يشهد تاريخ مصر على ولادة العديد من المفكرين والعلماء العظماء، إذ انبثقت العديد من الحركات الفكرية والوطنية على أرضها وأحدثت صدى مرضيًا أحيانًا وناقمًا أحيانًا أخرى للطبقات الحاكمة بالأخص.
هذه التيارات كانت موجهة لعامة الناس ولها أهداف عديدة ومتفقة جميعها على الوحدة الإسلامية، على الرغم من التاريخ المجيد للعلم والثقافة في مصر، فإنها عاشت مراحل من الجمود الفكري المتشبث بالماضي والمحتكر على فئة معينة من الناس، وذلك بسبب منع أو نفي العديد من المثقفين وأصحاب الفكر إلى خارج مصر لإعاقة طموحهم في تغيير البنية الفكرية لمصر وشعبها.
في الآونة الأخيرة، تم اتهام الأزهر الشريف على أنه مصدر للفتاوى المتشددة والمتزمتة وأنه يتجاهل الأفكار الدينية المعاصرة، على الرغم من أن أشهر تلاميذه وعلمائه من رواد حركة التجديد والإصلاح التي استندت في الأساس على تجديد الأفكار الدينية السائدة وذلك من خلال الاعتماد على الاجتهاد واستخدام العقل في الفكر الديني لمواكبة متغيرات العصر الحتمية.
مؤسس الترجمة
رفاعة الطهطاوي كانت عائلته عبارة عن نخبة من العلماء والشيوخ، لذلك لا يستغرب أن يكون أحد قادة النهضة العلمية في مصر، وهو واضع أساس النهضة، التحق بالأزهر الشريف من عمر 16 عامًا، وتعلم فيه مختلف أصول العلوم الدينية، لم يكن منحازًا لاتجاه فكري معين وإنما اتبع النهج الأصولي والمعاصر، فقد اهتم بكل ما تنتجه الحضارة الغربية من كتب وعلوم جديدة ودعا إلى معاصرة المعارف الحديثة، وبجانب ذلك كان واسع الاطلاع على الماضي ومهتمًا بشأن الحضارة المصرية والآثار المصرية وحفظها من الضياع والتهريب.
مدرسة الألسن
مبدأ المواطنة الذي أشار إليه الطهطاوي يقوم على الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.
هو أقدم رواد حركة التجديد والإصلاح، بدأت رحلته عندما أرسل لدراسة في فرنسا وذلك من خلال بعثة دراسية أوصى بها محمد علي باشا، عاد الطهطاوي ليكون مشروعه الأول تأسيس مدرسة ألسن للترجمات، حققت الألسن نجاحًا بارزًا في ترجمة العديد من الكتب وتعليم مختلف اللغات مثل الفرنسية والإيطالية والتركية والإنجليزية.
تعتبر أيضًا هذه المدرسة من أبرز الإسهامات الفكرية لطهطاوي في النهضة الفكرية الحديثة في مصر وإحدى أقوى الدعائم الفكرية لهذا التيار التجديدي لترجمتها الكثير من علوم الثقافات الأخرى.
لم تكن الترجمة وحدها وإنما إبداعاته الكتابية في تخليص الإبريز في تلخيص باريز والذي تعرض فيه الطهطاوي للكثير من المفاهيم الفلسفية والفكرية الحديثة ومثال على ذلك مبدأ المواطنة الذي أشار إليه الطهطاوي والذي يقوم على الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.
موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام
جمال الدين الأفغاني جاء إلى مصر أول مرة عام 1870 وبقي فيها ثماني سنوات وعندما زار الأزهر الشريف اجتمع من حوله الطلاب مستمعين إلى أحاديثه التي تخاطب العقل وتفتح الأذهان، خاطبهم ببراعة وكانت أحاديثه عن العلوم الفلسفية والدينية.
“اصحوا من سكرتكم، عيشوا كباقي الأمم أحرارًا سعداءً، أو موتوا مأجورين شهداء”.
قال تلميذه محمد عبده عنه: “هو في كل أحاديثه لا يسأم”، عمل الأفغاني صحفيًا مناهضًا للاستعمار البريطاني ومترجمًا وسياسيًا، وبرز دوره في النهضة الأدبية الحديثة الذي سعى من خلالها للإصلاح الديني والوعي الإسلامي والقومي، بجانب ذلك، كان من أعلام دعاة تجديد الفكر الإسلامي، وفي أثناء إقامته في مصر نشر أفكار إصلاحية وحديثة تحارب الجمود الفكري في المسائل الدينية.
