بعد أيام من الانتظار، أطل زعيم “حزب الله” اللبناني حسن نصر الله على جماهيره بخطاب متلفز، هو الأول له منذ الحرب الإسرائيلية على غزة، ورغم الترقب الإعلامي والسياسي لخطابه، فإنه لم يشكل تحولًا مهمًا في مسار المواقف السياسية التي صدرت عن إيران أو باقي أطراف “محور المقاومة”.
فقد كان بمجمله خطابًا تعبويًا إنشائيًا، حاول من خلاله استعراض السردية التاريخية لحروب حزبه مع “إسرائيل”، مؤكدًا تمسكه بقواعد الاشتباك في هذه الحرب، وأنه لن ينخرط فيها، إلاّ إذا اعتدت “إسرائيل” على لبنان.
ورغم ذلك، كان من الطبيعي أن لا يتجاوز نصر الله المستوى الذي ظهر عليه خطابه، فالبيئة الإقليمية والدولية ليست داعمة له، كما أن الوضع في الداخل اللبناني غير مهيأ لحرب تدمير شامل قد تشنها “إسرئيل”، والأهم إن أي انخراط عسكري لـ”حزب الله” في حرب غزة، قد يعرض سيطرة “حزب الله” على الداخل اللبناني للخطر، وهي سيطرة جاهد الحزب لترسيخها منذ سنوات، سياسيًا واقتصاديًا، بعد أن كان مجرد طرف في المعادلة السياسية اللبنانية، والأهم أن إيران لا تريد له ذلك.
إيران تضبط الإيقاع
إن نظرة ثاقبة للمفرادات التي ساقها نصر الله في خطابه، تظهر أنه كان حريصًا على عدم تجاوز الخطوط الحمراء الإيرانية المرسومة له، أو على أقل تقدير أن لا يمثل خطابه خروجًا عن الموقف الإيراني العام من هذه الحرب، وما يدلل على ذلك أن قائد قوة القدس، إسماعيل قآني، موجود في لبنان منذ ثلاثة أيام، ويمكن اعتبار وجوده بمثابة حرص إيراني على ضبط النبرة الخطابية لنصر الله، وصياغة بعض المفرادات الخطابية التي قد تنعكس سلبًا على الجهود الدبلوماسية التي يقودها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في سلطنة عُمان، لبلورة حل سياسي يمكن من خلاله لإيران أن تستمثر سياسيًا في حرب غزة.
“حزب الله” وجد لمهمة أساسية هي: حماية ظهر إيران فيما لو تعرضت لهجوم مسلح، أو فرضت عليها حرب مفتوحة
تدرك طهران جيدًا أن الظروف الإقليمية ليست ظروفها، وحرب غزة ليست حربها، فتأكيدها على عدم وقوفها وراء قرار حماس بدخول الحرب، تم تأكيده مرة أخرى على لسان نصر الله عندما قال: “إيران ليس لها علاقة بما يجري، فالحرب من تخطيط وقرار فلسطيني”، وهو توصيف واضح لمحاولة النأي بالنفس عما يجري في غزة.
ورغم تأكيده على أن جميع الخيارات مطروحة في هذه الحرب، أعاد التأكيد أيضًا في نهاية خطابه على ضرورة وقف إطلاق النار، من أجل أن تنتهي هذه الحرب، دون أن يضطر للمشاركة فيها.
إن نظرة إيران لـ”حزب الله” تحظى بمركزية مهمة، بل إن أهميته لإيران، تفوق أهمية باقي أطراف “محور المقاومة”، لذلك تحرص إيران على توفير بيئة صراع مناسبة للحزب كي ينخرط فيها، فهي كانت حريصة على عدم استنزافه بالحرب السورية، كما هي حريصة اليوم على عدم استنزافه بحرب غزة، لأن الحزب وجد لمهمة أساسية هي: حماية ظهر إيران فيما لو تعرضت لهجوم مسلح، أو فرضت عليها حرب مفتوحة، فالحزب هو الركيزة التي يقوم عليها مشروعها، ولا يمكن التفريط به بأي شكل.
تغيير قواعد اللعبة
حاول نصر الله التأكيد في خطابه على الجبهتين العراقية واليمنية، عندما أشار بشكل واضح لمباركته للعمليات الصاروخية التي قامت بها الفصائل المسلحة العراقية وجماعة الحوثي اليمنية خلال الأيام الماضية، وركز بشكل مباشر على أن الولايات المتحدة تتحمل تبعات الحرب الإسرائيلية على غزة، باعتبار أنها الداعم والمخطط لهذه الحرب، وهو ما يشير إلى أن نصر الله يحاول تركيز الهجمات بعيدًا عن الجبهتين اللبنانية والسورية، من أجل إجبار الولايات المتحدة للضغط على “إسرائيل” لوقف إطلاق النار.
