يستقبل العالم العربي اليوم العالمي لحرية الصحافة هذا العام وسط أجواء قاتمة ملبدة بغيوم التضييق والخناق في ظل تراجع ملحوظ عامًا تلو الآخر، وهو ما أصاب الأسرة الصحفية العربية بالقلق والترقب لما تحمله السنوات المقبلة من تهديد حقيقي لمنظومة حرياتهم.
ورغم إرجاع البعض مسؤولية هذا الواقع الصحفي المقلق إلى الأوضاع السياسية والأمنية التي تمر بها المنطقة في السنوات الأخيرة، فإن آخرين يرون أن هناك خطة ممنهجة من بعض النظم العربية الحاكمة لفرض السيطرة شبه التامة على كل نوافذ الإعلام بطريقة أشبه بإعلام الخمسينيات والستينيات إبان العهد الناصري، وذلك عن طريق بعض الاستراتيجيات أبرزها ما أطلق عليه “شيطنة الإعلام”.
ضبابية المشهد الإعلامي
بداية لا بد من الإشارة إلى أن تفاقم أوضاع الصحافة ليس ظاهرة عربية فحسب، بل ظاهرة عالمية أيضًا، وهو ما خلصت إليه منظمة “مراسلون بلا حدود” لحرية الإعلام في تقريرها السنوي بشأن حرية الصحافة في العالم، الذي أكد أن حرية الصحافة لم تكن أبدًا مهدَّدة مثلما هي عليه في الظرف الراهن.
الشبكة رصدت تراجعًا ملحوظًا في مجال الحريات في معظم دول العالم عام 2017، حيث انضمت ثلاث دول جديدة إلى “القائمة السوداء” التي بلغت 21 دولة، وهي القائمة الأكثر قتامة في المشهد الصحفي في العالم، بينما وصل عدد الدول التي تعاني فيها الصحافة من صعوبات بالغة إلى 51 دولة بدلاً من 49 في العام الماضي.
التقرير توصل إلى أن تراجع حريات الصحافة وتضييق الخناق عليها بات أمرًا ملفتًا للنظر سواء بين الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية، حيث بلغ إجمالي الدول التي تفاقمت فيها أوضاع الصحافة والصحفيين نحو 62.2% أي ما يقرب من ثلثي الدول التي شملها التقرير والتي تبلغ 180 دولة.
ثلاث دول جديدة تنضم إلى “القائمة السوداء” في حرية الصحافة
العرب يتذيلون القائمة
بحسب التقرير تقبع الدول العربية والشرق أوسطية في ذيل القائمة، ضمن الدول الأكثر سوءًا في التعاطي مع حرية الصحافة، حيث باتت ممارسة العمل الصحفي في بعض تلك الدول أمرًا غاية في الصعوبة، وأصبح مغامرة شديدة قد تكلف صاحبها حياته لا سيما في بعض المناطق التي تمر بأزمات سياسية وأمنية.
غالبية الدول العربية تعاني من تراجع واضح في الحريات الإعلامية باستثناء موريتانيا الأفضل نسبيًا والتي جاءت في المرتبة الـ55 عالميًا، تلتها تونس في المرتبة الـ97، بينما لبنان جاء في المرتبة الـ99، ثم الكويت 104 والإمارات 119 وقطر 123.
أبرز التهم المقيدة لحرية التعبير في البحرين
مصر والبحرين والقائمة السوداء
في مؤشر خطير يعكس واقع حرية الصحافة في كلتا الدولتين، انضمت كل من مصر والبحرين إلى “القائمة السوداء” ضمن التصنيف العالمي، حيث الزج بالصحفيين داخل السجون وتضييق الخناق ومصادرة الصحف وملاحقة العاملين بالإعلام المغردين خارج السرب.
ففي البحرين ما زال الصحفيون المعارضون يدفعون ثمن معارضتهم للنظام الحاكم عبر منصات الإعلام الرقمي على وجه الخصوص، حيث بلغ عدد الصحفيين المحبوسين على ذمة قضايا نشر وتعبير ما يقارب 14 صحفيًا وصاحب رأي، كما هو الحال بالنسبة لنبيل رجب رئيس مركز البحرين لحقوق الإنسان، بحسب التقرير سالف الذكر.
