أقوال بعض الناس أكثر جرأة من أفعالهم بكثير، فالكلام سهل أما التطبيق والفعل فيتطلبان تضحيات كبيرة، ينطبق هذا الأمر على الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي صمّ أذاننا قبل تقلّده كرسي الحكم بالشعارات المناهضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
ذات يوم قال سعيّد على مسمع ومرأى الجميع إن “التطبيع خيانة عظمى”، وما إن وصل إلى قصر قرطاج حتى غاب هذا الشعار عنه لفترة، وخلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة رجع الرئيس التونسي إلى سالف عهده، فلا جُمْرُك على الكلام، كما يُقال.
خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، ظلّ سعيّد يردد الشعارات الرنّانة دفاعًا عن الحق الفلسطيني وتنديدًا بجرائم الاحتلال الإسرائيلي بحقّ المدنيين العزّل، لكن دون خطوات ملموسة لها أن تنصر الفلسطينيين فعليًّا.
هل هذا كافٍ؟ يبدو أنه ظن ذلك، على أن مشروع قانون تجريم التطبيع المعروض على أنظار نواب البرلمان أحرجه وأربكه، إذ لم يكن يتوقع أن يخرج البرلمان عن طوعه -وهو الذي شكّله وفق رغبته قبل سنة من الآن-.
مشروع قانون تجريم التطبيع
شرع البرلمان التونسي أمس الخميس في مناقشة مشروع قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وقال رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة في خطاب افتتاح الجلسة: “سنبقى على موقفنا الثابت بأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لشعبنا، وأننا ضد التطبيع وضد الاعتراف بشرعية هذا الكيان، ونحن على موقف ثابت من أن فلسطين يجب أن تحرر من النهر إلى البحر واسترجاع كامل الوطن”.
ويتضمن مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني والاعتراف به والتعامل معه 7 فصول، ويتعلق الفصل الأول بتسمية “إسرائيل” “كيانًا صهيونيًّا”، ووصفها بـ”الجهاز المحتل الغاصب للأراضي الفلسطينية، وأراضٍ عربية أخرى كالجولان ومزارع شبعا”.
فيما يعرّف الفصل الثاني من مشروع القانون “التطبيع اعترافًا وتعاملًا جريمة يعدّ مرتكبًا لها كل شخص تعمّد القيام أو المشاركة أو محاولة القيام بالتواصل أو الاتصال او الدعاية أو التعاقد أو التعاون بكل أشكاله بمقابل أو من دونه، بصفة عرضية أو متواترة، بشكل مباشر أو بواسطة، من قبل الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين ينتمون للكيان الصهيوني أفرادًا ومؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات حكومية أو غير حكومية، عمومية أو خاصة، باستثناء فلسطيني الداخل”.
لا يستبعَد أن يعلن نظام سعيّد تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، ويمكن أن يتعلّل سعيّد والمحيطون به بصعوبة الوضع الاقتصادي.
كما يجرّم مشروع القانون المعروض على نواب البرلمان المشاركة بأي شكل من الأشكال في الأنشطة والفعاليات والتظاهرات والملتقيات والمعارض والمسابقات بأنواعها، “التي تقام على الإقليم الذي تحتله أو تتحكم فيه سلطات الكيان الصهيوني”.
فضلًا عن ذلك، ينص مشروع القانون على توجيه تهمة “الخيانة العظمى” إلى كل من “تخابر مع الكيان الصهيوني”، ويعاقب مرتكب “جريمة التطبيع” بالسجن مدى الحياة، أو لمدة تتراوح بين 6 سنوات و12 سنة، وبغرامة مالية تصل إلى 100 ألف دينار (حوالي 30 ألف يورو).
يُذكر أن تقديم هذا المشروع تمّ من قبل 15 نائبًا في البرلمان في 12 يوليو/ تموز الماضي، وينتمي النواب إلى كتلة “الخط الوطني السيادي”، وهي تحالف يجمع نواب حركة الشعب (قومي ناصري) ونواب حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد اليساري.
