تواصل قوات الاحتلال هجومها العنيف على قطاع غزة وبعض المناطق المحتلة لليوم الـ29 من الحرب التي تشنها على القطاع، انتقامًا على الضربة الموجعة التي تلقتها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأودت بحياة الآلاف، ما بين قتيل وجريح وأسير ونازح، فضلًا عن إدخالها الرعب داخل قلوب الإسرائيليين في شتى المناطق، وتفريغها لبالونة أسطورة الجيش الإسرائيلي الوهمية.
وفي الأيام الأخيرة ركّز الاحتلال على استهداف المستشفيات والمدارس وسيارات الإسعاف وأماكن الإيواء التابعة للمؤسسات الدولية، رغم الحصانة التي يفترض أن تتمتع بها تلك الهيئات وفق القانون الدولي، الأمر الذي تسبب في ارتقاء أرواح الآلاف من المدنيين والمصابين في غضون ساعات قليلة.
ففي الساعات القليلة الماضية فقط قصف طيران الاحتلال ومدفعيته الثقيلة 5 مستشفيات كبرى، هي مجمع الشفاء والمستشفى الإندونيسي ومستشفى القدس بجانب مدخل مستشفى النصر للأطفال، إضافة إلى عدة مدارس أبرزها مدرسة الفاخورة في مخيم جباليا، ومدرسة أسامة بن زيد بمنطقة الصفطاوي شمال القطاع، حيث سقط العشرات من الشهداء من الأطفال.
عاجل | الهلال الأحمر الفلسطيني: استهداف الاحتلال مدخل قسم الطوارئ بمستشفى القدس في غزة تسبب بأضرار كبيرة pic.twitter.com/z2WPUfBymy
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 4, 2023
وقبل ذلك كان الاستهداف الإجرامي للمستشفى الأهلي المعمداني الذي أودى بحياة أكثر من 500 شهيد، علاوة على استهداف موكب من سيارات الإسعاف التي كانت تنقل مصابين إلى معبر رفح لتلقي العلاج في مستشفيات مصر وفق ما تم الاتفاق عليه.
منذ انطلاق العملية العسكرية الإسرائيلية داخل القطاع حدد المحتل قائمة من الأهداف العسكرية التي تعهد بتحقيقها، كان على رأسها القضاء على حركة المقاومة حماس بشكل كامل، ملمحًا إلى التزامه بالقانون الدولي في ممارسته لحقه المزعوم في الدفاع عن النفس.
لكن ومع اقتراب الحرب من الشهر بلغت حصيلة الضحايا في صفوف الفلسطينيين 9300 شهيد، بينهم 3826 طفلًا و2405 نساء، بالإضافة إلى 23 ألف مصاب، وأكثر من ألفي مفقود، وهي المحصلة التي تفند زيف وكذب وافتراء تعهدات حكومة الاحتلال ليبقى السؤال: ما الدوافع الرئيسية لدى الكابينت في استهداف المشافي والمدارس ومناطق الإيواء؟
ماذا تحقق من أهداف الاحتلال؟
هناك حزمة من التساؤلات التي قد ترسم صورة تفصيلية موضوعية عن سير المعركة ميدانيًا بعيدًا عن لغة الأرقام المستخدمة للخسائر التي يوظفها الاحتلال لإيهام الرأي العام الداخلي بتحقيقه نجاحات وانتصارات يرد بها اعتباره إزاء عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول
تلك التساؤلات في حقيقتها هي الأهداف التي أعلنها جيش الاحتلال حين أعلن عزمه تدشين عملية عسكرية برية داخل قطاع غزة، والذي قطع العهد على نفسه أمام مواطني كيانه بتنفيذها في أسرع وقت ممكن.
