لن تجعلوا من شعبنا
شعبَ هنودٍ حُمرْ
فنحنُ باقونَ هنا
في هذه الأرضِ التي تلبسُ في معصمها
إسوارةً من زهرْ
فهذهِ بلادُنا
فيها وُجدنا منذُ فجرِ العُمرْ
(نزار قبّاني)
كل عام في الخامس من أيار بحسب التقويم العبري، يخرج الإسرائيليون عن بكرة أبيهم للاحتفال باليوم الوطني لدولة الاحتلال، أو ما يعرف بيوم الاستقلال “Yom Ha’atzmaut/ يوم هاعتسماءوت”، في ذكرى إعلان قيام دولة “إسرائيل”، واعتماد وثيقة الاستقلال، ونهاية الانتداب البريطاني على فلسطين.
تلك الذكرى المعروفة لدينا نحن العرب بذكرى “النكبة”، والتي وقعت في الساعات الأخيرة من يوم 14 من مايو 1948، بحسب التقويم الميلادي.
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
خريطة نادرة تظهر فيها محافظات وقرى ومدن فلسطين قبل نكبة عام 1948 – من مكتبة الدكتور حيدر عنان
تلك النكبة التي اُرتكبت فيها المذابح وهُدِّمت فيها القرى الفلسطينية، وشُرِّد فيها آلاف الفلسطينيين وهُجروا قسريًا للداخل والخارج، من أجل إقامة الدولة اليهودية أو ما يُعرف بإسرائيل، وتتضمن أحداث النكبة، احتلال معظم الأراضي الفلسطينية من قِبل الحركة الصهيونية، وطرد ما يزيد على 750 ألف فلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين.
كما يشير مصطلح النكبة أيضًا، إلى عشرات المجازر والفظائع وجرائم الإبادة وأعمال النهب والسلب التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، وهدم ما يزيد على 500 قرية وتدمير المدن الفلسطينية الرئيسية وتحويلها إلى مدن يهودية، في محاولة لطمس الهوية الفلسطينية والادعاء بأن هذه الأرض كانت بلا شعب.
كما تشير “النكبة” إلى محو الأسماء الجغرافية العربية وتبديلها بأسماء عبرية، وتدمير طبيعة البلاد العربية الأصلية من خلال محاولة خلق مشهد طبيعي أوروبي دخيل على المنطقة العربية.
استقلالهم يوم نكبتنا
فلسطيني من الداخل يمسك بمجسم على هيئة خريطة فلسطين
ويوم هاعتسماؤوت يوم عطلة رسمية في إسرائيل، ويعني بالعبرية يوم الاستقلال، وهو الموافق – كما أشرنا سابقًا – ليوم 5 من أيار في التقويم العبري، وإذا حلّ يوم جمعة أو سبت، فإن الاحتفال بالعيد يكون يوم الخميس الذي يسبقه.
وتبدأ الاحتفالات بالعيد على جبل “هرتزل” – تيودر هرتزل مؤسس الدولة الإسرائيلية – في القدس بجوار مقبرته، ويبدأ المتحدث باسم الكنيست الاحتفال بإيقاد شعلة، ثم اثنتي عشرة شعلة أخرى، في إشارة إلى القبائل العبرية الاثنتا عشرة، ثم يسير حَمَلِة المشاعل في استعراض، ثم يبدأ استعراض عسكري لفصائل الجدناع، ومن ثم تبدأ الاحتفالات الرياضية والاحتفالات الراقصة.
وتمنح جوائز إسرائيل في ذلك اليوم، وينتهي الاحتفال بإطلاق المدافع على أن يكون عدد الطلقات مساويًا لعدد سنين الاستقلال/ الاحتلال.
ومؤخرًا وتحديدًا منذ عام 1998، يُحيي فلسطينيو الداخل ذكرى النكبة كل عام في يوم هاعتسماؤوت، رافعين شعار “يوم استقلالكم، يوم نكبتنا”، حيث يخرج الآلاف من أبناء فلسطين ومن عرب 48، في اتجاه إحدى القرى المهدمة والتي بُني مكانها مدينة إسرائيلية، في مسيرات يُطلق عليها “مسيرة العودة”، رافعين فيها الأعلام الفلسطينية، ومفاتيح البيوت المهدمة، وحاملين على الأكتاف في مقدمة الصفوف، الشيوخ والعجائز الذين شهدوا النكبة، وهُجّروا قسريًا من هذه المدن والقرى التي هدمت من أجل بناء الكيان الصهيوني الغاصب، ولأجل إرسال رسالة مفادها أن العودة حق لا تفاوض عليه.
