تأتينا أخبار سارة من الجنوب، فمعتصمو الكامور على أبواب الصحراء يغرسون ألف فسيلة لتشجير المكان الذي اختاروه للتخييم الاحتجاجي، قد نجد ذات يوم هناك غابة في قلب الصحراء، منوال الفسيلة الذي طالما حلمنا به قد يولد في الكامور.
الكامور تنسج على منوال جمنة غرس الأرض والانكباب عليها ذلك رأس خيط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكن العاصمة لا تمسك طرف الخيط الآخر لترسل إشارة التفاهم مع منوال الفسيلة، في العاصمة أخبار أخرى لا تسر النفس، صراع النخبة الكافرة بشعبها والمغرمة بغنائمها، هنا في العاصمة المشهد يشبه التقاء فصيل من الضباع على جثة فرس بحر ميت.
قطيعة تتعمق بين العاصمة والداخل وبين النخب والشعب
إن القطيعة بين العاصمة والدواخل صارت معطى تحليلاً ثابتًا والمسافة بينهما تزداد اتساعًا وتكشف غربة النخبة عن شعبها وعن إمكانيات خلق بدائل للاستقرار الدائم، لذلك فإن السؤال عن سقوط الحكومة هو حديث في الشكل، أما المضامين فقد سقطت بعد وليس الشاهد إلا شكل حكومة بلا برنامج، إنه نهاية مرحلة قد تطول قليلاً ولكن بقاءها ليس منجاة للبلاد إنما هي مواعيد تؤجل لاجتناب الفراغات التي لا يمكن لأحد أن يحل فيها، نخبة تأجيل الكوارث ربما هذا هو آخر تسمية ممكنة لها لكنها أيضًا نخبة تصنع الكوارث وتعيش منها.
الجمهور المتهم بالجهل يقترح بعبقرية منتجة، لكن النخب لا تتلقى رسائل الجمهور وتحرص على صورة قديمة عاشت منها وتريد أن تستمر
الجمهور المتهم بالجهل يقترح بعبقرية منتجة، لكن النخب لا تتلقى رسائل الجمهور وتحرص على صورة قديمة عاشت منها وتريد أن تستمر، المثقف أو السياسي الذي قرأ كتبًا كثيرةً وجلس على ربوة عالية وبدأ توزيع حلول لمشاكل العالم، هذه الصورة تسقط الآن في تونس في جمنة والكامور وفي كل تحرك شعبي يؤسسه ويطلقه شباب تعلم الاحتجاج دون كتب ودون دروس النخبة وبدأ وضع أجنداته المحلية الخاصة لقيادة البلد من موقعه لا من مركز النخبة، حيث ظنت ذات يوم أن وجودها في العاصمة كفيل بمنحها رخصة قيادة أبدية.
نحن نشهد مرحلة سقوط العاصمة وسقوط نخبها (سقوط الجامعة التي وقفت ضد الثورة ولم تواكب حركة المجتمع)، هذه علامة تغيير نتوقع ظهور علامات كثيرة عليها ونتوقع انقلاب المسارات بعدها، حيث ستركض النخب الكسولة وراء الشارع علها تستدرك معه مكانًا لما تبقى من وجودها.
ستقول لنا هل يمكن أن يكون مجتمعًا بلا نخب، وسيقول لها الشارع لقد خلق الشارع نخبه في الشارع، لقد صار الشارع أكاديمية جديدة تتعلم في الميدان كيف تنال حقوقها، إنها حالة وعي يمكن وضعها كنتاج سوسيولوجي لثورة سلمية.
النقاش عن إسقاط الحكومة.. نقاش في الماضي
يجري الآن نقاش عن مستقبل حكومة الشاهد، بين من يتوقع سقوطها ومن يعمل على إسقاطها ومن يتمسك بها كسد أخير أمام فوضى انتخابات لا قبل لأحد بها في الظرف الحالي.
يرى كثيرون أن الحكومة قد سقطت، فوزراء الشاهد يوالون الأخطاء وآخرها تصريح غبي لوزير البيئة (من حزب آفاق) في منبر إعلامي إيطالي تهجم فيه على الجزائر وليبيا وكشف جهله الكبير بما يجري في حوض المتوسط وفي بلدان الجوار، وقبله تمت إقالة وزير التربية الذي أفسد العملية التعليمة ووتر المحيط المدرسي بعراكه المشخصن مع النقابات، أما وزيرة ماليته فقد ارتكبت حماقة تفتح لها أبواب السجن لكنه أنقذها بإقالة لطيفة لتختفي من المشهد المهزوز.
