على الرغم من أنّ دماغ الإنسان أمرٌ معقّد وعجيب، لكنّه بالطبع ليسَ مثاليًا البتة، وفي كثيرٍ من الأحيان قد يقودنا لتصرفات أو استنتاجاتٍ خاطئة دونما وعيٍ منا، فكم مرة نسيتَ واحدًا من مواعيدك؟ أو كم مرةً فشلتَ في ملاحظة أحد الأشياء المهمة من حولك؟
قد تقوم في تلك الحالات بلومِ نفسك أو الظروف المحيطة على هذه الأخطاء البسيطة في حياتك، قد تبدأ بالقول أنك كنتَ مشغولًا جدًا فلم تنتبه، أو أنك كنت متعبًا أو مشتتًا فنسيت موعدك، لكن في الحقيقة فإن دماغك يلعب دورًا كبيرًا فيما وصلت إليه، فالدماغ لديه العديد من القيود والأنماط التي يمكن لها أن تؤدّي لتعثّرك خلال حياتك اليومية.
التحيزات الفكريّة تؤثر على تفكيرك
يتعرّض الإنسان لعددٍ من التحيزات المعرفية التي تمنعه من التفكير بوضوح واتخاذ قرارات دقيقة، وهذه التحيزات عبارة عن طرق معينة بالتفكير وجلب المعلومات تؤدي بالدماغ للوصول إلى استنتاجاتٍ أو اتخاذ قراراتٍ خاطئة بناء على الكثير من العوامل.
واحدة من تلك التحيزات تُعرف باسم “تحيّز التأكيد”، وهو ميلنا للبحث عن المعلومات والوصول للاستنتاجات التي تؤكد الأفكار الموجودة لدينا مُسبقًا، بدلًا من البحث عن المعلومات الجديدة غير المتحيزة التي يمكن لها أن توصلنا للحقيقة. ولأقرب الفكرة أكثر، قد تكون بلا شكّ قد دخلت حوارًا مع أحد المدخنين عن آثار التدخين ومخاطره وسمعت الجواب الآتي: “أبي يدخّن منذ سنين طويلة وهو بخير وبصحة جيدة، لذلك لا أعتقد أن التدخين مضرّ وله مخاطر”. ففي هذه الحالة تم الوصول للاستنتاج بأن التدخين ليس مضرًا من خلال استخدام أحد الأدلة المحدودة التي تتوافق مع عقل المدخّن لمواجهة الحقائق العلمية المؤكدة على نطاق واسع بأنّ التدخين مضرّ وقد يؤدي للوفاة.
والأمر لا يتوقف على التدخين وحسب، فالتحيزات المعرفية تؤثر تأثيرًا كبيرًا على الأفراد بشكلٍ يوميّ، بدءًا من قراراتهم الشخصية الفردية مرورًا بعلاقاتهم الثنائية أو الاجتماعية أو حتى النقاشات السياسية والقرارات المتعلقة بها التي تحدث يوميًا، فنحن نبحث دومًا عما يوافق معتقداتنا وأفكارنا المُسبقة، لا عن الحقيقة. الأمر ذاته يُفسر ميلنا لمرافقة الأشخاص الذين يوافقوننا بالآراء والأفكار أو حتى الذين يثبتون وجهات نظرنا بكل سهولة، وعدم استلطاف من يخالفنا وتجنب التعامل معهم.
يرى علماء النفس أن اللحظة التي يدرك فيها الفرد تحيزاته ويبدأ بملاحظتها هي الخطوة الاولى للتأمل والمراجعة التي قد تساعده في الاعتراف بحقيقة ما قد تفعله به هذه المنهجية التفكيرية غير العقلانية
والتحيزات المعرفية كثيرة إلى جانب “تحيز التأكيد”، فهناك “تحيز الجماعة” وهو ميلنا لموافقة كل ما له علاقة بالمجموعة التي ننتمي إليها بغض النظر عن مدى صحته، كنوع من مظاهر الميول القبليّة عند الإنسان. أما “التحيز السلبي” فهو ميل الفرد للاهتمام بالمعلومات والأخبار السلبية بشكلٍ انتقائيّ كامل، دون الاهتمام بغيرها من المعلومات.
