“الرخ لا”، شعار يعترضك أينما حللت في جنوب تونس، في شوارع تطاوين وقبلي وفي صحاريها، وفي كل مكان فيها، شعار بات رمزًا لاحتجاجات سكان هذه الجهات الداخلية للمطالبة بحقها من ثرواتها الطبيعية التي تزخر بها منطقتهم التي تعاني التهميش على مرّ السنين رغم ما تمتلكه من ثروات هائلة، حسب سكانها.
البداية بـ”وينو البترول”
ليست المرة الأولى التي يطالب فيها سكان تونس بالكشف عن حقيقة ثروات بلادهم الطبيعية، فقد سبق هذه الاحتجاجات، احتجاجات حملت شعار “وينو البترول” (أين البترول)، انطلقت منذ سنتين عقب إعلان اكتشاف بئر نفطية جديدة في منطقة الفوار من محافظة قبلي (جنوب)، وما زال صداها يردّد إلى الآن.
تونس لا تسبح فوق بحر من النفط، وما تنتج سواء من هذه المادة الأولية أو من الغاز لا يغطي حتى حاجيات البلاد
في تلك الاحتجاجات التي لاقت رواجًا كبيرًا، أعلن القائمون عليها تشكيكهم في الأرقام التي قدمتها حكومة بلادهم بشأن إنتاج البترول، وأشاروا إلى وجود “نهب” لثروات البلاد، من بترول وفوسفات وكل الثروات الاستخراجية الأخرى، مطالبين الحكومة بنشر العقود التي تربط تونس بالشركات الدولية التي تستغل آبار النفط والغاز الطبيعي التونسية ومقاطع الملح، ومصارحة عموم الشعب بتفاصيل هذا الملف من جرد مفصل لمقدرات البلاد.
شعار الحملتين يغزو الجدران
وحرّكت حرقة أهالي المنطقة على ما تنتجها أرضهم وأرض أجدادهم من بترول دون أن ينعكس ذلك على وضعهم المعاش من تشغيل وتنمية وبنية تحتية، هذه الحملة التي قابلتها السلطات التونسية بقمع أمني واعتقالات في صفوف القائمين عليها واتهامهم ببث الفوضى في البلاد والاصطفاف خلف أحزاب تريد إرباك الدولة، بالإضافة إلى نفي ما يدعيه المحتجون من امتلاك البلاد لثروات نفطية، حيث قال الرئيس المدير العام للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية محمد عكروت إن تونس لا تسبح فوق بحر من النفط، وما تنتج سواء من هذه المادة الأولية أو من الغاز لا يغطي حتى حاجيات البلاد.
“الرخ لا”، شعار الاحتجاجات
بعد سنتين من هذه الحملة الشعبية التي غزت الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي، بدأت حملة جديدة، الشهر الماضي، تحت شعار “الرخ لا” (لا تراجع)، انطلقت من محافظة تطاوين (جنوب) وامتدّت إلى محافظتي قبلي ومدنين، وإن اختلفت طرق المطالبة، فالمطلب واحد، نصيبهم من ثروات بلادهم.
منذ بداية الاحتجاجات عملت الحكومة على السيطرة عليها والحد من فعاليتها واحتوائها عبر تقديم وعود وقرارات لفائدة الجهة وساكنيها
ففي تطاوين، يعتصم الآلاف للأسبوع الثاني، في منطقة الكامور التي تعد المنفذ الرئيسي التي تمر منه أغلب شاحنات الشركات النفطية والغاز نحو حقول النفط بالصحراء التونسية، كما انتشرت خيام وتجمعات معتصمين بمناطق عديدة من المحافظة، وقطع المحتجون العديد من منافذ المدينة منها الطرقات التي تسلكها شاحنات النفط والغاز، والطريق المؤدية إلى المعبر الحدودي البري مع ليبيا الذهيبة – وازن.
ويتفق الأهالي على حاجة المنطقة إلى إجراءات حكومية تنقذها من حالة التهميش التي تعيشها، على غرار الكثير من الجهات الداخلية في البلاد، حيث نتج عن هذا الأمر وضع متردٍ على جميع المستويات.
منذ بداية الاحتجاجات عملت الحكومة على السيطرة عليها والحد من فعاليتها واحتوائها عبر تقديم وعود وقرارات لفائدة الجهة وساكنيها قابلها المحتجون بالرفض ووصفوها بـ”القرارات الفاشلة التي لا تعبر عن مطالبهم ولا علاقة لها بالواقع“.
