زارت رئيسة الوزراء البريطانية، تيرازا ماي، خلال جولتها الأخيرة لمنطقة الشرق الأوسط في مطلع الشهر الجاري، الأردن والمملكة العربية السعودية، بهدف، وفق ما تم إعلانه، تعزيز التعاون الأمني ومكافحة تنظيم “داعش”. وتجدر الإشارة إلى أن هذه هي أول جولة خارجية لماي منذ إعلان بريطانيا رسمياً البدء في إجراءات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
يمكن اعتبار جولات ماي في المنطقة على أنها محاولات بحثٍ عن موضع قدم فاعل في الجغرافيا السورية، بعد فقدانها الأمل من تمرير أيٍ من مشاريع الحل السياسي التي سعت لصياغتها بالتعاون مع الدول الأخرى عبر مجلس الأمن.
لقد برزت رغبة بريطانيا لأول مرة في تحقيق مستوى أعلى للتعاون مع دول المنطقة في محاربة “داعش” أثناء زيارتها لتركيا في يناير المنصرم، حيث صرحت ماي خلال زيارتها بأن بريطانيا تسعى إلى تعزيز علاقاتها التجارية والأمنية مع تركيا ذات الدور الفاعل في المنطقة. وفي حين تُرجمت الزيارة وقتها على أنها إحدى خطوات بريطانيا لتفعيل التعاون التجاري مع الدول ذات المواقع الجغرافية الاستراتيجية، حمل لقاء ماي بالقيادة التركية بعد لقائها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الكثير من الدلالات على المسعى البريطاني الرامي إلى الحصول على دورٍ في سوريا بالتعاون مع الدول الإقليمية والدولية الفاعلة هناك.
ولقد تُرجمت هذه الدلالة من خلال دخولها -عشية وعقب هذه الزيارات- إلى الأراضي السورية عبر قوات خاصة دعمت الثوار السوريين المحاربين “لداعش” في محيط التنف المحاذية لكلٍ من الحدود الأردنية والعراقية في منتصف يناير الماضي وفقاً لموقع الجزيرة نت، ومن ثم القيام بإنزال جوي في الطبقة في 3 نيسان/أبريل 2017 وفقاً لصحف دولية.
ظهرت الصور الأولى للقوات الخاصة البريطانية التي تعمل على الأراضي السورية، في 9 آب/أغسطس من العام الماضي، بواسطة صحيفة الغارديان البريطانية. وقد ساقت الصحيفة حينها سبب وجود القوات الخاصة البريطانية على الأراضي السورية إلى الحاجة لتأمين محيط قاعدة جيش سوريا الجديد
في الحقيقة، ظهرت الصور الأولى للقوات الخاصة البريطانية التي تعمل على الأراضي السورية، في 9 آب/أغسطس من العام الماضي، بواسطة صحيفة الغارديان البريطانية. وقد ساقت الصحيفة حينها سبب وجود القوات الخاصة البريطانية على الأراضي السورية إلى الحاجة لتأمين محيط قاعدة جيش سوريا الجديد، في التنف” في أعقاب اعتداءات شديدة لتنظيم الدولة عليها.
وتعليقاً على الخبر، أكد موقع بي بي سي الإخباري حينذاك أن القوات البريطانية في موضع الدفاع وليس الهجوم. إذن نفذت بريطانيا بعض التدخلات المباغتة والسريعة في الأراضي السورية، وشاركت في التحالف الدولي لمحاربة “داعش” منذ اللحظات الأولى لتأسيسه، ولكن لم تظهر تدخلا عسكريا هجوميا واضحا متبعا بزيارات دبلوماسية تعززه إلا في الآونة الأخيرة، فما هي البواعث الأساسية التي قد تكون وراء المسعى البريطاني للحصول على دور مهم في الأراضي السورية في وقتنا الحالي بالتحديد؟
من المحتمل أن رغبة بريطانيا الشديدة في العودة إلى الساحة الدولية بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي هي العامل الرئيسي في دفعها نحو البحث عن موطئ قدم في المسألة السورية من خلال إظهار وجودها الميداني في بعض المناطق السورية التي تشكل أهمية استراتيجية بالنسبة لدول الجوار، كمنطقة جنوب وشرقي سوريا المحاذية للعراق والأردن. وبالطبع، لكي تعود بريطانيا إلى الساحة الدولية بثقلٍ ملموس لا بد لها من لعب دور مؤثر في أكثر القضايا تعقيداً على تلك الساحة، ولا شك في أن القضية السورية باتت حاضرة دائما في المحافل الدولية.
تبدو دول الخليج التي وجدت، عقب الاتفاق الأمريكي الإيراني النووي، ضرورةً لتنويع أطر تعاونها الأمني الذي كان يعتبر تعاونا أمنيا أحاديا مع الولايات المتحدة، تشكل هدف جيوـ سياسي وجيو ـ اقتصادي لبريطانيا
وعلى ما يبدو تحاول بريطانيا العودة إلى الساحة الدولية عبر تلك النافذة التي تُطل بظلالها السلبية، إن استمرت، على أهم دول المنطقة، تركيا والأردن والخليج العربي، ولكسب موقف سياسي ، والذي سيؤهلها لرفع مستوى التنسيق مع تلك الدول على كافة الأصعدة.
