كيف تساهم البيانات في خلق اقتصاد جديد؟

20170506_fbd001_facebook

ترجمة وتحرير: نون بوست

تعد مصفاة النفط بمثابة كاتدرائية صناعية، مكانا يعكس القوة فضلا عن أنه يخفي خبايا مظلمة. ويتجسد كل ذلك من خلال أبراجها المزخرفة والمتصدعة على الطراز القوطي، المكسوة بواجهات من البلور الملون. وفي الأثناء، تنبعث من هذه المباني رائحة المواد الهيدروكربونية والبخور. في المقابل، يبدو مظهر مراكز البيانات أقل وضوحا، حيث تنفرد بمبانيها الرمادية التي بلا نوافذ، فضلا عن أنها تفتقر لمظاهر الأبهة أو زخرفة، وتمتد إلى ما لا نهاية. ومع ذلك يوجد الكثير من القواسم المشتركة بين مراكز البيانات ومصافي النفط، فكلاهما مليء بالأنابيب.

في مصافي النفط، تقوم هذه الأنابيب بتجميع البنزين والبروبان، والمكونات الأخرى من النفط الخام، التي تم الفصل بينها باستخدام الحرارة. أما في مراكز البيانات الكبرى، تتكفل هذه الأنابيب بنقل الهواء لتبريد عشرات الآلاف من أجهزة الكمبيوتر التي تستخلص نماذج وتنبؤات وغيرها من الأفكار القيمة، من المعلومات الرقمية الخام.

علاوة على ذلك، يؤدي كلاهما الدور ذاته في إنتاج المواد الأولية الحاسمة على مستوى الاقتصاد العالمي. في الواقع، من دون هذه المواد الخام لن يكون هناك الكثير من مظاهر الحياة الحديثة التي نعيشها اليوم. وتقف عملية تقطير البيانات في مراكز البيانات، وراء جميع أنواع الخدمات التي تُقدم على الإنترنت، مما يجعل العالم أكثر فأكثر ترابطا. عموما، تحتل البيانات مكانة مهمة في هذا القرن شبيهة بتلك التي كان يحظى بها النفط في القرن الماضي، حيث أصبحت البيانات محركًا للنمو والتغيير. وقد أدى تدفق البيانات إلى إنشاء بنية تحتية وشركات وسياسات جديدة، فضلا عن بروز نمط من الاحتكار الجديد، الأمر الذي أدى بدوره إلى ظهور مجالات اقتصادية حديثة.

خلافا للموارد الأخرى، يتم استخراج البيانات، وتقييمها وشراؤها، وبيعها بطرق مختلفة. فضلا عن ذلك، تعمل البيانات على تغيير قواعد الأسواق كما تتطلب دائما مقاربات جديدة من قبل الجهات التنظيمية. مستقبلا، سوف تندلع الكثير من المعارك حول من يمتلك ويستفيد أكثر من البيانات. وفي هذا السياق، تتوقع شركة أبحاث السوق “أي دي سي” أن “الكون الرقمي” (وهي البيانات التي يتم إنشاؤها ونسخها كل سنة) سوف يصل إلى حوالي 180 زيتابايت (180 تليها 21 صفرا) بحلول سنة 2025.

تغيرت نوعية البيانات، حيث لم تعد تقتصر على مخزونات من المعلومات الرقمية على غرار قواعد البيانات للأسماء وغيرها من البيانات الشخصية المحددة بدقة، مثل السن، والجنس، والدخل. فقد أصبح الاقتصاد الجديد يتمحور حول تحليل التدفقات السريعة الآنية من “البيانات غير المهيكلة”

وتجدر الإشارة إلى أنه وفي حال أردنا ضخ كل هذه البيانات من خلال “برودباند الإنترنت عريض النطاق” سوف يستغرق الأمر أكثر من 450 مليون سنة. وتستخدم الشركة العملاقة للتجارة الإلكترونية، أمازون، التي تمتلك نظام حوسبة سحابية متطور، لتسريع عملية نقل البيانات إلى مراكز البيانات الخاصة بها، برامج شحن تحتوي على أجهزة تخزين قادرة على تخزين 100 بيتابايت (15 صفرا).

