الموصل.. ضحية الإعلام الأعور أيضًا

منذ وقوع مجزرة حي الموصل الجديدة في 17 من مارس الماضي وتحوّلها إلى فضيحة عالمية، أصبحت تغطية المعارك الدائرة في مدينة الموصل ضد تنظيم داعش أقل زخمًا عمّا كانت عليه قبل هذه المجزرة، فمنذ ذلك الحين قيدت السلطات العراقية حركة الصحفيين ومنعتهم من مرافقة تقدم القوات العراقية على الخطوط الأمامية للمعارك، خصوصًا الصحفيين الأجانب، إلا أنَّ الإعلام بدأ يستعيد زخمه شيئًا فشيئًا خلال الأيام القليلة الماضية.
قرار تقييد حركة الصحفيين في الموصل لم يكن الدافع له بالتأكيد الحرص على أرواحهم، وإنما جاء كإجراءٍ احترازي يهدف التعتيم على مجازر جديدة يبدو أن الحكومة العراقية والتحالف الدولي كانا واثقين تمامًا من وقوعها.
وبالفعل حصل ما كان متوقَّعًا، إذ لم تتوقّف الانتهاكات الجسيمة والمجازر ضد المدنيين، بفعل القصف الجوي والقصف المدفعي العشوائي الذي لم يفرق بين مدني ومسلح، رغم كل الانتقادات – المحلية والدولية – التي اجتاحت حكومة العبادي وقيادة التحالف الدولي عقب مجزرة حي الموصل الجديدة.
أحدث المجازر في الموصل كانت يوم الخميس الماضي، فقد استهدفت طائرات التحالف مدرسة (الفتح) في حي 17 تموز، والتي تتخذ منها عشرات العائلات النازحة مأوى لها
أحدث هذه المجازر كانت يوم الخميس الماضي، فقد استهدفت طائرات التحالف مدرسة (الفتح) في حي 17 تموز، والتي تتخذ منها عشرات العائلات النازحة مأوى لها، بضربة جوّية وحشية، خلطت دماء وأشلاء أفراد هذه العائلات بحجارة المدرسة، وقدَّرت مصادر صحفية عدد الضحايا بين 100 – 200 قتيل وجريح، غالبيتهم من النساء والأطفال، كما قدَّرت المصادر ذاتها عدد القتلى والجرحى خلال الأيام القليلة الماضية بـ238 مدنيًا في الجانب الغربي من المدينة.
وكعادته، تنظيم داعش هو الآخر أبى إلا أن يمارس هوايته في الإجرام بحق المدنيين، إذ خلال 72 ساعة فقط، أعدمَ 99 مدنيًا في مناطق (الهرمات، دكة برگة، رأس الكور، الرفاعي، الإصلاح الزراعي) حاولوا الهروب من مناطق سيطرته باتجاه القوات العراقية، وبحسب مصادر صحفية فإنَّ عناصر التنظيم علّقوا عددًا من الجثث على أعمدة الكهرباء، وهي رسالة واضحة لمن بقي من المدنيين بأنَّ هذا المصير سيواجهه كل من يحاول منكم الفرار!
الوضع الإنساني للمدنيين سواء داخل المدن المحاصرة أو خارجها في مخيمات النزوح، للأسف آخِر اهتمامات جميع الأطراف، لا سيما الحكومة العراقية، وكأنَّ الموت لا يكون إلا برصاصة أو قذيفة! رغم تسجيل العديد من حالات الوفاة جوعًا بين المدنيين – في المناطق المحاصرة وخيام النزوح -.
ففي المناطق المحاصرة نفد كل شيء تقريبًا، حتى إنَّ الحشائش أصبحت طعام الكثيرين، هذا إنْ وُجدتْ أصلًا! فدعا رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري القوات الحكومية إلى البدء فورًا في إلقاء مساعدات غذائية من الجو على عائلات الأحياء التي لا تزال تحت سيطرة داعش لإنقاذهم من الهلاك، وهي دعوة يُستبعد ترجمتها على أرض الواقع.
أمّا في مخيمات النزوح فالوضع الإنساني لا يقل مأساوية عن الوضع داخل الأحياء المحاصرة – اللهم إلّا فيما يتعلّق بالعمليات العسكرية – فرغم الجهود التي تبذلها المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية الشبابية، فإنَّ أعداد النازحين أكبر بكثير من جهودهم المبذولة وإمكانياتهم المحدودة، إذ لا طعام يكفي ولا شراب، ناهيك عن حليب الأطفال والعلاج الذي لا يحصل عليه إلّا ذو حظٍ عظيم، إنها بالفعل كارثة إنسانية حقيقية يجب تداركها سريعًا.
المؤسف حقًا أنَّه رغم كل هذه المجازر، وهذا الاستهتار المتعمد بأرواح المدنيين، من كلا طرفي المعركة اللذَين لم يقيما وزنًا لحياة الآمنين، ورغم أنَّ المعركة اتّخذت في مرحلتها الثانية منحى خطيرًا، فالإعلام بعمومه جانب المهنية كثيرًا في تغطيته للأحداث
المؤسف حقًا أنَّه رغم كل هذه المجازر، وهذا الاستهتار المتعمد بأرواح المدنيين، من كلا طرفي المعركة اللذَين لم يقيما وزنًا لحياة الآمنين، ورغم أنَّ المعركة اتّخذت في مرحلتها الثانية منحى خطيرًا، فالإعلام بعمومه جانب المهنية كثيرًا في تغطيته للأحداث، وانقسم لفريقين كلاهما ينظر لمجريات الأحداث نظرةً عوراء، ففريق لا ينقل سوى الانتصارات التي تحققها القوات العراقية على الأرض، وفريق لا ينقل إلا انتهاكاتها، وبينهما غُيِّبَت الحقيقة الكاملة، ولم تأخذ المجازر والانتهاكات حقها من التغطية الإعلامية المهنية التي لو حصلت أجزم أنَّ الضغط الدولي سيدفع باتجاه حرصٍ أكبر على أرواح الناس.
حزينٌ جدًّا على مدينة الموصل، هذه المدينة التي ضربت بجذورها أعماق التأريخ، المدينة الغنية بمعالمها التأريخية المبهرة، المدينة الولادة للعلماء والمفكرين الذين نهل العالَم – وليس العراق فقط – من فيض علمهم الغزير، وعطائهم الزاخر في شتى العلوم.
اليوم هذه المدينة الذبيحة وقعت ضحية بين طرفين متصارعين لم يَرْقُبا في أهلها إلًّا ولا ذمّة، حتى امتلأت أزقتها بأشلائهم الطاهرة، وفاضت شوارعها بدمائهم الزكية.