يطالب أهالي محافظة تطاوين، الحكومة التونسية بالتوظيف داخل حقول النفط، ورصد 20% من عائدات الطاقة لفائدة الأنشطة الاجتماعية في الجهة، إضافة إلى تشغيل فرد من كل عائلة، وإنشاء فروع للشركات الأجنبية داخل المحافظة.
اعتصام الكامور
وفي حديثه لـ”نون بوست”، قال أحد المحتجين في منطقة الكامور، إنّهم لا يستجدون منحة من الدولة أو ما شابه، هذا ليس بعرض تفاوضي بل هو شراء ذمم، فما دامت الحكومة غير متحملة لمسؤوليتها، سيقع المطالبة من الآن بتأميم البترول والغاز كليًا.
وكانت الحكومة التونسية قد لوّحت السبت باتخاذ موقف حازم لمواجهة الاحتجاجات المستمرة في المحافظة، والتي تهدد بوقف إنتاج النفط رغم ما أبدته من تفهّم لمطالب المحتجين، حسب قول أعضائها.
قبلي تحتج أيضًا
هذه الاحتجاجات، وإن بدأت في محافظة تطاوين فقد امتدت لجارتها “قبلي”، حيث نفّذ أهالي منطقة القلعة أمس الثلاثاء، إضرابًا عامًا في جميع المرافق العمومية والمصالح الحيوية بالمنطقة، احتجاجًا منهم على عدم تجاوب سلطات البلاد لمطالبهم بعد الاعتصام الذي نفذوه أمام محطة الغاز، وأغلق المحتجون المحطة وأوقفوا إمدادات الغاز.
غلق محطة الغاز بمنطقة القلعة
وقال المتحدث باسم معتصمي القلعة علي رابح لنون بوست: “نطالب بتحيين أو تجديد العقد المبرم مع شركة الغاز بخصوص استغلالها لأراضٍ شاسعة من مدينة القلعة لمدة 30 عامًا بثمن زهيد وتحمل الشركة لمسؤوليتها التي يفرضها عليها القانون المنظم لاستغلال المعادن والثروات الباطنية”.
ويعتبر المعتصمون في القلعة أن عقد الإيجار الموقع مع الشركة على مساحة تمتد لـ60 هكتارًا ولمدة 30 عامًا كان بمقابل رمزي وزهيد (9 آلاف دينار/ نحو 3600 دولار) ويحتاج لمراجعة، كما يطالب المحتجون بتعويض عن سنوات الاستغلال السابقة.
وفي حركة تصعيدية حوّل محتجون من أهالي مدينة دوز التابعة لمحافظة قبلي، اعتصامهم من الطريق الرابطة بين دوز ومدينة مطماطة إلى مقر الشركة البترولية الفرنسية البريطانية “برنكو” في عمق الصحراء، وأكد المحتجون أن الاعتصام سيتواصل إلى حين الاستجابة لمطالبهم المتمثلة بالأساس في تخصيص جزء من عائدات البترول لفائدة التنمية بالجهة.
رحلة إلى “الكامور”
هذه الاحتجاجات وإن اختلف مكانها، فقد واجهت حملة تشويه ممنهجة من قبل بعض الأطراف للتشكيك في أهدافها والقائمين عليها، خاصة احتجاجات منطقة “الكامور” في محافظة تطاوين.
في هذا الشأن تحدث الصحفي هيثم المحضي أصيل الجهة لـ”نون بوست”، ونقل لنا تجربة عمله هناك: “كمراسل جهوي في جهة الجنوب التونسي، تطاوين ليست منطقة غريبة بالنسبة لي، إذ زرت الصحراء التونسية في عمل سابق وأعرف خباياها، وللوصول إلى مخيم الكامور يجب عليك المرور بعدد من البوابات الشعبية التي أحدثها المعتصمون، هنا يسأل الجميع عن اسم القناة التي أنتمي إليها للسماح لنا بالعبور، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لي لأنني أعرف جيدًا طبيعة العلاقة بين أهالي تطاوين وعدد من وسائل الإعلام التونسية التي دائمًا ما تتهمهم بأنهم خارجون عن القانون، بحكم عملهم في التهريب، إضافة إلى اتهامهم بالانتماء إلى تنظيمات إرهابية بعد نصبهم لمخيم في منطقة الكامور.”
