وقعت كل من روسيا وتركيا وإيران، أمس الخميس في أستانة عاصمة كازخستان، اتفاقًا يقضي بإقامة مناطق تخفيف توتر بمناطق عدة في سوريا، ضمن الجولة الرابعة من مفاوضات أستانة بين المعارضة السورية ووفد النظام السوري، والدول الضامنة للاتفاق.
المناطق التي تم شملها الاتفاق هي كامل محافظة إدلب وأجزاء من محافظات حلب واللاذقية وحماة وحمص وريف دمشق ودرعا والقنيطرة، وتنص الوثيقة التي تم توقيعها على وقف استخدام الأسلحة كافة بما فيها الجوية بين الأطراف المتناحرة في المناطق المحددة، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى المناطق المذكورة.
يذكر أن رفض أو موافقة كل من المعارضة أو النظام على الاتفاق لم تكن مهمة، إذ قال مدير قسم دول آسيا وإفريقيا في الخارجية الكازاخية أيدار بك توماتوف: “إذا توصلت الدول الضامنة لاتفاق الهدنة في سوريا (روسيا وتركيا وإيران)، إلى توافق بشأن الوثيقة الروسية ووقعت عليها، فستصبح هذه المذكرة ملزمة وسيكون تنفيذها على دمشق والمعارضة تحصيل حاصل”.
تحذير أمريكي وترحيب روسي
تباينت ردود الفعل الأولية على اتفاق أستانة، وعلى رأس تلك المواقف ترحيب الولايات المتحدة والأمم المتحدة ولكن بحذر، إذ أعربت وزارة الخارجية الأمريكية عن تقديرها لجهود تركيا وروسيا في متابعة الاتفاق، وقالت إنها تشجع المعارضة السورية على المشاركة بفعالية في المناقشات رغم الظروف الصعبة على الأرض، ترحيب أمريكا بالاتفاق لم يخل من التحذير من وعود روسيا السابقة والتي باءت كلها بالفشل.
وأعربت واشنطن عن قلقها إزاء وجود إيران كأحد ضامني الاتفاق، وذلك لأن دور إيران في سوريا ساهم في العنف فقط، وليس في إيقافه، بالإضافة إلى أن دعمها غير المشروط لنظام الأسد ساهم في استمرار معاناة السوريين العاديين.
وفي سياق ما حذرت منه أمريكا عن وعود روسيا السابقة، يُذكر أن الوعود الروسية بدءًا من تدخلها في سوريا 2015 وحتى الآن لم تصدق وكلها باءت بالفشل، ولا تخرج عن كونها تكتيكات تفاوضية لتمييع مطالب المعارضة السورية، ويرى مراقبون أنه على الرغم من المرونة التي تبديها روسيا في اتفاق وقف التصعيد في أستانة بجولته الرابعة، فإن هذه المرونة تأتي استرضاءً للموقف الدولي والإقليمي وخصوصًا بعد الضربة الكيميائية على مدينة خان شيخون في ريف إدلب والتي أودت إلى قتل نحو 100 شخص.
ما يؤكد هذا الكلام أن هجمات النظام السوري وحليفيه روسيا وإيران ما زالت مستمرة على أكثر من جبهة في سوريا حتى هذا الوقت، كما أن التهجير من حي الوعر في حمص لم يتوقف، إذ خرجت الدفعة الثامنة اليوم إلى جرابلس شمال سوريا، في الوقت الذي دعا بيان الخارجية الأمريكية إلى وقف جميع الهجمات وتوقع من روسيا ضمان امتثال النظام السوري لوقف هجماتها أيضًا.
وأكد بوتين تأييد ترامب لناحية إنشاء المناطق الآمنة، إذ أجرى الزعيمين اتصالاً هاتفيًا قبل انعقاد المؤتمر بيوم، ذكر بيان البيت الأبيض أن “المحادثة كانت جيدة للغاية، وشملت نقاشًا بشأن مناطق آمنة، لتحقيق سلام دائم لأغراض إنسانية، والكثير من الاعتبارات الأخرى”.
إذا توصلت الدول الضامنة لاتفاق الهدنة في سوريا (روسيا وتركيا وإيران)، إلى توافق بشأن الوثيقة الروسية ووقعت عليها، فسيصبح الاتفاق ملزم وسيكون تنفيذها على دمشق والمعارضة تحصيل حاصل
وفيما يخص الأمم المتحدة، قال الأمين العام أنطونيو غوتيريش في بيان إنه يشعر بالتشجيع إزاء الاتفاق، ومن المهم أن يحسّن حياة السوريين على الأرض، أما مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان ديمستورا وصف الاتفاق بأنه خطوة إيجابية واعدة في الاتجاه الصحيح لتهدئة الصراع، عمليًا، تصريحه هذا لا يختلف عن بقية تصريحاته إزاء المبادرات الروسية السابقة، ولكن ديمستورا استدرك هذه المرة تفاؤله محذرًا أن “الشيطان يكمن في التفاصيل”، وقال ديمستورا إن الاتفاق سيخضع للاختبار خلال الأسبوعين المقبلين قبل استئناف المفاوضات السياسية في جنيف.