صورة من مسيرة العودة إلى قرية الكابري بالأمس
وفي السنوات الأخيرة، حاولت الحكومة الإسرائيلية بكل ما أوتيت من قوة، منع فلسطينيو الداخل/ عرب 48، من إحياء ذكرى النكبة في الخامس من أيار، لما يحملة هذا التاريخ من مناسبة يهودية خاصة، إلا أن كل محاولاتها باءت بالفشل، بسبب كِبر الأعداد المشاركة كل عام، وخاصة من الأجيال الشابة والأطفال.
وسنّت “إسرائيل” قبل سبع سنوات، قانونًا يفرض غرامات مالية على كل مؤسسة تتلقى ميزانية من الخزينة العامة، لمنع المجالس البلدية والقروية من تمويل أي نشاطات لإحياء النكبة في هذا اليوم، لكن، هذا القانون لم يقف عقبة في وجه الفلسطينيين، الأمر الذي جعل من المتوقع أن يُطالب النواب اليمينيون في الكنيست بتوسيع نطاق العمل به.
مسيرة العودة إلى “الكـابري”
صورة قديمة تعود لعام 1920 لقرية الكابري المهجرة التي احتضنت مسيرة العودة بالأمس في ذكرى النكبة – مصدر الصورة: تويتر
وحل يوم 5 من أيار في التقويم العبري أمس الثلاثاء الموافق 2 من مايو في التقويم الميلادي، وبدأت الاحتفالات الإسرائيلية بعد غروب يوم الإثنين 1 من مايو/ 4 من أيار، في حين دعت “جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين” ولجنة المتابعة العليا، جموع فلسطيني الداخل/ عرب 48 – أبناء وأحفاد 160 ألف فلسطيني لم يغادروا أراضيهم بعد قيام إسرائيل، ويشكلون نحو 20% من إجمالي عدد السكان في “إسرائيل” – إلى المشاركة في مسيرة العودة العشرين إلى قرية “الكابري” المهجّرة منذ عام 1948، والواقعة في قضاء عكا، والتي أقيم على أنقاضها بلدة يهودية تحمل نفس الاسم.
جولة في قرية الكابري الفلسطينية المهجّرة
وقرية الكابري تهجرت في 21 من مايو عام 1948، بعد أن هجمت القوات والمنظمات الصهيونية المجرمة على القرية وذبحت العديد من سكانها وطردت آخرين كان عددهم آنذاك 6218 نسمة، وتم هدم كامل بيوت القرية والبالغ عددها وقتئذ 1477 بيتًا، واغتصاب أرضها بالكامل لتقام على أنقاضها مستعمرات كابري وكعتون.
ووفقًا لخبر ذكرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية قبل شهر، فإن منظمي المسيرة توجهوا للشرطة للحصول على التراخيص القانونية اللازمة لتنظيم المسيرة السنوية، إلا أن الشرطة رفضت المصادقة على الترخيص.
وقال منظمو المسيرة إن رفض الشرطة منح الترخيص يعود لأسباب سياسية، فيما قالت الشرطة: “هذا اليوم يتزامن مع احتفالات الاستقلال في إسرائيل، ولأسباب مهنية عينية حيث تنظم في المقابل نشاطات احتفالية عديدة وبالتالي فإن الشرطة تعمل في هذا اليوم على أمن وأمان ملايين المحتفلين في إسرائيل”.
وأضافت الشرطة في تصريح لصحيفة هآرتس “مسيرة كهذه التي يشارك فيها نحو 25 ألف متظاهر، تتطلب جهود شرطوية حثيثة وهذا الأمر غير متاح في مثل هذا اليوم”، إلا أن مسيرة العودة تقام منذ 18 عامًا في نفس اليوم الذي تحتفل فيه إسرائيل باستقلالها، ولم ترفض الشرطة في السابق منح أي تراخيص لهذه المسيرة بسبب “انشغال الشرطة في تأمين احتفالات استقلال إسرائيل”، كما تقول.
وأشار محامون من الجمعية المنظمة لمسيرة العودة، إلى أن “قرار الشرطة هو قرار سياسي وليس مهني، حيث إن المسيرة تقام منذ 18 عامًا في نفس اليوم الذي تحتفل فيه إسرائيل باستقلالها” وفق الصحيفة، وأشارت “هآرتس” إلى أن منظمة “عدالة” الحقوقية ستتوجه إلى المحكمة لمطالبة الشرطة بتقديم التراخيص المناسبة لتنظيم المسيرة، التي أكد محامٍ عنها أيضًا أن هناك “شبهات تشير إلى أن رفض الشرطة لمنح ترخيص قانوني للمسيرة بأنه على خلفية سياسية”، غير أن الشرطة الشرطة الإسرائيلية عادت يوم السبت الماضي، ومنحت ترخيصًا لهذه المسيرة، استجابة لمطلب منظمي “مسيرة العودة”.
