فوق صخرتين مرتفعتين من الكلس القاصي، شرق البلاد، شيدت مدينة الجسور المعلقة “قسنطينة الجزائرية”، لتبهر العالم بجمالها الفريد وتؤكد تمردها على الطبيعة وتطويعها، خدمة لها ولساكنيها على مر التاريخ.
رائحة المدن تأخذكم في جولتها الأسبوعية لمدن المغرب العربي إلى عاصمة الشرق الجزائري، “مدينة الصخر العتيق قسنطينة” التي تتسم بالسمات الجبلية ذات التضاريس الصعبة والجسور المعلقة والتراث الفريد والغناء الأندلسي الأصيل “المالوف”.
مدينة “الجسور المعلقة”
“قسنطينة مدينة الهوا وبلاد الريَاس، قسنطينة بلاد الدين والعلماء، اللي زارك بلى ندامة، ناس الذكر والفهامة من باديس للعلماء”، بعض ما قيل من كلمات تتغنى بالمدينة ومناقب أهلها وتصف جمالها وروعة طبيعتها وتنقل تاريخها الثري.
لقبت هذه المدينة بعد أن اشتهرت بأسماء قسنطينة وكرثن وسيرتا، بمدينة “الجسور المعلقة”، لما تحتويه من جسور تعلو وادي الرمال العميق الذي يمر بالمدينة ويشقها، جسور تشد نظرك، عند وضع قدميك هناك، في المدينة التي سلبت السياح عقولهم لجمالها وسحرت القلوب لدقة عمرانها، أكثر من ثمانية جسور يربطان قسما المدينة منذ تم تشيدها فوق الصخرتين، ظل بعضهم شامخًا يصارع الزمن إلى الآن والبعض الآخر بدأ في الاندثار لتقدم الزمن وانعدام الترميم، ومع ذلك فهم يروون قصة مدينة فريدة من نوعها، طوعت الطبيعة وسخرتها لخدمتها.
جسور المدينة
ويعتبر جسر باب القنطرة أقدم هذه الجسور، شيده الرومان ثم رممه الأتراك سنة 1792، فيما يعتبر جسر سيدي راشد أعلى وأضخم جسر حجري في العالم، صممه المهندس الفرنسي أوبين أيرو، ويحمله 27 قوسًا، يبلغ قطر أكبرها 70م، ويقدر علوه بـ105م، وطوله 447م وعرضه 12م، بدأت حركة المرور به سنة 1912، ويمثل جسر سيدي مسيد أو ما يسمى أيضًا بالجسر المعلق الذي شيد سنة 1912 أعلى جسور قسنطينة، ونجد أيضًا جسر ملاح وجسر مجاز الغنم وجسر الشيطان، الذي يقع في أسفل الأخدود أو المنحدرات كما يطلق عليها، وجسر الشلالات الذي يعلو مياه وادي الرمال التي تمر تحته مكونة شلالات.
أبواب المدينة السبع
إلى جانب هذه الجسور الرابطة بين القمم المنبسطة لجبال قسنطينة، التي ميزت المدينة بكونها أحد أهم الأماكن التي يقصدها السياح، عرفت المدينة أيضًا بأبوابها السبع التي تتخلل السور الذي حولها كقلعة محصنة.
أحد أبواب المدينة
أبواب تغلق جميعها في المساء، ليعاد فتحها مع فجر اليوم التالي، أعلى هذه الأبواب يسمى “باب الجابية” يقع على ارتفاع 510م، وخلف باب “الجايبة” هناك باب “القنطرة” الذي يمثل همزة الوصل بين وسط المدينة وضفتها الجنوبية، فيما يتخذ باب “الواد” من طرف الوافدين حيث يمكنهم من دخول الروابي، بينما يسمح باب “الحنانشة” بالذهاب إلى الينابيع التي تصب في أحواض مسبح “سيدي مسيد” المعروف، كما أن هناك باب “الرواح” الذي يوصل قاصديه إلى منابع “سيدي ميمون” التي تصب في المغسل الشمالي لقسنطينة، وبمحاذاته نجد باب “الجديد” الذي جرى استحداثه سنة 1925 من طرف الفرنسيين، وإلى جانب هذه الأبواب الست، نجد باب “سيرتا”، الذي اكتشف قبل 74 سنة، ويعتقد مؤرخون أنه كان باب المدينة الأول واتخذه قدماء الرومان معبدًا.