تحت الخيمة الواحدة يجتمع صاحب الشهادة الجامعية مع بائع البنزين وآخر ممن ترك أبناءه للالتحاق بصفوف المعتصمين
وأضاف المحضي “لم يكن الطريق سهلاً للكامور بحكم الطرق البرية التي تؤدي إلى المكان، وعلى الطريق لم أر سوى السيارات التي تضع العلم التونسي ويرفع من كان بداخلها شارة النصر مردّدين لكلمة الرخ لا، التي اختارها المعتصمون شعارًا لاعتصامهم”، وتابع “داخل المخيم يوجد أكثر من 80 خيمة رفعت فوقها الأعلام التونسية، هنا وفّر الأهالي كل المؤونة من أكل وشرب، فقوافل المساندين للاعتصام لا تتوقف”.
تجمع الأهالي في منطقة “الكامور”
ويؤكّد هيثم أنّ مختلف الشرائح الاجتماعية ممثلة داخل هذا الاعتصام، فتحت الخيمة الواحدة يجتمع صاحب الشهادة الجامعية مع بائع البنزين وآخر ممن ترك أبناءه للالتحاق بصفوف المعتصمين، يجتمع هؤلاء على مطالب تشغيلية واحدة تتجاوز التشغيل في حقول النفط والغاز إلى المطالبة بالشفافية في قطاع الطاقة، فالجميع يتكلم بالأرقام عن عائدات البترول الغاز على ميزانية الدولة، حديث يوحي بوعي شعبي لما يقوم به هؤلاء.
تشكيك في الأرقام المنشورة
منذ سنوات الاستقلال، بقي الحديث عن الثروات الطبيعية لتونس حبيس الغرف المغلقة، إلى أن جاءت الثورة وحررت الأفواه، فطالب قسم واسع من الشعب التونسي، سلطات بلاده بالكشف عن حقيقة هذه الثروات، ولئن أعلن وزير الطاقة والمناجم السابق منجي مرزوق، نشر الوثائق التعاقدية لكل السندات سارية المفعول في مجال المحروقات (العقود البترولية) وعددها 82 عقدًا موزعة على 29 رخصة و53 امتياز استغلال، فإن العديد من التونسيين ما زالوا يشككون في الأرقام التي تقدمها الحكومة في هذا المجال، ويؤكدون تواطؤ الدولة مع الشركات العاملة في هذا المجال.
يؤكد العديد من الأهالي، أن بعض الشركات البترولية لا تضع عدادات لقياس إنتاجها حتى لا تترك وراءها أثرًا لعمليات السرقة الممنهجة التي تعتمدها
ويقدر حجم إنتاج المحروقات في تونس، حسب الإدارة العامة للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، 47 ألف برميل نفط في اليوم و6.7 مليون متر مكعب من الغاز، وهو ما لا يمكن أن يفي بحاجة البلاد من هذه المواد حسب قول مسؤولي الدولة.
وأقر الفصل الـ12 من الدستور التونسي “مبدأ الاستغلال الرشيد للثروات الطبيعية”، فيما أكّد الفصل الـ13 على “مبدأ الرقابة البرلمانية على العقود والاتفاقيات المتعلقة بالثروات الطبيعية”، كما يكرس الدستور التونسي الجديد لسنة 2014 في الفصل الـ32 “حق المواطن في الإعلام والنفاذ إلى المعلومة”.
بئر بترول في الصحراء التونسية
وتشير العديد من الدراسات غير الرسمية التي أنجزت في تونس وخارجها إلى وجود شبهات فساد بملف الثروات الطبيعية في تونس ونهب الشركات الأجنبية العاملة في هذا القطاع لمدخرات البلاد منذ سنوات، ويؤكد العديد من الأهالي، أن بعض الشركات البترولية لا تضع عدادات لقياس إنتاجها حتى لا تترك وراءها أثرًا لعمليات السرقة الممنهجة التي تعتمدها، وتحيط بمقرات هذه الشركات حراسة أمنية مشددة يصعب الوصول من خلالها إليها.
إضافة إلى البترول، تزخر تونس بثروات طبيعية أخرى، على غرار الذهب والحديد والفوسفات والزنك والملح، إلا أن مسؤولي البلاد، عادة ما يقلّلون من أهمية هذه الثروات ويؤكدون ضعف حجمها وعدم استجابتها لحاجيات البلاد فما بالك بالتصدير.