سعيّد يرفض التجريم
عرفت جلسة المصادقة على مشروع قانون تجريم التطبيع توترًا كبيرًا وانقسامًا، بين نواب تمسّكوا بالتصديق عليه وآخرين طالبوا بإرجائه وإرجاعه للنقاش، ما أكد من البداية وجود رغبة خفية في وضع مشروع هذا القانون أدراج الطاولات.
تأكدت هذه الفرضية فيما بعد، فخلال الجلسة المسائية للبرلمان، قال إبراهيم بودربالة إن الرئيس قيس سعيّد قد “أوصاه بأن يبلغ النواب بتأجيل الجلسة، نظرًا إلى ما يمثله مقترح القانون من آثار سلبية على أمن تونس الخارجي وعلى مصالحها”.
وأضاف رئيس البرلمان أن سعيّد يعتبر أن الأمر يتعلق بخانة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي، وأن المسألة اتخذت طابعًا انتخابيًّا لا أكثر ولا أقل، وتابع بودربالة قائلًا: “هذا هو موقف رئيس الجمهورية الذي صرّح به بحضور النائبة سوسن مبروك والنائب أنور المرزوقي، وأنا عاهدت نفسي أن أكون أمينًا معكم، وأن ما يهمني هو مصلحة الوطن ومصلحة المسار والمجلس ولكي نتحاشى إدخال البلاد في المجهول”.
بودربالة يؤكد أن قيس سعيد يرفض قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل لأنه يعتبر أن هذا القانون سوف يضر بالمصالح الخارجية لتونس
و يقول أن المسألة إتخذت طابعا إنتخابيا لا أكثر و لا أقل !
لكم التعليق….
لي التعليق :قيس سعيد مطبع عن جدارة👌👎#يسقط_الانقلاب_في_تونس #التطبيع_خيانة_عطمى pic.twitter.com/dspfuIwDQV
— 🌟🌟 ✌️✌️نــايـڵــة🌼🌺🌷🌺 (@aappchina) November 3, 2023
يظهر من كلام بودربالة -الذي التقى سعيّد قبل ساعات من عرض مشروع قانون تجريم التطبيع أمام البرلمان- عدم رغبة الرئيس التونسي في تجريم التطبيع، رغم أنه سبق أن أكّد في أكثر من مرة أن التطبيع خيانة عظمى.
لم يستجب نواب البرلمان لتوصيات بودربالة، ما دفع هذا الأخير إلى تأجيل الجلسة لليوم، حتى لا تتم المصادقة على مشروع القانون، ويتم إحراج الرئيس المطالَب بالتوقيع على هذا الأمر ونشره في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
ويتوقع أن تضغط الرئاسة على نواب البرلمان ودفعهم لعدم المصادقة على مشروع قانون تجريم التطبيع، والتعلُّل بضرورة إعادة صياغته وتعديله مجددًا، وذلك عملًا برغبة الرئيس قيس سعيّد الذي -يبما يبدو- لا يريد غلق أبواب التواصل مع الكيان الإسرائيلي مستقبلًا.
وسبق أن شدد وزير الخارجية التونسي نبيل عمّار، في مقابلة مع التلفزيون الحكومي، على أن “كل قانون يجب أن يدرس لتحديد تداعياته… لا يمكن أن نصدر قانونًا في يومين، من نجرّم؟ نحن ليس لدينا علاقات مع الكيان الصهيوني، فماذا نجرّم؟”.
عدم رغبة سعيّد في المصادقة على مشروع قانون يجرّم أو يعاقب تطبيع العلاقات السياسية أو الاقتصادية مع الكيان الإسرائيلي، الهدف منه ترك الباب مفتوحًا أمام كل التطورات التي يمكن أن تحصل في البلاد، حتى لا يكون في حرج أكبر إن قبل التطبيع.
خلال معركة طوفان الأقصى، جدد الشعب التونسي دعمه اللامحدود للقضية الفلسطينية.