فمن خلال تقييم الأسابيع الأولى من الحرب، يرى المسؤولون العسكريون الإسرائيليون أنه قد تم ردع “حزب الله” إلى حد كبير، عن الانخراط في تصعيد واسع النطاق، لكنه ملتزم بإظهار الدعم لـ”حماس”، من خلال مهاجمة أهداف عسكرية إسرائيلية عبر الحدود، والسماح لجماعات أخرى بمهاجمة “إسرائيل” من المناطق التي يسيطر عليها حزب الله في جنوب لبنان.
وهي أمور ركز عليها نصر الله في خطابه، بالإشارة إلى “سرايا القسام” وفصائل أخرى موجودة بالجنوب اللبناني.
يدرك “حزب الله” أن إيران تريد الاحتفاظ بالغالبية العظمى من ترسانة الحزب الصاروخية احتياطيًا لردع “إسرائيل”، أو أي جهة أخرى عن مهاجمة برنامجها النووي
ومع ذلك، لا تزال السلطات الإسرائيلية تشعر بالقلق من أن الحزب قد يتسلق بسرعة سلم تصعيد منظم يمثل أكبر تهديد لـ”إسرائيل” خارج نطاق “حماس” في هذه المرحلة من الصراع، لكن في غياب حدث مثير، لا يزال من غير المرجح أن يسعى إلى شن حرب واسعة النطاق مع “إسرائيل”، ويدرك الحزب أن الجيش الإسرائيلي استعد على نطاق واسع لـ”الحرب القادمة” بين “إسرائيل” وحزب الله، التي ستكون ذات حجم مختلف تمامًا عن حرب عام 2006.
وتدرك عناصر الحزب أن لا أحد تقريبًا في لبنان يريد مثل هذه الحرب، خاصة في سياق الأزمة الاقتصادية والسياسية الحاليّة التي تعيشها البلاد، وأخيرًا، يدرك “حزب الله” أن إيران تريد الاحتفاظ بالغالبية العظمى من ترسانة الحزب الصاروخية احتياطيًا لردع “إسرائيل”، أو أي جهة أخرى عن مهاجمة برنامجها النووي.
موقف الولايات المتحدة
قال مسؤول رفيع في البيت الأبيض إن مسؤولي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن “على علم بما جاء في خطاب زعيم حزب الله حسن نصر الله، لكنهم لا ينوون الانخراط في حرب كلامية”، وأكد المسؤول أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى توسيع رقعة التصعيد الذي فرضته “حماس” على “إسرائيل”.
كما أضاف “واشنطن وشركاؤها أوضحوا بجلاء أنه لا ينبغي على حزب الله، أو جهات أخرى في المنطقة سواء كانت دولًا أو مجموعات غير حكومية أن تستغل الصراع الدائر”، محذرًا من أن ذلك من شأنه أن يحول الصراع الحاليّ إلى حرب أكثر دموية من الحرب بين “إسرائيل” ولبنان عام 2006، وشدد في ذات الوقت على أن الولايات المتحدة لا ترغب في أن يتسع هذا الصراع ليشمل لبنان، مضيفًا “من الصعب تخيل الدمار الذي سيلحق بلبنان”.
الخشية الأمريكية تتمثل بالتصعيد العسكري الذي يمكن أن تقدم عليه الفصائل المسلحة العراقية
إن التعامل الأمريكي الحذر مع خطاب نصر الله، وكذلك تصريحات باقي أطراف “محور المقاومة”، تشير إلى أن الولايات المتحدة تعمل وفق مسارين: الأول تحييد أطراف “محور المقاومة” بالشكل الذي يوفر لـ”إسرائيل” بيئة مناسبة لارتكاب مزيد من المجازر في غزة، والثاني التلويح بالتحشيد العسكري كعنصر ردع يمكن أن توظفه الولايات المتحدة في حرب مباشرة مع إيران، خصوصًا أن الرسائل التحذيرية الأخيرة التي وجهت لإيران من إدارة بايدن، حملت إيران مسؤولية أي تصرف يقدم عليه حلفاؤها في المنطقة، لذلك تعمل الإدارة الأمريكية على فسح المجال لإيران وباقي أطراف محور المقاومة بالتصعيد السياسي، لكن دون أن يتحول بأي مرحلة من المراحل إلى تصعيد عسكري.
وفي هذا الإطار يمكن القول إن الخشية الأمريكية تتمثل بالتصعيد العسكري الذي يمكن أن تقدم عليه الفصائل المسلحة العراقية، خصوصًا بعد أن انخرطت خلال الأيام الماضية ضمن عنوان فصائلي واحد، وهو “فصائل المقاومة الإسلامية في العراق وسوريا”، ومن ثم فإن عملية الإدماج الفصائلي التي جرت على الساحتين العراقية والسورية، قد توفر مزيدًا من التنسيق في عمليات الهجوم على المصالح الأمريكية سواء في العراق أم سوريا أم حتى دول الخليج، وهي نقطة ركز عليها نصر الله في خطابه، وهو ما تخشى منه الولايات المتحدة أيضًا.