معمار فريد جمع الحضارات
وسط هذه المدينة الفريدة التي تعتبر تاريخيًا عاصمة للدولة النوميدية الشرقية بداية من القرن الرابع قبل الميلاد، مع كل خطوة تخطوها، يقابلك مشهد ينسيك الذي سبقه من شدة جماله وروعته، خاصة في المدينة القديمة التي تشتهر بأزقتها الضيقة والساحات والأسواق الشعبية التي يسميها أهلها بالرحبات، فهناك رحبة الجمال وأسواق الخرازين والعطارين والصاغة والصباغين.
قصر الباي أحمد
وهناك في قصر الباي أحمد، الذي تصدى لمحاولات الطمس الفرنسي، يرجع بك التاريخ إلى الإمبراطورية العثمانية ومعالمها المعمارية المهمة والفريدة، ويتوسط قصر الباي المدينة كتاج يوشح “قسنطينة”، من خلال ثراء تنوعه الهندسي والزخرفي.
ويرجع بك نصب الأموات (1934) إلى الحرب العالمية الأولى، حيث وضع هذا النصب وعليه تمثال النصر الذي يبدو كطائر خرافي يتأهب للتحليق لذكرى موتى فرنسا في هذه الحرب.
ومن المعالم الإسلامية التي كانت وما زالت مركزًا لدور العلم وتعليم القرآن الكريم، مسجد الجامع الكبير الذي شيد في عهد الدولة الزيرية سنة 1136، وأقيم على أنقاض المعبد الروماني الكائن بنهج العربي بن مهيدي حاليًا، ويتميز بالكتابات العربية المنقوشة على جدرانه، وجامع سيدي الأخضر الذي أمر ببنائه الباي حسن بن حسين سنة 1743، وجامع سيدي الكتاني الذي شيد سنة 1776 في ساحة “سوق العصر”، ومسجد الأمير عبد القادر الذي يعتبر من أكبر المساجد في شمال إفريقيا، حيث يبلغ علو مئذنتيه 107 أمتار وارتفاع قبته 64 مترًا، ويعتبره الكثيرون إحدى التحف التي أبدعها الإنسان في العصر الحاضر، وفق النمط المشرقي الأندلسي.
مسجد الأمير عبد القادر
ونتيجة لهذه الدور العلمية أنجبت مدينة قسنطينة عددًا كبيرًا من العلماء والمفكرين الإسلاميين من أشهرهم عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائرية، والمفكر مالك بن نبي الذي يعد أحد أبرز أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين.
“المالوف” و”الملاية السوداء”
إضافة إلى كونها مركزًا لدور العلم وتعليم القرآن الكريم، تعتبر المدينة مركزًا من مراكز الموسيقى الأندلسية، “المالوف الأندلسي” الذائع الصيت، وتعتبر هذه الموسيقى أحد أنواع الموسيقى المنتشرة في المدينة والتي ورثتها من الأندلس وطورتها وهذبتها، وتتكون مادتها النظمية من الشعر والموشحات والأزجال والدوبيت والقوما، مع ما أضيف لها من إضافات لحنية أو نظمية محلية جمعت بينها دائرة النغم والإيقاع، وما استعاروه من نصوص وألحان مشرقية.
أكل قسنطيني
رغم التحولات العميقة التي عرفها المجتمع المحلي في قسنطينة، حافظ نساؤها على ارتداء الملاية السوداء التي انتشرت بعد رحيل الحاكم التركي الشهير “أحمد باي” قبل نحو مئتي سنة، حيث من فرط حزن أبناء المنطقة على فقدان ذلك الحاكم المحبوب لديهم، قررت النسوة ارتداء الملاية السوداء تعبيرًا عن حزنهن، واستمر الأمر على ذلك الحال إلى الآن، ويتميز مطبخها بالوجبات التقليدية، حيث تقدم لزائريها كوكبة من الأطباق والأكلات الشعبية على غرار “شربة الحمص بلحم الأرانب”، والحريرة وغيرهما، وتشتهر بمنتجاتها من الصناعات الحرفية التقليدية كالنحاسيات والتطريز بخيوط الذهب.
الملاية السوداء
في قسنطينة، ستجد نفسك أمام مزيج ثقافي صنعه الأمازيغ والرومان والعرب واليهود والأتراك والأوروبيون، وتلونت روحه بالإسلام الذي حول قسنطينة إلى مركز إشعاع ديني، وفيها ستحدثك قصور البايات الأتراك عن المعمار العثماني، وتحدثك موسيقى “المالوف” عن الأندلس، والجسور عن الرومان.