ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد مرور ثلاثة أسابيع على الحرب، بدأ الجمهور الإسرائيلي التركيز على قضية واحدة قبل كل القضايا الأخرى ألا وهي مصير الأشخاص المحتجزين في غزة، ما يجعلها القضية السياسية الرئيسية أيضًا.
في السابق، كان أقارب الأسرى ـ وخاصة المدنيين الذين تحتجزهم حماس ـ يتجمّعون في تل أبيب وأماكن أخرى، في محاولة لجذب الانتباه إلى محنتهم في مظاهرات شبه مهذّبة. ولكن في نهاية الأسبوع الماضي، حدث تحوّل حيث بدأت العائلات تطالب بإطلاق سراح الأسرى بسرعة. ومع أنهم لم يقولوا ذلك علنًا، إلا أنهم ألمحوا إلى أن الهجوم البري في قطاع غزة من شأنه أن يعرض الأسرى للخطر.
إعلان معارضة الهجوم البري لن يكون ببساطة مقبولاً لدى الجمهور الإسرائيلي العازم على الانتقام من الهجوم الفلسطيني الذي وقع في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والذي أسفر عن مقتل حوالي 1400 إسرائيلي. لذا، يقترح أهالي الأسرى بدلاً من ذلك أن تكون الأولوية لإعادة أحبائهم، قبل إخضاع غزة لهجوم بري وجوي. ويبدو أن هذا قد فرض بعض الضغوط على الجيش وعلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
رد الجيش بقول إن الهجوم البري هو السبيل لتشجيع حماس على تخفيف شروطها لأي نوع من الصفقات، على الرغم من أنه لم يحدد أحد حقًا نوع الصفقة التي ترغب إسرائيل نفسها في رؤيتها. ووفقًا للجيش، فإن هذا هو السبب في أن الهجوم البري الذي بدأ في نهاية الأسبوع الماضي كان محدودًا إلى حد ما في نطاقه إذ لم تصل القوات الإسرائيلية بعد إلى المناطق السكنية أو مدينة غزة نفسها.
مع أنه من الصعب أن نرى على وجه التحديد كيف ستؤدي مثل هذه العملية البرية إلى زيادة الضغوط على حماس لحملها على قبول صفقة أفضل، إلا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تقبلت على الرغم من ذلك ما قاله الجنرالات. أما بالنسبة لنتنياهو، فإن انتقادات عائلات الأسرى كانت شخصية أكثر بكثير، وأجبرته على لقاء بعض ممثليهم يوم السبت. وقد كان الاجتماع – كما قيل لي – صعبًا للغاية حيث تحدثت العائلات بكلمات قاسية واتهمت نتنياهو شخصيًا بالمسؤولية عن الكارثة برمتها.
بعد ذلك، نظّمت العائلات مظاهرة صغيرة في تل أبيب حيث أعربت عن مطلب جديد: الكل مقابل الكل. ولكن مرة أخرى، لم يحدد أحد حقًا ما يعنيه ذلك عمليًا. فقد فُهم على نطاق واسع على أنه مطلب بتأمين إطلاق سراح جميع الأسرى في غزة، بما في ذلك الجنود، مقابل إطلاق سراح جميع السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وما زلنا لا نعرف العدد الدقيق للأسرى الذين تحتجزهم حماس والجماعات الفلسطينية الأخرى في غزة. بينما تواصل إسرائيل مراجعة إجمالي عدد الأسرى تصاعديًا، وتقول الآن إن هناك 240 أسيرًا، من بينهم حوالي 30 جنديًا.
مبادلة الأسرى بـ 5200 فلسطيني تحتجزهم إسرائيل – من بينهم 170 قاصر – هي صفقة بعيدة المدى، حتى في سياق صفقة تبادل الأسرى مقابل جلعاد شاليط سنة 2011 حيث تم إطلاق سراح جندي واحد مقابل 1027 فلسطيني. وعندما سُئل عن هذا الاحتمال، لم يستبعد نتنياهو مثل هذه المبادلة قائلًا إنها مطروحة على الطاولة، لكنه رفض الخوض في أي تفاصيل.
هذا في حد ذاته مثير للاهتمام ذلك أن فكرة إطلاق سراح جميع السجناء الفلسطينيين – الذين حُكم على بعضهم بعدة أحكام بالسجن المؤبد بسبب هجمات على مدنيين خلال الانتفاضة الثانية – تعتبر من المحرمات في إسرائيل.
علاوة على ذلك، قال شاؤول موفاز، الذي كان رئيسًا للأركان العسكرية ثم وزيرًا للدفاع خلال الانتفاضة الثانية، إنه يؤيد مثل هذه الصفقة. وكان موفاز نفسه مسؤولاً عن وضع العديد من السجناء البارزين خلف القضبان في المقام الأول، والآن أعلن رسميًا عن ضرورة إطلاق سراحهم.