أما صاحبة المبادرة، روسيا، فقد أعلن رئيس وفدها إلى مفاوضات أستانة ألكسندر لافرينتييف، وقف كل الأعمال القتالية في مناطق “تخفيف التوتر” في سوريا بدءًا من 6 من مايو/ أيار المقبل، وقال لافرينتييف إن “إقامة مناطق تخفيف التصعيد في سوريا لمدة ستة أشهر مع إمكانية التمديد، وعلاوة على ذلك المذكرة يمكن أن تكون إلى أجل غير مسمى”، وقال أيضًا: “موسكو مستعدة لإرسال مراقبين إلى المناطق الآمنة في سورية”، مبينًا أنه “ما زالت هناك حاجة لجهود إضافية لتحديد خرائط وقف الأعمال القتالية”.
وهنا تظهر تخوفات المعارضة السورية من تصدير هذه المناطق الآمنة على أن تصبح يومًا ما عنوانًا لتقسيم فعلي أو ضمني أو رسمي في سوريا، بحجة الحفاظ على الأمر الواقع، وعن مطلب المعارضة السورية من ضرورة انسحاب المليشيات الإيرانية ورفض إيران أن تكون ضامنة للاتفاق، ذكر المندوب الروسي أنه في حال تحقيق تهدئة مستقرة في المناطق بما فيها الغوطة، يمكن التحدث عن انسحاب الفصائل التابعة لإيران من سوريا.
سيتم إيقاف كل الأعمال القتالية في مناطق “تخفيف التوتر” في سوريا بدءًا من 6 من مايو/ أيار المقبل
من جهته صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد الاتفاق بأن المناطق المشمولة بخفض التصعيد “ستصبح مناطق حظر جوي، شرط توقف أي تحرك عسكري بالكامل فيها”، كما أعلن في وقت سابق نائب رئيس لجنة “الدفاع والأمن” في مجلس الاتحاد الروسي، فرانتس كلينتسيفيتش، الأربعاء 3 من مايو/ أيار، أن روسيا سترسل قوات إضافية من أفراد الشرطة العسكرية إلى سوريا في حال تم اتخاذ قرار بشأن إقامة “مناطق آمنة”.
أفراد من الشرطة العسكرية الروس في حلب
وأوضح كلينتسيفيتش في تصريحات صحفية لوكالة “سبوتنك” الروسية أنه في حال تم اتخاذ قرار بشأن إنشاء المناطق الآمنة، فإن روسيا ستعمل على توفير النظام العام والأمن الإضافي هناك، إذ إن الجيش السوري لن يقدر على ذلك دون مساعدة الروس، وسيكون مطلوبًا في حال الموافقة على القرار زيادة أعداد أفراط الشرطة العسكرية التي ستعمل على توفير العملية السلمية والنظام العام في هذه المناطق، وكشف المسؤول الروسي عن توجه روسي للاستعانة بدول أخرى في سوريا (الحديث يدور عن الجزائر والإمارات ومصر ودول بريكس).
المناطق المشمولة بخفض التصعيد ستصبح مناطق حظر جوي، شرط توقف أي تحرك عسكري بالكامل فيها
الجدير بالذكر أن سبع من كبرى الفصائل المسلحة المعارضة هي: حركة أحرار الشام، جيش الإسلام، فيلق الرحمن، الجبهة الشامية، جيش اليرموك، جيش إدلب الحر، جيش النصر، أصدرت بيانًا شمل خمس نقاط هي عدم القبول بإيران طرفًا ضامنًا أو راعيًا لعملية سياسية كونها طرفًا محتلاً وثاني مطالب الفصائل أنه يتوجب على الجانب الروسي قبل الحديث عن تحوله لطرف ضامن التوقف التام عن استهداف المناطق المحررة بالقصف الجوي.
كما طالب البيان بالعمل على تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بوقف التهجير وضمان حق النازحين واللاجئين في العودة إلى بيوتهم ومناطقهم، والإفراج عن جميع المعتقلين وفي مقدمتهم النساء والأطفال، وبيان مصير المفقودين وإيقاف سياسة التجويع والحصار، من خلال تنفيذ أحكام القانون الدولي الإنساني وقرارات مجلس الأمن، بالإضافة إلى ذلك أن يشمل وقف إطلاق النار جميع المناطق وفصائل الثورة بلا استثناء.
قبرصة الأزمة السورية
بينما رأى معارضون أن الاتفاق هو مقدمة لتقسيم سوريا، لا سيما في كل من إدلب وجنوب سوريا وهما منطقتان حدوديتان تتصلان مع تركيا والأردن، يرى آخرون أن فكرة التقسيم غير ممكنة جغرافيًا في منطقتين من مناطق خفض التوتر وهي الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وهي مناطق معزولة بحكم محاصرتها من قبل النظام وسيطرة المعارضة السورية عليها ولا تتصل جغرافيًا بحدود مع دول الجوار.