لا يستبعَد أن يعلن نظام سعيد تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، ويمكن أن يتعلل سعيّد والمحيطون به بصعوبة الوضع الاقتصادي والعزلة الدولية المفروضة على النظام لتبرير التطبيع، خاصة أنه يريد الحفاظ على كرسي الحكم مهما كلفه الأمر.
وخلال فترة الرئيس سعيّد، أصبحت تونس أقرب من أي وقت مضى إلى التطبيع مع كيان اغتصب الأرض وشرد الفلسطينيين ونكّل بهم على مرأى ومسمع الجميع، وامتهن ارتكاب المجازر وجرائم الحرب بحقّ الفلسطينيين العزّل.
نذكر أنه في عهد سعيّد تمّت المصادقة على انضمام تونس لبروتوكول الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية في المتوسط، ومن أعضائه “إسرائيل”، ويندرج البروتوكول في إطار اتفاقية برشلونة لحماية البيئة البحرية والمنطقة الساحلية للبحر الأبيض المتوسط، وقد سبق أن تمّ رفض هذا البروتوكول في عهد بن علي وبعد الثورة أيضًا.
وفي زمن سعيّد أيضًا، جلس وزير الدفاع التونسي إلى الطاولة نفسها مع نظيره الإسرائيلي، واستقبلت تونس رحلات مباشرة من تل أبيب، وفتحت أبوابها للاعبين إسرائيليين للّعب فوق أراضيها، وسمحت لذهاب سياح تونسيين نحو كيان الاحتلال، وتفهّمت تطبيع الدول العربية وقالت إن ذلك وجهة نظر وشأن داخلي.
دعم شعبي مطلق للقضية الفلسطينية
هذا التردد الرسمي في دعم القضية الفلسطينية بصفة فعلية يقابله دعم شعبي مطلق لهذه القضية، إذ يرى الشعب التونسي دون استثناء أن القضية الفلسطينية هي قضيته المركزية، وقد سبق أن شارك عديد التونسيين في صفوف المقاومة الفلسطينية، كما امتزج الدم الفلسطيني والتونسي في أكثر من مرة، أبرزها خلال قصف مدينة حمام الشط بالعاصمة تونس سنة 1985، واغتيال القياديَّين الفلسطينيَّين بتونس أبو جهاد وأبو إياد سنتَي 1988 و1991.
وخلال معركة “طوفان الأقصى”، جدد الشعب التونسي دعمه اللامحدود للقضية الفلسطينية، فمنذ بداية العملية يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم ينفك الشعب التونسي يخرج في مظاهرات حاشدة تضامنًا مع الفلسطينيين وتنديدًا بالجرائم الإسرائيلية بحقّ المدنيين.
تونس اليوم
الشعب يريد تجريم التطبيع#طوفان_الاقصى#غزة_تحت_القصف#غزه_تقاوم#غزة_تنتصر#فلسطين_حرة pic.twitter.com/bkfR16KRwr
— abderaouf Bali journalist (@rav4112) November 2, 2023
سجّلت العاصمة تونس أبرز تلك المظاهرات، والتي نادت خلالها الجماهير بطرد سفراء فرنسا والولايات المتحدة لتورّطهما في قتل الفلسطينيين، وتواصل جرائم الاحتلال الصهيوني بحقّ المدنيين العزّل، ونادت أيضًا بتجريم التطبيع.
كما نظّم التونسيون حملات تضامنية لجمع التبرعات المالية والغذائية والطبية لفائدة الفلسطينيين، فضلًا عن تنظيمهم حملات تضامنية على مواقع التواصل الاجتماعي، للتعريف بالحق الفلسطيني وفضح جرائم الكيان الإسرائيلي.
يشترك التونسيون في حبّهم لفلسطين، ويمكن أن نعاين ذلك بسهولة تامة في الشوارع ومدرجات الملاعب والمدارس، وفي كل زوايا البلاد التي تمتلئ بأعلام فلسطين، وفي المقاهي حيث يتداول التونسيون يوميًّا الأوضاع في فلسطين المحتلة.