كان الأفغاني يؤمن أن سر قوة الغرب لا يكمن في تقديس السلاطين وخلفائهم أو في الامتثال لفتاوى المدارس القديمة، وإنما في إتقان العلوم المعتمدة على العقل وحرية التفكر، لذلك ركز اهتمامه على التواصل والخطابة مع عامة الناس وليس الملوك والأمراء، وكان كثيرًا ما يشير إلى أن ضعف الدولة بسبب فساد الطبقة الحاكمة.
ومن أقواله في هذا الشأن: “إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد وتناوباتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك والعلويين وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر، وهياكل ممفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، عيشوا كباقي الأمم أحرارًا سعداءً، أو موتوا مأجورين شهداء”.
أحد اهتماماته الأخرى كانت مناهضة الاستعمار البريطاني من خلال جريدة العروة الوثقى التي أنشأها في باريس بمساعدة وتحرير تلميذه محمد عبده، من خلال هذه الجريدة التي لاقت رواجًا وجدلًا واسعًا كشف الأفغاني عن النوايا والخطط الاستعمارية وواصل جهوده في الإصلاح السياسي والثقافي والديني على الرغم من كل الاتهامات والقيود التي تعرض لها في أثناء تحقيق هذه الرسالة.
مفتي مصر الأول
محمد عبده هو تلميذ جمال الدين الأفغاني وأحد رموز التجديد في الفقه الإسلامي الذي اعتمد في دعوته على العطاء الفكري ومواكبة متطلبات العصر الحضارية وذلك للنجاة من الاضمحلال الفكري، قام عبده عالم الدين بالدراسة في الأزهر الشريف عام 1865، واستقل منصب الإفتاء ليصبح أول مفتي مستقل لمصر، وبعد سنوات درس هناك وعمل على نشر مختلف العلوم الفلسفية والدينية الإصلاحية.
جريدة العروة الوثقى كانت تعمل في الأساس على التحرر من الاستعمار الأجنبي والتخلص من جميع أشكاله.
كان يرى أن الإصلاح يكون من خلال نشر التعليم وتثقيف عامة الشعب، بعد أن تم نفيه إلى بيروت ومن ثم انتقاله إلى باريس بجانب معلمه جمال الدين الأفغاني لمساعدته في تحرير جريدة العروة الوثقى التي لم تستمر كثيرًا وذلك لأن المقالات التي كانت تكتب أثارت غضب ونقم الإنجليز والفرنسيين لأن الجريدة كانت تعمل في الأساس على التحرر من الاستعمار الأجنبي والتخلص من جميع أشكاله، بعد أن تم العفو عليه، عاد إلى مصر وحاول من جديد الإصلاح في المؤسسات الإسلامية والنهضة بالتعليم وتطويره.
ارتكزت دعوته على أمرين عظيمين:
كما قال: “الأول تحريرُ الفكر من قيد التَّقليد، وفهْمُ الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسْب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري، أما الأمر الثاني، فهو إصلاحُ أساليب اللغة العربية في التحرير”.
خاتمة رواد حركة الإصلاح
محمد رشيد رضا هو تلميذ المفكر الديني محمد عبده، كان صوفيًا حتى أصبح قارئًا مهتمًا لمقالات مجلة العروة الوثقى فتغير فكره وميوله ليصبح واحد من رواد الإصلاح.
يعرف بأنه آخر حلقة لحركة رواد الإصلاح الديني الذي يحارب التقليد والتبعية الفكرية ويحذر من الجهل وضلالاته، عمل على تأسيس مجلة المنار لينشر الوعي للناس عن أهمية التفكر والاجتهاد، فكانت هذه المجلة منبرًا لأفكاره ومعتقداته التي تهدف إلى الإيقاظ العلمي.
بجانب ذلك، وثق وأرخ رشيد رضا عصر هذه الحركة في العالم العربي الإسلامي والتي اعتبرت أكثر الفترات الإصلاحية أهمية في العالم الإسلامي لمدة خمس وثلاثين سنة حتى وفاته، امتلك رشيد رضا أعمال ضخمة أخرى، اعتبرت كمراجع أساسية ودليل مهم على الدور والنشاط الذي أنجزه.
القضية المحورية المقصود تفسيرها هنا هي التقاء هؤلاء المفكرين على اتجاهات فكرية دعت إلى تطوير الفكر الإسلامي بشكل صريح، في نفس الوقت كانوا تلاميذ وعلماء المؤسسة الأزهرية التي تدرس غالبية العلوم الدينية الأصولية التقليدية والإصلاحية أيضًا.