تعاني أكثر شركات القطاع العام في تونس منذ العام 2011 مشاكل مالية ضخمة أربكت الحكومات المتعاقبة بتحمل أعبائها من خلال الاقتراض من المؤسسات الدولية، وطرحت حوارات عديدة تدعو إلى خصخصة تلك المؤسسات ولا سيما شركات النقل.
خطط حكومية للتخلص من أعباء القطاع العام
تستعد حكومة يوسف الشاهد للتصديق على برنامج هيكلة المؤسسات العمومية في البلاد بهدف دعم مساهمتها في الاقتصاد والتخفيف من أعباءها على موازنة الدولة، حسب ما أفادت مصادر إعلامية. يوجد في تونس نحو 400 مؤسسة حكومية تقدم خدماتها في أكثر من 25 قطاع ومن أبرز تلك المؤسسات شركات النقل البري والجوي والسكك الحديدية وشركات الكهرباء والغاز والمياه والملاحة والتلفزة والإذاعة والطباعة والنشر والصيد البحري وشركات عقارية والمصارف وغيرها.
يوجد في تونس نحو 400 مؤسسة حكومية تقدم خدماتها في أكثر من 25 قطاع
يترواح العجز المالي لتلك المؤسسات خلال الثلاث سنوات الماضية نحو 3 مليارات دينار تونسي أو نحو مليار وربع دولار حسب أرقام رسمية للحكومة التونسية، تجد الحكومة نفسها مضطرة للتعامل مع ذلك العجز من خلال الاقتراض من مؤسسات دولية وحكومات، وهو ما يساهم في رفع عجز الميزانية العامة للبلاد، لذا فإن تصحيح الوضع المالي لتلك المؤسسات يقتضي السير في برامج إعادة هيكلة جذرية لها، وهو ما كانت الحكومات السابقة تتردد به.
يذكر خبراء اقتصاديون أن مشلكة تلك المؤسسات تتعلق بالبطالة المقنعة؛ بحيث يكون هناك عمال فائض عن الحاجة، لا تشكل إنتاجية العامل في جوهرها أي قيمة حقيقية للاقتصاد، لذا توصف عملية توظيف أولئك العمال بأنها فائضة، وعملية توظيفهم لم تضف شيئًا على الصعيد التشغيلي، وإلى حجم الإنتاج الفعلي حيث تكون الإنتاجية الهامشية للعامل الواحد عند حدودها الدنيا. ولكن مع قلة إنتاجية العامل يبقى موظفًا في المؤسسة ويحتاج لتغطية تكاليفه، وهذا يدفع الحكومة غلى ضخ أموال باستمرار لضمان بقاء مؤسسة غير مجدية اقتصاديًا على الصعيد العملي.
البرنامج الإصلاحي الذي تطرحه الحكومة التونسية يقوم على تعزيز الصلابة المالية لتلك المؤسسات عبر زيادة رأسمالها، وتطوير الحوكمة ودفع تنافسيتها وتحسين المناخ الاجتماعي لرفع قدراتها الإنتاجية. ولكن أيًا من تلك الحلول ستؤدي للاستغناء عن عدد كبيرمن الموظفين لخفض كتلة الأجور وهو ما يمكن أن يسبب مشاكل كثيرة مع نقابات العمال في تونس.
يترواح العجز المالي للمؤسسات العمومية خلال الثلاث سنوات الماضية نحو 3 مليارات دينار تونسي أو نحو مليار وربع دولار
وكانت الحكومة التونسية تدرس في وقت سابق تطبيق حزمة من الإصلاحات تمس المؤسسات الحكومية كبيع حصص في 3 بنوك على سبيل الخصخصة بالإضافة إلى خطوط الطيران التونسية مؤسسات أخرى، وتسريح ما لا يقل عن 10 آلاف موظف في القطاع العام بشكل اختياري خلال العام الحالي، في إطار خطط لإصلاح القطاع المصرفي وقطاعات.
ففي العام 2015 ضخت الحكومة 800 مليون دينار – ما يعادل نصف مليار دولار- كحزمة لإنقاذ 3 بنوك في تونس تواجه صعوبات مالية هي: البنك التونسي الفلاحي، والشركة التونسية للبنك، وبنك الإسكان، من العجز المالي الذي كانت تعاني منه إلا أن تلك الأموال لم تكن كافية لإخراج البنوك من عجزها المالي، ويواجه القطاع المصرفي في تونس من انتقادات داخلية وخارجية بسبب ضعف مساهمته في تمويل الاقتصاد المحلي.
