لم تتخذه، ذلك لأن التهديدات المقبلة ستضرب أمنها القومي بالصميم وربما سيكون بداية لتفككها.