أهداف متناقضة
بعد هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر على المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة، كان لدى إسرائيل هدف عسكري واحد فقط: سحق حماس. لقد أرادت إسرائيل تخليص غزة بالكامل من المجموعة الفلسطينية بأي وسيلة، بما في ذلك إجبار جميع فلسطينيي القطاع الساحلي البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة على الدخول إلى مصر. ولكن الآن، إلى جانب هذا الهدف المتمثل في تفكيك حماس، يعتبر إطلاق سراح الأسرى هدفًا رئيسيًا آخر للعملية العسكرية.
ويبدو أن الهدفين يتناقضان مع بعضهما البعض. فليس من الواضح كيف يمكنك حقًا سحق حماس، والقتال من منزل إلى منزل ومن شارع إلى شارع، بينما تأمل إعادة الأسرى الإسرائيليين أحياءً. وسيكون الأمر صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيلًا وهذا يضع إسرائيل في موقف معقد. وينضاف هذا إلى حقيقة أن التوجه الرئيسي للهجوم الإسرائيلي حتى الآن كان القصف الجوي المكثف لقطاع غزة، الذي أدى بالفعل إلى مقتل أكثر من 8500 فلسطيني، بما في ذلك أكثر من 3500 طفل.
يدعي الجيش الإسرائيلي أنه قتل حوالي 50 من كبار أعضاء حماس و”المئات” من المقاتلين. وإذا أخذنا هذه المزاعم على محمل الجد، فإن عدد القتلى في صفوف حماس يبلغ نحو 500 قتيل ـ وهو جزء صغير من عدد الأطفال الذين قتلوا وحدهم. لا تولي وسائل الإعلام الإسرائيلية الكثير من الاهتمام لكيفية رد فعل العالم على الخسائر الفادحة في الأرواح في غزة، ولكن ينبغي لها أن تفعل ذلك. ربما يتغير الرأي العام. وقد شهدت الولايات المتحدة ولندن وأماكن أخرى في أوروبا، وكذلك في تركيا ومختلف أنحاء العالم العربي، مظاهرات حاشدة مؤيدة للفلسطينيين.
وفي الوقت نفسه، بدأت لغة المسؤولين الغربيين تتغير: على سبيل المثال، بدأ مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، يحث إسرائيل علنًا على حماية أرواح المدنيين في غزة، وهو تحول ملحوظ بالنظر إلى مدى قرب إدارة بايدن من إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
لا يتزايد الضغط على إسرائيل من الغرب فحسب بل من داخل العالم العربي أيضًا، حيث لا تزال الهجمات تتدفق من لبنان وسوريا واليمن. إن الهجوم البري الضخم يُهدّد بزعزعة استقرار حكومتي مصر والأردن أيضًا. وهذا يشكل مصدر قلق عظيم للولايات المتحدة، التي تهتم بمصير حلفائها الاستراتيجيين في القاهرة وعمان أكثر من اهتمامها بأهل غزة. كما أنه من المحتمل جدًا أن يؤدي ذلك إلى مقتل معظم الأسرى، الأمر الذي سيكون بمثابة صدمة جماعية للإسرائيليين.
لكل هذه الأسباب، لا يبدو أن الهجوم البري الشامل محتملا للغاية. إن استمرار الحرب كما هي – قصف وعمليات برية محدودة وربما تقسيم المنطقة إلى قسمين والوصول إلى مشارف مدينة غزة – قد يكون الخيار الأفضل. ولكن ما مدى استدامة ذلك على المدى الطويل؟
قريبًا سوف يتجاوز عدد القتلى في غزة عتبة العشرة آلاف، وسوف تتزايد الضغوط الدولية.
لقد وُعد الإسرائيليون بحرب طويلة، على الأقل بضعة أشهر، ويستعد جنود الاحتياط العسكريون لهذا الاحتمال. مع ذلك، لن يكون من السهل متابعة مثل هذا الصراع في مثل هذا الاقتصاد المتقدم. ففي حرب الشرق الأوسط سنة 1973، أمضى جنود الاحتياط ما يقارب نصف سنة في الجيش، في اقتصاد أقل تطورًا بكثير.
من المتوقع بالفعل أن ينكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 11 في المائة في هذا الربع بعد الحرب. وإذا استمر الوضع لعدة أشهر فإنه بالطبع سيصبح أسوأ بكثير ويمكن للصناعات الرئيسية مثل التكنولوجيا المتقدمة أن تسحب الاستثمارات والموظفين. ورغم أننا لم نشهد الاضطرابات الاجتماعية في إسرائيل التي شهدناها في سنة 2021، عندما اندلعت أعمال شغب في مدن فلسطينية يهودية مختلطة إلى جانب الحرب على غزة، إلا أن هناك توترات داخلية خطيرة.
