ترجمة وتحرير: نون بوست
تعرّض الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس مؤخرًا للإذلال من قبل إسرائيل لأنه ذكر حقيقة بديهية حين أبدى ملاحظة بأن هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر “لم يحدث من فراغ”. كان غوتيريس يلفت انتباه العالم إلى سجل إسرائيل الطويل من الاستفزازات الإجرامية الشديدة في فلسطين المحتلة التي تحدث منذ أن أصبحت القوة المحتلّة بعد حرب 1967.
في مثل هذه الظروف، يُعهد إلى المحتل، وهو الدور الذي من المتوقع أن يكون مؤقتًا، باحترام القانون الإنساني الدولي من خلال ضمان أمن وسلامة السكان المدنيين الخاضعين للاحتلال، على النحو المنصوص عليه في اتفاقية جنيف الرابعة.
كان رد فعل إسرائيل غاضبًا جدًّا على تصريحات غوتيريس المناسبة والدقيقة تماما لأنه يمكن تفسيرها على أنها تشير ضمنًا إلى أن إسرائيل “كان يجب أن تتوقع حدوث هجوم مماثل” في ظل انتهاكاتها الشديدة والمتنوعة ضد الناس في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة في غزة، بالإضافة إلى الضفة الغربية والقدس.
في نهاية المطاف، إذا استطاعت إسرائيل تقديم نفسها للعالم باعتبارها ضحية بريئة لهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، فمن المعقول أن تأمل الحصول على تفويض مطلق من رعاتها في الغرب للانتقام كما يحلو لها، دون الانزعاج من قيود القانون الدولي، أو سلطة الأمم المتحدة، أو الأخلاق المشتركة.
في الواقع، ردّت إسرائيل على هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر بمهارتها النموذجية في التلاعب بالخطاب العالمي الذي يشكل الرأي العام ويوجّه السياسات الخارجية للعديد من البلدان المهمة، لكن مثل هذه التكتيكات تبدو غير ضرورية تقريباً هنا. فقد سارعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إصدار موافقة شاملة على أي شيء تفعله إسرائيل رداً على ذلك، مهما كان انتقامياً أو قاسياً أو لا علاقة له باستعادة أمن الحدود الإسرائيلية.
كان لخطاب غوتيريس في الأمم المتحدة تأثير كبير لأنه ثقب بالون البراءة الإسرائيلي المبني ببراعة، والذي يقوم على ادعاء أن هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر حدث بلا سبب؛ ذلك أن هذا الاستبعاد للسياق حوّل الانتباه عن الدمار الذي لحق بغزة والاعتداء بالإبادة الجماعية ضد سكانها الأبرياء البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة والذين عانوا منذ زمن طويل.
هفوات غير عادية
ما أجده غريبًا ومزعجًا هو أنه على الرغم من الإجماع على أن هجوم حماس لم يكن ممكنًا إلا بسبب هفوات غير عادية في قدرات إسرائيل الاستخباراتية وأمنها المحكم على الحدود اللذان يفترض أنه لا مثيل لهما، فإن هذا العامل نادرًا ما تمت مناقشته منذ ذلك اليوم.
فبدلاً من تحول الصباح التالي لصباح مليء بالغضب الانتقامي، لماذا لم يتحول التركيز داخل إسرائيل وأماكن أخرى إلى اتخاذ إجراءات طارئة لاستعادة الأمن الإسرائيلي من خلال تصحيح هذه الهفوات المكلفة؛ وهي الطريقة التي قد تبدو أكثر فعالية لضمان عدم حدوث أي شيء مماثل لما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر مرة أخرى؟
أستطيع تفهم إحجام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن التأكيد على هذا التفسير أو الدعوة إلى هذا الشكل من الاستجابة، لأن ذلك سيكون بمثابة اعتراف بمسؤوليته الشخصية عن المأساة المؤلمة التي عاشتها إسرائيل عندما تدفق المقاتلون الفلسطينيون عبر الحدود. ولكن ماذا عن الآخرين في إسرائيل أو بين الحكومات الداعمة لها؟ مما لا شك فيه أن إسرائيل تكرس كل الوسائل المتاحة لها بشكل طارئ لسد هذه الثغرات الهائلة في نظامها الاستخباراتي، وتعزيز قدراتها العسكرية على طول حدود غزة القصيرة نسبيًا.
ليس من الضروري أن تكون خبيرًا أمنيًا لتستنتج أن التعامل بشكل موثوق مع هذه القضايا الأمنية من شأنه أن يقدم المزيد لمنع وردع هجمات حماس المستقبلية بشكل أكبر من هذه الملحمة المستمرة المتمثلة في إيقاع عقوبات مدمرة على السكان الفلسطينيين في غزة، الذين لا يشارك سوى عدد قليل منهم مع الجناح العسكري لحركة حماس.