وزارء الشاهد لا يحترمون رئيسهم والرئيس لا يملأ مكانه وظهوره المحتشم في مشاهد دعائية سمجة لا يدل على أنه يفهم ما يجري حوله أو يتحكم فيه.
أما الذين يريدون إسقاط الحكومة فهمهم واضح للعيان، دفع البلد إلى فوضى سياسية قبل أوان ترتيب المشهد الحزبي على بلديات 2017 وعلى تشريعية 2019، أجندتهم معروفة ومسيروهم معروفون، كل وضع سياسي يتطور بالانتخاب يزعجهم، لذلك يبحثون له عن ذرائع لإسقاطه.
يتجلى موقف حزب النهضة الذي سيكون آخر المدافعين عن الحكومة لأنه الحزب الوحيد المنظم الذي يأمل أن يربح من المسار الديمقراطي خاصة إزاء تشتت البقية وهوانهم، فهو يقدر أن الوصول بحكومة الشاهد إلى مرحلة تنظيم البليدات سيمكنه من فرصة حكم جديدة
فشل حكومة الشاهد ذريعة جيدة، لكن السؤال الذي لا يجيب عليه هؤلاء هو هل هم جاهزون لما بعدها إذا أسقطوها لأن وضعهم التنظيمي مثير للازدراء، فلا أحزاب ولا منظمات ولا ماكينات انتخابية، بما يكشف رغبتهم في إحداث الفوضى ودفع الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى تدخل يقطع الطريق على المسار الديمقراطي ولو كان هشًا وبلا أفق واضح بحكومة الشاهد.
من هنا يتجلى موقف حزب النهضة الذي سيكون آخر المدافعين عن الحكومة لأنه الحزب الوحيد المنظم الذي يأمل أن يربح من المسار الديمقراطي خاصة إزاء تشتت البقية وهوانهم، فهو يقدر أن الوصول بحكومة الشاهد إلى مرحلة تنظيم البليدات سيمكنه من فرصة حكم جديدة.
لكن في تقديري كل النقاش عن بقاء الحكومة من عدمه هو نقاش في الماضي بأساليب الماضي، فالأمر لم يعد كما كان سنة 2012 في ديمقراطية ناشئة تستعد للتداول على السلطة بالانتخاب الدوري، فقد وهمنا ذلك ومررناه تحت يافطة الحفاظ على الدولة والمؤسسات، لكننا اكتشفنا أن الدولة والمؤسسات القائمة ليست ملكًا للشعب بل ملك لرجال الأعمال الفاسدين الذين يصنعون جزءًا كبيرًا من النخبة (نخبة العاصمة وجامعاتها)، ويوجهون العملية السياسية بواسطتها نحو المزيد من التحكم في مقدرات البلد وقطع الطريق على نموه الديمقراطي وتبلور تجربته، لذلك فالنقاش الآن هو كيف نغير المنوال الذي يسقط بمنوال جديد يفرز دولة جديدة بحكومات جديدة ووزراء يحترمون شعبهم وبلدهم وجيرانهم؟
نحن في تونس نتقدم في سياق ثورة غير أن التغيير سيكون بطيئًا كفعل الماء في الصخر
النقاش إذًا ليس في صلاحية الحكومة وديمومتها، فالحكومة ساقطة أخلاقيًا وسياسيًا، وقد سبق أن أبرزنا بعض وجوه سقوطها في مقالات سابقة، فما يجري الآن من نقاش عن نهايتها ليس إلا لغو صالونات مرفهة (خاصة مع اشتداد هاجرة الصيف والتكييف).
النقاش الآن هو في سبل الخروج عبر الكامور وجمنة ونشاطات أخرى مماثلة إلى منوال جديد عبر حراك جديد يترجم تطلعات أجيال جديدة في بلد جديد بلا نخبة مستهلكة تعيش من جمل مستهلكة وأفكار مستنفدة وتناور على مكاسب قليلة لم تعد تصنع بلدًا جديرًا بالاحترام، نحن في تونس نتقدم في سياق ثورة غير أن التغيير سيكون بطيئًا كفعل الماء في الصخر.