رصد نحو 513 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في مصر في أثناء تأدية عملهم خلال عام واحد في الفترة من 3 من مايو 2016، إلى 3 من مايو 2017
أما في مصر فحدث ولا حرج، فلا يزال هناك ما يقرب من 92 صحفيًا وإعلاميًا داخل السجون والمعتقلات بتهم تتعلق بمهام وظيفتهم أو آرائهم السياسية، أبرزهم أحمد سبيع، حسن القباني، عمر عبد المقصود، محمد صابر البطاوي، هشام جعفر، هاني صلاح الدين، إسماعيل الإسكندراني ، سامح مصطفى، عبد الله الفخراني، والمصور محمود أبو زيد الشهير بـ”شوكان”.
مرصد “صحفيون ضد التعذيب” وهو مؤسسة مستقلة معنية بالدفاع عن حرية الصحفيين، رصد نحو 513 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في مصر في أثناء تأدية عملهم خلال عام واحد في الفترة من 3 من مايو 2016، إلى 3 من مايو 2017، منهم 47 انتهاكًا في شهر أبريل الماضي.
التقرير رصد 203 حالات منع من التغطية الصحفية، و65 حالة تعدٍ بالقول أو التهديد، و59 حالة تعدٍ بالضرب أو إحداث إصابة، و33 حالة فرض غرامة مالية، إضافة إلى 37 حالة اتهام عبر بلاغ للنيابة، وحكمين بالحبس، وحالتين إتلاف أو حرق معدات صحفية، فضلًا عن21 واقعة قبض واتهام واحدة، إلى جانب حالة احتجاز دون وجه حق.
القبض على عشرات الصحفيين بمصر في أثناء ممارسهم عملهم
شيطنة الإعلام
من الواضح أن هناك توجه عالمي نحو إدانة الإعلام وتتبع الإعلاميين، وهو ما أثار حفيظة ديفيد كاي مقرر الأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية حرية الرأي والتعبير، والذي حث الحكومات على إنهاء ما وصفه بـ”شيطنة” وسائل الإعلام الحيوية، وحماية الصحفيين.
كاي في بيان له بمناسبة اليوم العالمي للصحافة قال: “العالم يقر في هذا اليوم بأهمية دور الإعلام الحر في المجتمعات الديمقراطية”، ولكنه أضاف أن العاملين في مجال الصحافة يواجهون كل يوم، بما في ذلك في اليوم العالمي لحرية الصحافة، الرقابة والتجريم والتحرش والاعتداءات الجسدية وأيضا القتل، مؤكدًا على أهمية توجيه الانتباه إلى الحكومات والقادة السياسيين الذين يعملون بشكل متزايد لتقويض العمل الصحفي وحق الجميع في السعي لتلقي والحصول على مختلف أشكال المعلومات والأفكار، ملفتًا أن الكثيرين من القادة يعتبرون الصحافة عدوًا، والصحفيين أطرافًا مارقة، ومستخدمي تويتر إرهابيين، والمدونيين كافرين.
وإن كانت “شيطنة الإعلام” ظاهرة حديثة عالميًا، إلا أنها تعد من الظواهر القديمة الحديثة المتجددة في معظم المجتمعات العربية، حيث تسعى جل الأنظمة العربية الحاكمة إلى تحميل الإعلام مسؤولية الفوضى والفشل التي تواجهه الحكومات، وهو ما يجسد الاستراتيجيات المتبعة من قبل هذه السلطات للعزف على وتر اتهام الإعلام المناوئ لها بأنه ممول من الخارج ويسير وفق أجندة وتوجهات عدائية ضد الدولة.
وصلت حملات غسيل المخ وشيطنة الإعلام في بعض الأحوال إلى تبني شرائح مجتمعية ليست بالقليلة فكرة أن الإعلام هو المسؤول عن هذا الوضع المتردي
ولعل هذا ما يفسر القيود التي تفرضها دول الخليج على بعض المنافذ الإعلامية الإلكترونية في الآونة الأخيرة، لا سيما في البحرين والسعودية، حيث تم فرض قيود على “يوتيوب” و”تويتر” و”فيس بوك” وتم إضفاء بعض التعديلات على قوانين مكافحة الجريمة الإلكترونية ليتسع مشتملاً على عقوبات بحق نشر أي مواد تُعتبر منافية للشريعة أو تمس بمصالح الدولة أو تروج لمصالح أجنبية أو تضر بالنظام العام أو الأمن الوطني أو تمكِّن لأي نشاط إجرامي، كما هو الحال في قانون الصحافة بالسعودية.