ويرى علماء النفس أن اللحظة التي يدرك فيها الفرد تحيزاته ويبدأ بملاحظتها هي الخطوة الاولى للتأمل والمراجعة التي قد تساعده في الاعتراف بحقيقة ما قد تفعله به هذه المنهجية التفكيرية غير العقلانية.
دماغك يميل للعبة “اللوم”!
عندما يحدث شيء سيء أو حادثة معاكسة معنا، فمن الطبيعي أن نبحث عن السبب الكامن وراءها غير أنّ المشكلة هي قدرتنا السريعة على أن نضع اللوم على الشخص الخطأ، الحدث الخطأ، أو البيئة الخطأ من حولنا، وكثيرًا ما يؤدي الأمر إلى تشوه حقيقة الواقع أمامنا وهذا كله من أجل حماية الذات واحترامها.
تخيل للحظة أنك فشلتَ في أحد اختباراتك، من المسؤول عن فشلك؟ كثير من الأفراد يبدؤون لوم العوامل الخارجية كأن يكون المعلم لم يشرح المادة كما يجب، أو أن تكون الغرفة قد أدت لتشتيتهم وعدم تركيزهم، متناسين تمامًا أنهم هم أيضًا قد يكونون سبب الفشل، كعدم تحضيرهم جيدًا للاختبار أو عدم دراستهم للمادة جميعها.
في علم النفس الاجتماعي، يُستخدم مصطلح “العزو” أو Attribution لوصف الآلية التي يقوم بها الأفراد لتفسير الأحداث والأشياء التي يمرون بها سواء كانت شخصية بحتة أم متعلقة بالآخرين والمجتمع من حولهم، وإضفاء طابع السببية لها عن طريق التوصل إلى تبريرات وأسباب يظنّ الفرد بأنها منطقية أو حقيقية لكل ما يحدث له ومن حوله.
وبطبيعتنا كأفراد، نقوم بعملية “العزو” بهدف أن نفهم أو نتنبأ أو نتحكم بما يحدث لنا ومن حولنا، وأحيانًا أخرى لكي نبرر أفعالنا وسلوكياتنا في سبيل خلق توافقٍ أو توازنٍ نفسيّ واجتماعيّ في الأوساط التي نعيش فيها.
يعتقد الباحثون أننا نلجأ لآلية اللوم لأنها تعمل كوسيلة لحماية تقديرنا الذاتي وحراسة أنفسنا من الخوف من الفشل. فوفقًا لهذه الآلية، فالأشياء السيئة تحدث للآخرين لسببٍ ما فيهم، أما عندما تحدث لنا فهي نتيجة الظروف والبيئة المحيطة وعوامل خارجية أخرى لا علاقة لنا بها
تنقسم تلك الآلية إلى صنفين؛ إحداهما “داخلي” والآخر “خارجي”. أما “العزو الداخلي” فهي الآلية التي يتبعها الأفراد لتفسير الأحداث وتكوين الأحكام على الأفراد والأحداث تبعًا لعوامل داخلية ذاتيّة بعيدًا عن أي مؤثّر خارجيّ. كأن تعزو سلوك الشخص لأفكاره ومعتقداته مهملًا أي عوامل خارجية مثل البيئة أو المجتمع المحيط به. وعلى الجانب الآخر هناك “العزو الخارجي”، أي عملية تفسير الأحداث والسلوكيات وفقًا للعوامل الخارجية للفرد والقوى الظرفيّة كالبيئة والمجتمع، دون الاهتمام بالعوامل الداخلية من أفكار ومعتقدات وصفاتٍ سلوكية.