الاتفاق يعد مقدمة لتقسيم سوريا، لا سيما في كل من إدلب وجنوب سوريا وهما منطقتان حدوديتان تتصلان مع تركيا والأردن
وبعد توقيع الاتفاق قال المتحدث باسم الوفد المعارض في أستانة، يحيى العريضي، لمصادر إعلامية: “هذا الاتفاق لا بد منه لأنه يمنع تشكيل أي ذريعة لزيادة الضغط من المجتمع الدولي، كما يمنع المزيد من تسلّط الروس والإيرانيين”، واعتبر العريضي أن أهم ما فيه أنه يمنع عمليات القصف بالطيران والبراميل المتفجرة على رؤوس المدنيين، مؤكدًا أنه سيتم اختبار مدى جدية النظام والروس لإيقاف القصف، وأن الاتفاق على هذه المناطق من شأنه أن يمهّد إلى الحل السياسي الشامل، والذي يتضمّن عملية انتقال للسلطة.
بالنسبة لتركيا فلا تزال متمسكة باتفاق الضامنين على الرغم من فشله حتى الآن في وقف إطلاق النار كما كان مقررًا، وإعلان بدء مرحلة انتقالية سياسية. يرى مراقبون أن الجهود التركية الروسية في الأزمة السورية باتت تصب لصالح تبريد الصراع أكثر من أي شيء آخر تمهيدًا لحله في وقت لاحق في ظروف مناسبة.
وتبريد الصراع يُذكّر إلى حد ما بما حصل في الجزيرة القبرصية، إذ أشار الرئيس التركي في المؤتمر المشترك مع بوتين الأربعاء الماضي، إلى الخط الأخضر مرات عدة، والذي يشبهه البعض بالخط الأخضر في الجزيرة القبرصية (1964) والذي يشكل منطقة عازلة بين قبرص التركية وقبرص اليونانية لوقف الاشتباكات بين الأتراك واليونانيين، ودخلت القضية القبرصية على وقف تبريد الصراع في مفاوضات ماراثونية لم تنته حتى الآن ولم تتمكن من التوصل إلى اتفاق سلام في الوقت الذي تستمر الحياة بشكل طبيعي على جانبي الخط.
الخط الأخضر يُذكر بما حصل في الجزيرة القبرصية الذي يشكل منطقة عازلة بين قبرص التركية وقبرص اليونانية
وذكر أردوغان في حضرة الرئيس الروسي: “منذ البداية استخدمت مصطلح منطقة آمنة في كل مكان، واليوم أيضًا أستخدمه وسأستخدمه، وهذا خاص بشكل أساسي بالمنطقة بين الراعي وجرابلس والمقدرة بـ4 إلى 5 آلاف كيلومتر مربع، والآن بدأ الحديث عن منطقة دون اشتباكات وهذه المنطقة ستكون إدلب، ومن المعروف أن في منطقة إدلب يعيش بشكل أساسي الهاربون من حلب، والآن تم إعلان تلك المنطقة خالية من الاشتباكات، وأتمنى أن يُحافظ على هذه المنطقة خالية من الاشتباكات”، وأضاف الرئيس التركي: “إدلب التي تُعتبر واحدة من أكبر مناطق الوجود السكاني، تعيش كل فترة للأسف مشاكل جدية، والآن تم إعلان خط أخضر ومنطقة خالية من الاشتباكات”.
أثناء زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى روسيا قبل يومين
يرى محللون أن التوصل إلى حل للأزمة السورية على الطريقة القبرصية وارد جدًا من الناحية النظرية، إذ سيمنح الضامنين الهدوء الكافي لإعادة ترتيب الصفوف الداخلية وتفرغ النظام السوري بشكل أساسي للتوسع على حساب داعش وإعادة ترتيب جيشه المقسم بين مليشيات روسية وإيرانية، مع استمرار أنقرة بالضغط في الشمال نحو اجتثاث “الاتحاد الديمقراطي” الجناح السوري للعمال الكردستاني ومحاولة فك ارتباط واشنطن به.
التوصل إلى حل للأزمة السورية على الطريقة القبرصية وارد جدًا من الناحية النظرية، إذ سيمنح الضامنين الهدوء الكافي لإعادة ترتيب الصفوف الداخلية
أما من جهة المعارضة السورية فلن تكون مناطق المعارضة بمعزل عن الاقتتال الداخلي لتصفيات داخلية بين الفصائل، ولعل الاقتتال الحاصل في الغوطة الشرقية بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن وتحرير الشام خير مثال عن هذا، ومن جهة أخرى ستكون هناك فرصة كبيرة لضرب هيئة تحرير الشام بدعم دولي، وأخيرًا ستبدأ نشاطات لإعادة الإعمار والأمن في المناطق المعنية ولو بشكل محدود.