قال جيش الاحتلال إنه يستهدف القضاء على “حماس” وتدمير بنيتها التحتية بشكل كامل، فكم أوقع من خسائر في صفوف قادة وأعضاء المقاومة الفلسطينية مقارنة بالجنود النافقين في صفوفه؟ وكم دمر جيش الاحتلال من البنية التحتية للمقاومة؟
تعهد رئيس حكومة الحرب بنيامين نتنياهو بتحرير الأسرى والرهائن من قبضة حماس في أسرع وقت، فكم حرر بعد مرور 29 يومًا؟ حتى المجندة التي ادعى أنه نجح في تحريرها لتحقيق انتصار مؤقت قالت المقاومة إنها لم تكن في قبضتها من الأساس، حتى على المستوى الميداني كم حقق جيش الكيان من إنجازات ميدانية فيما يتعلق بالتوغل البري داخل القطاع؟
1⃣ مستشفيات غزة تحت قصف الاحتلال الإسرائيلي مع ارتفاع كبير في نسبة الإشغال ما ينذر بكارثة انهيار صحية في القطاع المحاصر ⬇️ pic.twitter.com/6yzUgjbkoH
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 4, 2023
وفيما يتعلق بالجانب الأمني الذي أكد الاحتلال على تعزيزه بشكل كامل: هل نجح جيش الاحتلال في وقف استهداف تل أبيب وأجوارها بالرشقات الصاروخية التي تطلقها المقاومة؟ هل توقفت صافرات الإنذار التي تدوي في عسقلان وتل أبيب وبقية مستوطنات غلاف غزة؟ هل نجح المحتل في إعادة أكثر من نصف مليون مستوطن هجروا بيوتهم هربًا بحياتهم من صواريخ المقاومة؟
وفي الأخير: هل غير الشارع الإسرائيلي موقفه بشأن إدانته للإستراتيجية التي تتبعها الحكومة في التعامل مع حماس؟ هل زادت ثقته مثلًا في الأداء العام للجيش؟ وتُجيب التظاهرات التي تحيط بمنزل نتنياهو ومقر الكابينت في تل أبيب بين الفينة والأخرى، والشعارات واللافتات المرفوعة، والوقفات الاحتجاجية لعائلات الأسرى، عن هذا التساؤل الذي يضع حكومة نتنياهو في مأزق كبير رغم الدعم الدولي المقدم لها من حلفاء كيانه من الأمريكان والبريطانيين والألمان والفرنسيين.
الأطفال والنساء.. ضحايا فشل الاحتلال
وفي ظل الفشل الواضح حتى اليوم على كل المسارات لم يجد الاحتلال بدًا من البحث عن انتصارات وهمية مستخدمًا لغة الأرقام التي يتلاعب بها للتأكيد على نجاح لم يحققه ميدانيًا، فكان الحل السهل هو استهداف المدنيين من النساء والأطفال والجرحى.
وبنفس لغة الأرقام التي يجيدها الاحتلال فإن أكثر من 65% من ضحايا القصف من الفلسطينيين من الأطفال والنساء، وهذا يكشف عن الفشل الواضح في استهداف كوادر المقاومة ومقاتليها، وعليه كان اللجوء للقصف العشوائي الذي يهدف من خلاله لمضاعفة عدد الخسائر في صفوف الجانب الفلسطيني، تدمير أكثر للبنايات وأعداد أكبر من الضحايا بصرف النظر عن هويتهم وموقعهم في خريطة المقاومة.
مراسل #الجزيرة وائل الدحدوح ينقل شهادة أحد الناجين من قصف الاحتلال على مدخل مجمع الشفاء ويقول إن القافلة انطلقت بتنسيق تام مع كل الأطراف لكن هذا لم يمنع من الهجوم الإسرائيلي#الأخبار pic.twitter.com/OCQqedOHkh
— قناة الجزيرة (@AJArabic) November 3, 2023
حتى العملية البرية التي شنها المحتل لم تحقق المأمول منها، فهي تسير بحسب وصف الإعلام العبري بسرعة “الجرافات” في إشارة إلى بطئها الشديد، في ظل مقاومة شرسة تكبده خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وتشتبك معه من النقطة صفر في تطور مذهل في إستراتيجيات القتال التي تتبناها المقاومة خلال العامين الماضيين.