“أنتم تضروا مصر جامد جدًا من غير ما تقصدوا وبكلمكم كمسؤولين عن بلد، مش مجرد رأي عام بس”، “عيب مايصحش كدا، بحس الناس دي ولا عارفة أي حاجة، المرة الجاية هاشتكيكم للشعب”، “بحس إنه واحد ماسك قدامه مايك بيتكلم فيه وجرنال بيكتب فيه، لا يا جماعة دي دولة هتضيع مننا كده، كده بننشر الجهل بين الناس، وكأن المسائل بتتحل بالمفاتيح، وهذا لا يليق”، لخصت تلك العبارات الثلاثة الصادرة عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موقف النظام الحالي من بعض وسائل الإعلام التي قد تعرف – دون قصد – خارج السياق.
وما هي إلا ساعات قليلة عقب تلك التصريحات إلا ويخرج الإعلاميون الداعمون للنظام بشن حملة واسعة ضد بعض وسائل الإعلام التي قد تغرد خارج السرب قليلاً، متهمين إياها بـ”الخيانة” و”العمالة” و”العمل لصالح أجندات خارجية” وما إلى غير ذلك من التهم المعلبة التي تواجه كل من يفكر في السير بعيدًا عن القطيع.
ووصلت حملات غسيل المخ في بعض الأحوال إلى تبني شرائح مجتمعية ليست بالقليلة فكرة أن الإعلام هو المسؤول عن هذا الوضع المتردي، وبدلاً من تحميل الحكومة والنظام وسياساتهما المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع على مختلف المستويات، بات الهجوم على الإعلاميين هو الحل للخروج من هذا المأزق، وهو ما يدفع للتساؤل عن قلق الأنظمة الذي يصل إلى درجة الخوف من الإعلام، لماذا؟ وما الحل؟
تأميم الإعلام
قلق الأنظمة العربية الحاكمة من الإعلام يعود إلى إيمانها بقدرته على الكشف عن فساد بعضها وانتهاكات البعض الآخر، فالإعلام هو المرأة الحقيقية للشعوب على حكوماتها وأنظمتها الحاكمة، ولعل هذا الدور اتضح بشكل محوري في ثورات الربيع العربي، حين كانت المنصات الرقمية الوسيط الحيوي الذي نقل الشعوب من منازلها إلى الميادين والشوارع.
هذا القلق دفع العديد من الحكام العرب إلى تأميم إعلامها بشكل أو بآخر، إما بمصادرة بعض الوسائل الإعلامية أو غلق البعض الآخر، فضلاً عن تضييق الخناق على العاملين في الحقل الإعلامي، في محاولة لسد كل الوسائل التي من الممكن أن تكشف فساد الأنظمة الحاكمة، وتناهض الإعلام الرسمي الذي يعزف على وتر الإنجازات الوهمية ليل نهار.
إعلام عبد الناصر لم يكن أفضل إنجازاته، ربما كان العكس تمامًا هو الصحيح، كان إعلام الرأي الواحد والرجل الواحد وكان في كل مؤسسة رقيب من المؤسسة العسكرية
تصريحات عبد الفتاح السيسي بشأن مدحه لإعلام جمال عبد الناصر حين قال: “عبد الناصر كان محظوظًا لأن الإعلام كان وراءه” تعكس وبشكل كبير ما يتمناه بشأن مستقبل الإعلام في مصر، حيث العودة لمرحلة التأميم والصوت الواحد مرة أخرى.
الكاتب الصحفي بجريدة الأهرام الداعمة للنظام الحالي، السيد علي، في مقال له عبّر عما أسماه “قلق الجماعة الإعلامية” من تصريحات السيسي بشأن إعلام عبد الناصر، خاصة أن “إعلام عبد الناصر لم يكن أفضل إنجازاته، ربما كان العكس تمامًا هو الصحيح، كان إعلام الرأي الواحد والرجل الواحد وكان في كل مؤسسة رقيب من المؤسسة العسكرية وهو الإعلام الذي قال للناس إن القوات المصرية دخلت تل أبيب ودمرت مئات الطائرات الإسرائيلية ثم اكتشف الناس أن القوات الإسرائيلية على ضفاف القناة وأنها دمرت الطائرات المصرية وهي رابضة على الأرض”.
هكذا وبينما يحتفل الجميع باليوم العالمي لحرية الصحافة، تقبع الصحافة العربية في مستنقعات القمع والتضييق والانتهاكات، وتسير من سيء إلى أسوأ، في ظل خطط ممنهجة من قبل غالب الأنظمة الحاكمة لإحكام القبضة والسيطرة الكاملة على كل النوافذ الإعلامية حتى لو وصل الأمر إلى حد التأميم أيًا كانت صورته ونتائجه.