صندوق النقد الدولي في تونس
لا يذكر خصخصة مؤسسات القطاع العام إلا ويذكر معها صندوق النقد الدولي وإملاءاته على الحكومات العربية لصالح منحها القروض اللازمة لعملية التنمية. فجولة كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي وموفدي الصندوق إلى الدول العربية كانت تحمل إملاءات على الحكومات لتعويم العملات وخصخصة القطاع العام وخفض الأجور والدخول في التقشف وفرض الضرائب ورفع الأسعار والدعم، وتعد التجربة المصرية مع الصندوق مثال جيد عن تجاوب الحكومة لشروط الصندوق.
بالنسبة لتونس فهي تواجه ضغوطًا من المقرضين الدوليين وأبرزهم صندوق النقد الدولي الذي وافق العام الماضي على إقراض تونس 2.8 مليار دولار مقابل حزمة إصلاحات في العديد من القطاعات، وكان الصندوق صرف لتونس في يونيو/حزيران الماضي أول شريحة من القرض بقيمة 320 مليون دولار، مقابل القيام بإجراءات معينة كشرط لصرف الشرائح الأخرى من القرض.
وصلت تكلفة الأجور في تونس إلى 14.4 % من الناتج المحلي الإجمالي وهي من أعلى المعدلات في العالم
برنامج الإصلاحات التي تسعى الحكومة لتطبيقه في الفترة المقبلة يرتكز على خصخصة قطاعات حكومية تعاني من مشاكل وأزمات مالية، وإجراء تعديلات على البرنامج الضريبي لجذب الاستثمارات الأجنبية في مسعى من الحكومة لنشل مؤشرات الاقتصاد المتداعي منذ فترة.
ومن بين الإصلاحات التي تسعى الحكومة لعملها وبشكل فوري كما قالت سابقًا وزيرة المالية التونسية لمياء الزريبي، تسريح 10 آلاف موظف على الأقل في العام الحالي عبر التشجيع على التقاعد المبكر وبرامج التسريح الطوعي، فمع وصول أعداد العاملين في القطاع العام إلى حوالي 650 ألف موظف وزيادات الأجور في السنوات الأخيرة وصلت تكلفة الأجور إلى 14.4 % من الناتج المحلي الإجمالي وهي من أعلى المعدلات في العالم، لذلك فإن هذه الخطوة لا يستبعد أن تكون من بين مطالب صندوق النقد الذي يطالب دومًا بتخفيض الإنفاق العام وترشيد النفقات، وهو ما وعدت به الوزيرة بقولها أن الحكومة تعهدت بخفض تكلفة الأجور إلى 14% على الأقل بنهاية 2017 على أن تبلغ 12.5 % في 202، واستعدادات حكومة الشاهد لتطبيق إصلاحات هيكلية على المؤسسات العمومية متماهية مع طلبات الصندوق.
يجب أن تتم الإصلاحات على مؤسسات القطاع العام وفق خطة متدرجة تتضمن دراسة كاملة لكل العاملين فيه ومن سيتم فصلهم، ليتم فتح قنوات عمل أخرى لهم حال إخراجهم من أعمالهم وعدم تركهم للبطالة.
لا يمكن ترك المؤسسات العمومية تتخبط في مشكلاتها وأزماتها وتتحمل الحكومة بالنهاية أعبائها المالية الثقيلة، ولبتر المشكلة يجب التعامل معها بمرونة كافية لا تغضب نقابات العمال في البلاد، فتطبيق إصلاحات هيكلية على تلك المؤسسات ضروري جدًا ولكن يجب أن يتم وفق خطة متدرجة تتضمن دراسة كاملة لكل العاملين في القطاع العام ومن سيتم فصلهم، ليتم فتح قنوات عمل أخرى لهم حال إخراجهم من أعمالهم وعدم تركهم للبطالة.
ومن جهة أخرى تطبيق برنامج تقشفي على الأجور بشكل تدريجي، وهو فارق مهم عن إملاءات الصندوق الذي يتبع غالبًا أسلوب الصدمة الذي يؤذي المؤسسة والمواطن والاقتصاد بالعموم.
ومن باب أولى بالنسبة لحكومة يوسف الشاهد التي استلمت الحكومة في أغسطس/آب من العام الماضي أن تقوم بإصلاحات تنم عن مصلحة وطنية بحتة، وليس الرد على إملاءات صندوق النقد الدولي، وذلك يتم بالتعاون والتنسيق مع المؤسسات العمومية وليس ببيعها والتخلي عنها وترك العاملين فيها للبطالة،علمًا أن الحكومة لم تقدم منذ قدومها إصلاحات كبيرة تغير المنحى الذي تسير فيه البلاد.