يتم طرد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، الذين يشكلون 20 في المائة من السكان، من أماكن عملهم والجامعات التي يدرسون فيها. وفي بعض الأحيان يتم استهدافهم بسبب تعبيرهم عن تعاطفهم مع الأشخاص الذين يتعرضون للهجوم في غزة، ويتم ملاحقتهم بشكل متزايد لمجرد أنهم عرب. اقتحمت حشود من الإسرائيليين، السبت، سكنًا جامعيًا في مدينة نتانيا بوسط إسرائيل يقيم فيه طلاب فلسطينيون، وهتفوا “الموت للعرب”.
وعدت السلطات الإسرائيلية بتسليم 10 آلاف قطعة سلاح للمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة، وتخفيف اللوائح المفروضة على المدنيين للحصول على السلاح في إسرائيل أيضًا. وهذه التوترات بين الطوائف لديها القدرة على أن تكون مدمرة للاقتصاد حيث يؤدي المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل (ناهيك عن العمال من الضفة الغربية) العديد من الخدمات الأساسية، وحوالي ثلث أطباء إسرائيل من الفلسطينيين. ومع أخذ ذلك بعين الاعتبار، هل تستطيع إسرائيل حقًا مواصلة حربها لعدة أشهر متواصلة؟
لا عودة إلى الوضع الراهن
تشير كل المعطيات إلى أن النهاية المثالية لنتنياهو تتلخص في العودة إلى السادس من تشرين الأول/ أكتوبر: إعادة إحياء الوضع الراهن مع حماس من خلال وقف إطلاق النار، ما من شأنه أن يترك الجماعة في السلطة في غزة ولكنها تعرضت لهزيمة نكراء ومنبوذة دوليًا. وعلى مدى ثلاثة عقود، راهن رئيس الوزراء على منع قيام دولة فلسطينية من خلال فصل الضفة الغربية عن غزة وتأليب حماس ضد فتح. وحتى الهجوم الذي وقع قبل ثلاثة أسابيع، خدمته هذه الاستراتيجية بشكل جيد.
لكن بقاء حماس في السلطة في غزة أمر غير مقبول على الإطلاق بالنسبة للشعب الإسرائيلي. وحتى لو أراد نتنياهو ذلك، فمن المرجح أنه لن يتمكن من تحقيقه. من المؤكد أنه أكثر شخص مكروه في إسرائيل في الوقت الحالي حيث يعتبر مسؤولاً عن أكبر كارثة شهدتها البلاد منذ سنة 1973.
إن إسرائيل عالقة بين الرغبة في إبقاء الأسرى على قيد الحياة من خلال الامتناع عن القيام بعمليات برية كبرى، والسعي إلى مواصلة حملة القصف غير المستدامة، ومحاولة إزاحة حماس من السلطة. فهل هناك طريقة للخروج؟ ربما في ظل شبح التدخل الدولي.
لقد أصبحت حرب غزة بالفعل إلى حد ما صراعًا دوليًا ـ أكثر كثيرًا من الانتفاضة أو الصراعات السابقة في القطاع. سافر العديد من رؤساء الدول إلى إسرائيل بعد اندلاع الحرب، ويرى البعض الصراع على غرار أوكرانيا وحرب واشنطن الباردة مع روسيا والصين. كما يحمل العديد من الأسرى جوازات سفر أجنبية.
فجأة، أصبح هناك إلحاح في المجتمع الدولي بشأن إسرائيل وفلسطين، وهو ما كان مفقودًا خلال العقدين اللذين أعقبا فشل قمة كامب ديفيد. ويبدو أن واشنطن – أو على الأقل جو بايدن – لم تعد مقتنعة بأن الإسرائيليين قادرون على إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بمفردهم.
وربما نرى نوعًا من القوة الدولية في غزة (وربما حتى قوة عربية) كوسيلة للخروج من القتال تكون مقبولة لدى إسرائيل وشعبها، فضلاً عن الفلسطينيين، وربما حتى حماسك طريق آخر أكثر شرًا بكثير، وهو القتال المطول، ومحاولة طرد جميع الفلسطينيين من غزة، إل. وهناى جانب عشرات الآلاف من القتلى. وقد يؤدي ذلك إلى صراع إقليمي يشمل حتى الأردن ومصر، وربما يهدد وجود إسرائيل ذاته.
إن مثل هذه السيناريوهات الأسوأ حقيقية للغاية، ولا ينبغي لنا أن نتجاهلها. ولكن ربما لهذا السبب، هناك أمل. نأمل أن يتدخل المجتمع الدولي قبل أن يحدث الأسوأ.
المصدر: ميدل إيست آي