التهجير القسري ومشاعر نكبة عام 1948، من جديد، يمثل أحد أكثر المحن التي يواجهها الفلسطينيون في غزة قساوة خلال العدوان الإسرائيلي المستمر منذ نحو شهر على القطاع المحاصر، فقد هام الناس على وجوههم بحثًا عن مأوى آمن، لهم ولأطفالهم.
لم تترك “إسرائيل” شبرًا إلا واستهدفته، وتعمّدت إلحاق أكبر قدر من الخسائر والأضرار في المباني السكنية والمنشآت العامة والمرافق الخدماتية، وتنتهج حكومة الاحتلال سياسة الأرض المحروقة، هادفة إلى مساحات واسعة من الدمار مع أعداد أكبر من الضحايا.
وتضررت 50% من الوحدات السكنية بشكل كلي أو جزئي، جراء شدة القصف واستهداف أحياء سكنية بالكامل بآلاف أطنان القنابل شديدة الانفجار، وقد دمّرت “إسرائيل” نحو 200 ألف وحدة سكنية في غاراتها العنيفة على غزة، وهو ما يمثل أكثر من 25% من المناطق المأهولة بالقطاع، وفقًا لتقارير المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.
وأضاف: “إجرام المحتل في العدوان الحالي غير مسبوق، حيث شطب أسرًا بكاملها من السجل المدني، ومحا أحياء ومناطق وتجمعات سكنية بقاطنيها، كما دمّر منشآت بما فيها من مستشفيات ودور عبادة ومخابز ومحطات تعبئة مياه وأسواق ومدارس ومؤسسات تعليمية وخدماتية”.
70% من سكان قطاع غزة بواقع 1.5 مليون مواطن خارج منازلهم قسريًّا، في مراكز إيواء تصل إلى أكثر من 220 مركزًا أو تجمعات مستضيفة في مختلف المحافظات، وقالت الأمم المتحدة على لسان أمينها العام أنطونيو غوتيريش: “إن أكثر من مليوني شخص محرومون من مقومات الحياة الأساسية من طعام وماء وملجأ وعناية طبية دون أن يكون لديهم مكان آمن يذهبون إليه، فيما يتعرضون لقصف متواصل. أحضّ كل الذين يتولون مسؤوليات على التراجع عن حافة الهاوية”.
وتوجّهت العائلات النازحة بقطاع غزة بفعل قصف وتدمير منازلها إلى مدراس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، المكان الذي يلجأ إليه المواطنون مضطرين في هذه الظروف، رغم إغلاقها العديد من المدراس بعد إعلان الاحتلال مدينة غزة وشمال القطاع منطقة حرب، وتهجيره للسكان إلى ما بعد وادي غزة جنوب القطاع، ومنهم من يمكث في الخيم وساحات المستشفيات المفتوحة وبيوت الأقارب وفي الشوارع أيضًا.
منطقة منكوبة وأرض محروقة
نتيجة للتكدُّس السكاني الكبير في مراكز الإيواء، نجد أن بعض المدارس تضم نحو 7 آلاف و500 نازح في حين هي مخصصة لـ 500 طالب، ولا يوجد فيها سوى حمّامَين، ما أدى إلى مضاعفة المعاناة وزيادة الوضع الصحي والبيئي والمعيشي خطورة، لذلك واجه النازحون نقصًا في مياه الشرب والمياه ذات الاستخدامات الأخرى، ما ساهم في تدنّي مستوى النظافة وبالتالي زيادة مخاطر انتشار الأمراض كالجرب.
من الجانبَين الإنساني والحقوقي، يقول رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني بغزة “حشد”، صلاح عبد العاطي، إن استهداف الوحدات السكنية والمباني متعددة الطوابق ومنازل المواطنين والأحياء السكنية والإنشاءات المدنية جرائم حرب، كون القانون الدولي الإنساني يحظر استهداف الممتلكات المدنية، ويجعل من استهدافها جرائم تتطلب المحاسبة الدولية.
مكملًا أن الهدف من تدمير منازل المواطنين والأحياء السكنية هو جعل غزة منطقة منكوبة وأرض محروقة، للانتقام من الفلسطينيين وتحويل مدينة غزة إلى منطقة غير صالحة للحياة، وهذا ما فعله الاحتلال الإسرائيلي بتدمير نصف مباني وحدات قطاع غزة السكنية، ولدفع السكان للهجرة القسرية ولاحقًا لعدم العيش في القطاع.
وأضاف الحقوقي عبد العاطي لـ”نون بوست”، أن أكثر من مليون و700 ألف نازح يعيشون في أوضاع إنسانية كارثية، في مدراس وكالة الغوث الدولية ومدراس الحكومة والمساجد والكنائس والمستشفيات وبيوت الأقارب والأصدقاء والشوارع، في ظل شحّ وانعدام المياه الصالحة للشرب ونقص الغذاء وانتشار الأمراض والأوبئة الصحية، بسبب غياب مياه النظافة وشرب مياه غير صالحة، وفي ظل التكدُّس وغياب أدنى مقومات الحياة الإنسانية ونقص الأفرشة والأغطية.
لغاية الآن يعيش سكان قطاع غزة أكبر جريمة إبادة جماعية ومجازر متواصلة طالت 900 عائلة، معظم الشهداء تمّ قتلهم بعد قصف منازلهم فوق رؤوسهم دون سابق إنذار، وقرابة 10 آلاف شهيد 70% منهم أطفال ونساء، وقرابة 2500 جثة تحت الركام بسبب العجز عن انتشالها، لنقص المعدّات وطواقم الدفاع المدني وكبر حجم المجازر والجرائم.