لقاء مع أهالي قرية الكابري المهجّرين قسريًا إلى لبنان
وفي تمام الساعة الثانية ظهرًا بتوقيت القدس المحتلة، تجمع الآلاف من فلسطينيي الداخل المحتل، وانطلقوا في تمام الساعة الثالثة عصرًا في اتجاه قرية الكابري، رافعين الأعلام الفلسطينية وصور الأسرى في سجون العدو الصهيوني وصور أبناء المخيمات من أهل قرية الكابري الذين لم يستطيعوا الحضور، في إشارة إلى حقهم في العودة، وتوقفوا في البقعة المختارة كمكان تنظيم للمهرجان السياسي والثقافي، حيث تم تنظيم فعاليات شتّى تُرسّخ حق العودة والانتماء الوطني، خلال المسيرة والمهرجان.
من قصبِ الغاباتْ
نخرجُ كالجنِّ لكمْ.. من قصبِ الغاباتْ
من رُزمِ البريدِ، من مقاعدِ الباصاتْ
من عُلبِ الدخانِ، من صفائحِ البنزينِ، من شواهدِ الأمواتْ
من الطباشيرِ، من الألواحِ، من ضفائرِ البناتْ
من خشبِ الصُّلبانِ، ومن أوعيةِ البخّورِ، من أغطيةِ الصلاةْ
من ورقِ المصحفِ نأتيكمْ
من السطورِ والآيات
فنحنُ مبثوثونَ في الريحِ، وفي الماءِ، وفي النباتْ
ونحنُ معجونونَ بالألوانِ والأصواتْ
إضراب الأسرى في السجون الإسرائيلية حاضر في مسيرة العودة
أهالي قرية الكابري بالداخل الفلسطيني المحتل ينشدون في مسيرة العودة ويتضامنون مع الأسرى المضربين عن الطعام
وتأتي ذكرى النكبة هذا العام بالتزامن مع دخول الأسرى البواسل في إضراب جماعي مفتوح عن الطعام في سجون العدو الصهيوني منذ ما يزيد على 16 يومًا، دفاعًا عن مطالبهم المشروعة في الحرية والمقاومة عن الوطن.
1500 أسير ومعهم الأسير مروان البرغوثي، امتنعوا تمامًا عن أي مقويات مثل محاليل الجلوكوز والمقويات والألبان، واعتمدوا فقط على الماء والملح لمنع تعفن الأمعاء، فقامت السلطات الإسرائيلية بالتصعيد ومنع الملح عن الأسرى، في محاولة لكسر إضرابهم، ولأن الأسرى كاللاجئين لا يُمكن نسيانهم، رفعت الحشود المشاركة في مسيرة العودة بالأمس، صور الأسرى، ونصب خيام لدعم صمود الأسرى وتعريف الأجيال الجديدة بهم.
خيمة من مسيرة العودة بالأمس، لدعم صمود عميد الأسرى، الأسير البطل كريم يونس
اللاجئون ولافتات القرى الفلسطينية المهدمة في مسيرة العودة
حرص المنظمون لمسيرة العودة على إقامة العديد من الفعاليات في مكان تنظيم المهرجان الثقافي والسياسي، تأكيدًا على الهوية الفلسطينية، بإنشاد النشيد الوطني الفلسطيني، والتذكير بقصص الأجداد المهجرين وما وقع في عشية يوم 14 من مايو عام 1948، كتذكير للأبناء والأحفاد والأجيال الجديدة المشاركة في المسيرة، كي يترسخ في وجدانهم أن المقاومة حق، والعودة حق، ولا بديل عن الهوية الفلسطينية.
جانب من فعاليات الأطفال في مسيرة العودة أمس في ذكرى النكبة الـ69
كما شارك الأطفال في بعض الفعاليات التي تُرسخ مفهوم الهوية الفلسطينية لديهم، وارتفعت صور الأسرى في خيام المهرجان، بالإضافة إلى رفع لافتات باسم القرى الفلسطينية المهدمة والتي قامت على أنقاضها مستعمرات إسرائيلية غاصبة.
كما تجدر الإشارة إلى مشاركة العديد من النشطاء اليهود المناصرين للقضية الفلسطينية، والرافضين للدولة الصهيونية وللمجازر المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني، في مسيرة العودة، حيث حرصوا على إحياء ذكرى النكبة والمشاركة فيها ورفع اللافتات التي تؤيد حق الفلسطينيين، وأثنوا على مقاومة الأسرى في سجون الاحتلال، وأكدوا على حق العودة ومشروعية المقاومة.