إذن لماذا نشترك في لعبة اللوم هذه؟ يعتقد الباحثون أننا نلجأ لآلية اللوم لأنها تعمل كوسيلة لحماية تقديرنا الذاتي وحراسة أنفسنا من الخوف من الفشل. فوفقًا لهذه الآلية، فالأشياء السيئة تحدث للآخرين لسببٍ ما فيهم، أما عندما تحدث لنا فهي نتيجة الظروف والبيئة المحيطة وعوامل خارجية أخرى لا علاقة لنا بها، أما عندما ننجح، فالأمر يعود لمهاراتنا وقدراتنا وجهودنا وخصائصنا الداخلية.
دماغك يفوّت التغييرات الرئيسية التي تحدث أمامك
هناك بكل تأكيد قصور لدى أدمغتنا تمنعها من أن تستحضر كافة التفاصيل التي تحدث من حولنا، ربما لأننا في اللحظة الواحدة نكون مشغولين بالتركيز على شيءٍ واحد فقط أو تفصيل محدد، ما يجعل دماغنا عاجزًا عن التعامل مع الكم الهائل من المعلومات الأخرى المحيطة. وتلعب توقعاتنا دورًا هامًا بالأمر أيضًا، فنحن نعجز عن توقع التغيّرات والتفاصيل الكثيرة التي يمكن لها أن تحدث من حولنا، لذلك تبقى أدمغتنا غير منسجمة أو متناغمة مع التغيرات الكثيرة.
ذاكرة الإنسان ليست بالشيء الخارق كما تعتقد
ففي حين قد نعتقد أننا نملك ذاكرة قوية قادرة على تذكر معظم التفاصيل، إلا أن ذاكرتنا أكثر هشاشة وأكثر عرضةً للتأثر بعوامل كثيرة أخرى ما يجعلها غير دقيقة بالشكل الذي نتوقعه.
قد تكون “الذاكرة الكاذبة” أو الزائفة، وهي تذكر مُلفّق أو مشوه لحدث ما، يعتقد الأفراد أنه حصل بالفعل على عكس الحقيقة. ومن الممكن للذكريات أن تكون كاذبة بطرق بسيطة نسبيًا، كأنْ تعتقد أنك شاهدت مفاتيحكَ آخر مرة في المطبخ في حين أنها كانت في غرفة المعيشة، وقد تكون بطرق أكبر ولها آثار أشد عُمقًا على الذات والآخرين، ككثير من الحالات التي يعتقد فيها أحدهم أنه تعرض للاعتداء الجنسي أو الخطف بينما كان طفلًا.
وفي دراسة، قام عدد من علماء النفس بجعل المشاركين يشاهدون فيديو لأشخاص يؤدون مهماتٍ معينة، وبعد مدة وُجدَ أنّ المشاركين يعتقدون أنهم قاموا بأنفسهم بتلك المهمات التي شاهدوها بالفيديو.
التزاحم الضخم والتنافس الشديد للمعلومات في عقولنا قد يخلقان نوعًا من المنافسة بين المعلومات القديمة والجديدة، ما قد يؤدي إلى نسيان إحداها
والزمن يشكّل عاملًا رئيسًا في النسيان ومع مروره يصبح الوصول للمعلومات والذكريات أكثر صعوبة كما ذكرت نظرية الاضمحلال في النسيان، عوضًا عن أنّ التزاحم الضخم والتنافس الشديد للمعلومات في عقولنا قد يخلقان نوعًا من المنافسة بين المعلومات القديمة والجديدة، ما قد يؤدي إلى نسيان إحداها كما توصّلت نظرية التداخل في النسيان.
وفي حين أنّ النسيان -غير المرَضيّ- يُعدّ جزءًا عاديًّا من الحياة، إلا أن هناك العديد من الأمور التي يستطيع الإنسان فعلها لتحسين ذاكرته، مثل التركيز وإعادة المعلومة وربطها بالمعلومات السابقة أو بمواقف حياتية، والابتعاد عن المشتتات التي قد تبعثر التفكير، بالإضافة إلى الحصول على قسطٍ وفيرٍ من النوم لإراحة مركز الذاكرة في الدماغ.