مصير مجهول مرهون بالنتائج
يوضّح رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، أن كل من قُصفت منازلهم يعانون الآن من النزوح القسري وألم فقدان الأقارب والأصدقاء، عدا عن معاناتهم التي سوف تستمر بسبب عدم قدرتهم على العودة إلى منازلهم التي دُمّرت أو تضررت بشكل غير صالح للسكن، ما يعني انتظار عملية الإعمار التي قد تطوّل مدة بقائهم في المدراس، أو في بيوت الأقارب والأصدقاء والجيران، أو استئجار منازل أخرى إن توفّر.
“وسيكون هناك تكدُّس كبير في الشقة الواحدة ما يفرض معاناة أخرى، فبعد وقف إطلاق النار سوف تتكشف المأساة الإنسانية التي تسبّب فيها الاحتلال، عدا عن عملية رفع الركام وانتشال الجثث، وإعادة إعمار البنية التحتية والخدمات، وهذا أمر سيبقي سكان القطاع لسنوات تحت المعاناة الإنسانية القاسية”، وفق حديث رئيس منظمة “حشد” لدعم حقوق الشعب الفلسطيني.
بعد كل موجات التصعيد والحروب المتتالية على قطاع غزة، تغرق حكومة الاحتلال الإسرائيلي القطاع المحاصر بأزمة الإيواء، وتتعامل مع هذا الملف المصيري بنظام المراوغة والمقايضة، لأجل تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية لا أكثر، بينما يعيش الغزيون إزاء ذلك ظروفًا إنسانية كارثية معقدة، يفاقم هذه الظروف توالي الحروب وتزايد رقعة الدمار.
يقول الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم المدهون، إن “أهداف الاحتلال الإسرائيلي في عملية التدمير وارتكاب المجازر الوحشية بقطاع غزة، من أجل إشباع غريزة الانتقام الوحشية بعد عملية “طوفان الأقصى”، قتل أكثر عدد ممكن وتدمير أكبر عدد ممكن من الأحياء السكنية، وقد أعلن أن هدف عدوانه إعادة غزة 50 عامًا إلى الوراء، أي أنه سيدمّر كل ما بُني خلال العقود الخمسة الماضية”.
متابعًا: “أما الهدف الثاني هو ضرب الحاضنة الشعبية الني تحتضن المقاومة وتقويها وتعززها، والانتقام من المقاومين بتدمير بيوتهم وقتل عوائلهم، من أجل نبذ المقاومة والضغط عليها، بالإضافة إلى إضعاف المجتمع الفلسطيني، لأن “إسرائيل” تعتبر أن عدوها كل ما هو فلسطيني”.
سيناريوهات إيواء النازحين
ويشير المدهون، خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى نية حكومة الاحتلال تهجير سكان قطاع غزة، مردفًا: “باتت “إسرائيل” قلقة من غزة ومستقبلها، وتدرك أن استمرار وجود القطاع يشكّل لها خطرًا وجوديًّا، لذلك يخطط لعملية إزاحة للسكان، من خلال التدمير والإبادة وهما جريمة حرب، خاصة أنه يقوم بهما ضد المدنيين”.
في ضوء ذلك، يتابع المحلل السياسي أن سيناريوهات إيواء النازحين والمتضررين مرهونة بنتائج الحرب: “إسرائيل ستحاول فرض الكثير من الشروط، بما فيها ملف الإعمار، فإذا لم يستطع الاحتلال أن يحقق أهدافه من العملية العسكرية على قطاع غزة، ستذهب دول عربية وأوروبية لتبنّي مشاريع لإعادة الإعمار، وهذا سيأخذ وقتًا كبيرًا، وستعمل “إسرائيل” على عرقلته والمماطلة، كما في المرات السابقة”، ويقصد بعد حرب 2014 وما بعدها من حروب دمرّت الآلاف من الوحدات السكنية والأبراج.
كابوس ثانٍ يلاحق سكان القطاع من المتضررين تحت القصف والموت العشوائي، من تكرار سيناريو الإعمار ما بعد حرب 2014 في إيواء المتضررين من القصف وتدمير المساكن، وتعامل الاحتلال والدول المانحة وقتها، حين قدّمت المنظمات الدولية بيوتًا حديدية بديلة ومؤقتة لا تتجاوز مساحتها عدة أمتار (الكرافانات)، عاش فيها المتضررون واقعًا مأساويًّا صعبًا، بعد أن دُمّرت منازلهم خلال العدوان الإسرائيلي صيف 2014، إذ لا تتوفر في هذه “الكرفانات” أبسط المقومات الحياتية والصحية والإنسانية، خاصة مع دخول فصل الشتاء.
أما السيناريو الثالث والمتعلق بمصير النازحين، يتمثل في تهجيرهم إلى سيناء أو النقب لكنه بات ضعيفًا، وذلك لرفض مصر عملية التهجير من جهة وتمسُّك الشعب الفلسطيني بأرضه من جهة أخرى، فرغم الدمار والقتل العشوائي إلا أن الشعب متمسّك بأرضه ولم يخرج من القطاع، الكل رافض عمليه التهجير هذه، فالباب أُقفل تمامًا لأن نتائج التهجير أسوأ بكثير من نتائج البقاء، حتى لو تم دفع أثمان كبيرة، وفق الكاتب المدهون.
لم تنته الحرب، فعدوان دولة الاحتلال المدعوم أمريكيًا، مستمر بلا هوادة، ما قد يعني أن مأساة الغزيين ستتضاعف، ولا يُعرف بدقة مصير النصف الآخر من الناجين الذين ما تزال أبنيتهم قائمة، فشهوة الانتقام الإسرائيلية لمّا ترتوي بعد من سفك الدماء والبطش بالأطفال والنساء والآمنين.