هذا التطور جعل الاحتلال كلما تقدم خطوة للأمام عاد خطوتين للخلف، ما اضطره للجوء إلى سياسة الأرض المحروقة، ليصل به الحال إلى التضحية بكل شيء من أجل البحث عن انتصار وهمي، حتى لو على حساب الأسرى والرهائن، رغم الضغوط الداخلية الممارسة عليه لتجنيبهم دفع ثمن فشل الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية.
استهداف المشافي والمدارس.. لماذا؟
في ظل تلك الوضعية وعدم استطاعة الاحتلال تحقيق الأهداف التي أعلن عنها للرأي العام الداخلي والخارجي، كان استهداف المشافي والمدارس هو الحل الوحيد أمامه، وأمام الاعتراضات والانتقادات الحقوقية لتلك الوحشية لجأت حكومة الاحتلال إلى سياسة الكذب والافتراءات التي اعتادها ويجيدها بشكل كبير، حيث زعمت أن المقاومة تتخذ من تلك الأماكن مقارًا لها لتخزين أسلحتها والاختباء بها.
تلك المزاعم المفندة بالصوت والصورة وعلى الهواء مباشرة لتلك الوحشية الإجرامية التي لم يعرفها التاريخ الحديث، وسط خذلان الجميع، الأصدقاء قبل الأعداء، حاول بها الكابينت إخفاء الأسباب الرئيسية وراء هذا الاستهداف البربري وأبرزها:
أولًا: الضغط على حماس وفصائل المقاومة من خلال أرقام الضحايا المتزايدة كل ساعة، وهو الأمر الذي ربما يغير المزاج الشعبي الفلسطيني إزاء المقاومة، حفاظًا على حياة المواطنين والأطفال والنساء.
ثانيًا: إثارة الرأي العام الفلسطيني ضد حماس عبر مزاعم وأكاذيب ممنهجة تعزف على وتر أن قادة المقاومة قاموا بتلك العملية لأجل مصالح خاصة ولتحقيق مكاسب ذاتية، وتنفيذًا لأجندات إقليمية خارجية، وأنهم ضحوا بكل تلك الأرواح لأجل تعزيز حضورهم السياسي والاقتصادي، وهي السردية التي يرددها الكثير من العرب، إعلام وشخصيات.
ثالثًا: نتيجة هذا الضغط المتزايد على المقاومة، ستضطر حماس – بحسب حسابات الاحتلال – إلى الهروب من تلك الموجات المتزايدة من الانتقادات من خلال إبرام اتفاق سريع يتضمن إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، والتراجع عن الاستمرار في عملية المواجهة، حفاظًا على ما تبقى من حياة سكان القطاع.
المتحدث باسم الأنروا يجهش بالبكاء على الهواء بعد المجزرة الأخيرة #غزة_الآن pic.twitter.com/EN6DEIeb5W
— مشاري راشد العفاسي (@Alafasy) November 4, 2023
لكن حتى تلك الأهداف لم تؤتِ ثمارها، بداية من مجزرة المعمداني وصولًا إلى مستشفيات القدس والإندونيسي والنصر، حيث التفاف الشارع الفلسطيني حول المقاومة، وتجديد البيعة على استكمال طريق الجهاد ومقاومة الاحتلال مهما كان الثمن، وهي النتيجة التي تصيب حكومة الكابينت بالجنون وتدفعها لمزيد من الجرائم الوحشية.
وفي الأخير يتوقع أن يكثف جيش الاحتلال من عملياته النوعية الإجرامية تلك خلال المرحلة المقبلة، فضلًا عن المزيد من تحركات التغول البري ولو عبر حرق الأخضر واليابس، لكسب نقاط مجمعة يمكن أن يتفاوض عليها خلال الجلوس إلى مائدة المفاوضات لاحقًا، لكن هذا يتوقف بشكل كبير على قدرة المقاومة على الاستمرار بنفس الوتيرة من حيث القوة والعتاد والحضور والمناوشات والاستهدافات.. فهل تصمد؟ وإلى متى؟