غضب الإبادة الجماعية
لقد أعطى نتنياهو المزيد من المعقولية لهذه التكهنات من خلال تقديم خريطة للشرق الأوسط دون إدراج فلسطين، مما يؤدي فعليا إلى محو الفلسطينيين من وطنهم. خلال خطاب ألقاه في الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر، تحدث عن سلام جديد في الشرق الأوسط وسط احتمال حدوث تطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وقد كان عرضه بمثابة إنكار ضمني لإجماع الأمم المتحدة على صيغة الدولتين كخارطة طريق للسلام.
من ناحية أخرى، إن غضب الإبادة الجماعية الذي يجسد رد فعل إسرائيل على الهجوم الذي شنته حركة حماس، يثير غضب الناس في مختلف أنحاء العالم العربي، بل وفي مختلف أنحاء العالم، حتى في الدول الغربية. ولكن بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من القصف بلا رحمة والحصار الشامل والتهجير القسري الجماعي، فإن حرية إسرائيل في إطلاق العنان لهذا السيل من العنف على غزة لم تواجه بعد أي تحدٍ من قبل مؤيديها الغربيين.
تدعم الولايات المتحدة بشكل خاص إسرائيل في الأمم المتحدة، وتستخدم حق النقض حسب الحاجة في مجلس الأمن، وتصوت بدون أي تضامن تقريباً من جانب الدول الكبرى ضد وقف إطلاق النار في الجمعية العامة. وحتى فرنسا صوتت لصالح قرار الجمعية العامة، وكانت المملكة المتحدة تتمتع بالحد الأدنى من اللباقة للامتناع عن التصويت، ومن المرجح أن كلاهما يتفاعل بشكل عملي مع الضغوط الشعبوية التي فرضتها المظاهرات الحاشدة والغاضبة في الشوارع في الداخل.
تجاهلت ردود الفعل على التكتيكات الإسرائيلية في غزة حقيقة أنه منذ اليوم الأول بدأت الحكومة الإسرائيلية المتطرفة سلسلة مروعة من الاستفزازات العنيفة في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة. فسّر الكثيرون هذا الإطلاق السافر لعنف المستوطنين على أنه جزء من اللعبة النهائية للمشروع الصهيوني، الذي يهدف إلى تحقيق النصر على بقايا المقاومة الفلسطينية.
لا يوجد سبب وجيه للشك في أن إسرائيل بالغت عمداً في رد فعلها على أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر من خلال الانخراط الفوري في رد بالإبادة جماعية، خاصة إذا كان غرضها هو صرف الانتباه عن تصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية، الذي تفاقم بسبب توزيع الحكومة للأسلحة على “فرق الأمن المدنية”.
يبدو أن الخطة النهائية للحكومة الإسرائيلية تتمثل في إنهاء أوهام التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة مرة واحدة وإلى الأبد، وإضفاء السلطة على الهدف الصهيوني المتطرف المتمثل في الضم أو الإخضاع الكامل لفلسطينيي الضفة الغربية.
على الرغم من أن الأمر يبدو كئيبًا في الواقع، فقد اغتنمت القيادة الإسرائيلية مناسبة 7 تشرين الأول/أكتوبر “لإنهاء المهمة” بارتكاب إبادة جماعية في غزة، تحت ستار أن حماس كانت تشكل خطرًا كبيرًا بحيث لا تبرر تدميرها فحسب، بل أيضًا هذا الهجوم العشوائي ضد جميع السكان.
ويقودني تحليلي إلى استنتاج مفاده أن هذه الحرب المستمرة لا تتعلق في المقام الأول بالأمن في غزة أو التهديدات الأمنية التي تفرضها حماس، بل تتعلق بشيء أكثر شرًا وسخرية إلى حد سخيف. لقد اغتنمت إسرائيل هذه الفرصة لتحقيق الطموحات الإقليمية الصهيونية وسط “ضباب الحرب” من خلال التسبب في موجة أخيرة من عمليات تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم بشكل كارثي، وسواء تم تسميتها “التطهير العرقي” أو “الإبادة الجماعية” فهذا أمر ثانوي، على الرغم من أنها تعتبر بالفعل واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين. والواقع أن الشعب الفلسطيني يقع ضحيّة بين كارثتين متقاربتين: إحداهما سياسية والأخرى إنسانية.
المصدر: ميدل إيست آي