وتبدو دول الخليج التي وجدت، عقب الاتفاق الأمريكي الإيراني النووي، ضرورةً لتنويع أطر تعاونها الأمني الذي كان يعتبر تعاونا أمنيا أحاديا مع الولايات المتحدة، تشكل هدف جيوـ سياسي وجيو ـ اقتصادي لبريطانيا التي ترى أن التعاون مع هذه الدول، يخدمها بشكلٍ كبير في استعادة ثقلها الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط التي تمثل القلب الأمني والاقتصادي الرئيسي للعالم، لذلك تسعى للتقرب من دول الخليج للاستقادة من مخزونها الاقتصادي في الطاقة الوفير، ونفوذها السياسي البائن على بعض القوى الثورية لتنفيذ “سياسة تطويق” ناجحة على النفوذ الروسي والإيراني الذي يهدد الطرفين.
ولا شك في إن هذا المصلحة المتبادلة الموجودة بين بريطانيا ودول الخليج فيما يخص الحد من النفوذ الروسي الإيراني، تجمع بريطانيا وتركيا معاً، وهذا ما يفسر التحرك الدبلوماسي البريطاني النشط حيال هذه الدول التي تشعر بحاجة ماسة لشريكٍ دولٍ قوي يشكل أداة ضغط أو أداة موازنة للعنصر الأمريكي الذي يظهر مراوغة ملحوظة حيال حسم الأزمة السورية منذ نشوبها.
وفي سياق ذلك، لا بد من الإشارة إلى التهديدات التي تحيط بالمصلحة القومية البريطانية في المنطقة. فالتمدد الإيراني في محيط دول الخليج التي تمثل لبريطانيا مصدراً أساسياً للطاقة وغيرها من المصالح التجارية الأمنية، والتمدد الروسي الإيراني في محيط شرق البحر المتوسط؛ ذلك البحر الذي يحتضن قاعدة عسكرية بريطانية “ضامنة لعملية السلام” في جزيرة قبرص وقواعد عسكرية في بعض دول الخليج، ومنافذ بحرية تجارية دولية لا يجوز أن تقع تحت سيطرة هاتين الدولتين المنافستين للقطب الغربي بشكلٍ عام. إذن يبدو واضحاً أن هذه المخاطر أخذت ببريطانيا لرسم “سياسة التطويق” إزاء التمدد الإيراني الروسي المتنامي ابتداءً من سوريا التي تمثل الجغرافيا الأساسية المركزية لهذا التمدد.
وقد لا يقف الأمر على ذلك، فقد يظهر الوجود العسكري البريطاني في اليمن، المحاذية لمضيق باب المندب والخاضعة لسيطرة إيرانية غير مباشرة، وتونس، المتاخمة لليبيا التى تراها روسيا عنصراً مهماً لتثبيت دعائم نفوذها في حوض شرق البحر المتوسط. ربما رأت بريطانيا أن الشروع في قضم جذور هذا التمدد من مركزه، أي من سوريا، يخدم مصلحتها في المناطق الفرعية لهذا التمدد.
وفي ذات السياق، تشير المدرسة الإنجليزية السياسية إلى أن بريطانيا تحاول إحراز مصالحها القومية في البداية، من خلال الاعتماد على مبدأ الدبلوماسية الهادئة، والتعاون الاتحادي داخل المؤسسات الدولية، والاعتماد على المبادئ الحقوقية واتخاذ دورٍ بسيط في التحالفات العسكرية الداعمة للحقوق، قبل الانتقال إلى مرحلة السياسة الأمنية العسكرية المباشرة في حسم الأمور لصالح مصالحهم القومية. ويلاحظ المتمعن في مسار السياسة البريطانية حيال المسألة السورية، بالفعل يجد أن بريطانيا اعتمدت مبدأ الدبلوماسية الهادئة من خلال دعوة روسيا أكثر من مرة للعزوف عن دعم نظام الأسد، وفي إطار ذلك شاركت في الحصار الاقتصادي الذي فرضته الدول الأوروبية على روسيا نتيجة سياستها “الهجومية الاحتلالية” في القرم ومناطق أخرى حول العالم.
ترجمت بريطانيا مبدأ التعاون الاتحادي داخل المؤسسات الدولية عبر رفعها، عادة بالتعاون مع فرنسا، أكثر من مرة مشروع فرض عقوبات على النظام السوري إلى مجلس الأمن، ولكن دوماً كان يتم الاعتراض على مشاريعها من قبل الفيتو الروسي والصيني
أيضاً ترجمت بريطانيا مبدأ التعاون الاتحادي داخل المؤسسات الدولية عبر رفعها، عادة بالتعاون مع فرنسا، أكثر من مرة مشروع فرض عقوبات على النظام السوري إلى مجلس الأمن، ولكن دوماً كان يتم الاعتراض على مشاريعها من قبل الفيتو الروسي والصيني. وبما أن التحالف الدولي لم يدعم الحقوق التي تصب في صالح المصلحة البريطانية، أضحت الطريق مسدودة أمام بريطانيا التي باتت بحاجة إلى سياسة “الحسم” التي تشكل المرحلة الأخيرة من مسار سياستها.
ختاماً، تاريخياً تربعت بريطانيا على عرش منطقة الشرق الأوسط لفترة طويلة، وإن كان هناك طرفاً أدرى بشعاب تلك المنطقة فهي بريطانيا التي قد تدفعها المخاطر المحيطة بمصالحها القومية للإسهام بشكلٍ ملموس لحلحلة عملية حل الأزمات الفاعلة. إلا أنه بعد إعلان ماي عن إجراء انتخابات مبكرة في حزيران/يونيو، فإن مسار التدخل البريطاني في المسألة السورية قد يتأثر سلباً في حين خسر حزب المحافظين ـ الحزب الحاكم حالياً ـ وفاز حزب العمال الذي يدعم زعيمه، جرمي كوربين، نظام الأسد.