وحتى تتمكن من استيعاب ذلك الكم الهائل من البيانات، تقوم الشركات ببناء مصافي بيانات. وفي سنة 2016، حققت كلا من شركة “أمازون” “والفابت” “ومايكروسوفت” حوالي 32 مليار دولار على مستوى النفقات الرأسمالية والإيجارات الرأسمالية. وقد شهدت هذه النفقات زيادة قدرها 22 بالمائة عن العام السابق، وذلك وفقا لما جاء في تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية.

من جانب آخر، تغيرت نوعية البيانات، حيث لم تعد تقتصر على مخزونات من المعلومات الرقمية على غرار قواعد البيانات للأسماء وغيرها من البيانات الشخصية المحددة بدقة، مثل السن، والجنس، والدخل. فقد أصبح الاقتصاد الجديد يتمحور حول تحليل التدفقات السريعة الآنية من “البيانات غير المهيكلة”، من قبيل الصور وأشرطة الفيديو التي تم إنشاؤها من قبل مستخدمي الشبكات الاجتماعية، ورزمة المعلومات التي يقوم بإنتاجها الركاب وهم في طريقهم إلى العمل، فضلا عن الكم الهائل من البيانات المتأتية من المئات من أجهزة الاستشعار على متن الطائرات.

في الحقيقة، أصبحت كل الأجهزة انطلاقا من قطارات المترو وتوربينات الرياح، وصولا إلى مقاعد المرحاض بمثابة مصادر للبيانات. ومن المرجح أن العالم سيصبح بأسره متصلا من خلال أجهزة الاستشعار، حيث سيترك الأشخاص خلفهم آثارا رقمية أينما ذهبوا، حتى لو لم يكونوا على اتصال بالإنترنت. وفي هذا الصدد، أفاد الخبير الاستراتيجي في مجال البيانات في شركة “أوراكل”، وصانع البرامج، بول سوندريجر أن “البيانات ستكون بمثابة النتيجة المطلقة التي تتولد إثر كل فعل أو حركة نقوم بها”.

 هذا ما تعرفه

من المثير للاهتمام أن قيمة البيانات ترتفع يوما عن يوم، حيث أن كلا من شركة فيسبوك وغوغل استخدمت في البداية البيانات التي جمعتها من المستخدمين لتوظيف الإعلانات بشكل أفضل. ولكن، في السنوات الأخيرة اكتشفوا أن البيانات يمكن أن تتحول إلى برمجيات تعتمد على خاصية الذكاء الاصطناعي أو خدمات “معرفية”، التي من شأنها أن تولّد مصادر جديدة للدخل.

تشمل هذه الخدمات؛ الترجمة، والتعرّف البصري، وتقييم شخصية إنسان ما عن طريق فرز كتاباته. من جهة أخرى، ويمكن بيع كل هذه البيانات للشركات الأخرى لتوظيفها في منتجاتها الخاصة. وعلى الرغم من أنه قد أصبح بالإمكان استخراج مؤشرات بيانات الاقتصاد من أي مكان، إلا أن معالمها أصبحت أكثر وضوحا في الوقت الراهن. عموما، توجد العديد من التخصصات في عالم البيانات، فضلا عن عدد متزايد من مجالات البحث، ولذلك تحاول العديد من الشركات لأن تغوص أكثر في هذا المجال وتوظيفه لخدمة مصالحها.

تستغل كل الشركات تقريبا محركًا اقتصاديًا قويا يدعى “تأثير شبكة البيانات” الذي يعتمد على البيانات لاستمالة المزيد من المستخدمين الذين ينتجون بدورهم المزيد من البيانات. وتساهم هذه الإستراتيجية في تحسين الخدمات التي من شأنها أن تستقطب أعدادا كبيرة من المستخدمين

وفي شأن ذي صلة، تستغل كل الشركات تقريبا محركًا اقتصاديًا قويا يدعى “تأثير شبكة البيانات” الذي يعتمد على البيانات لاستمالة المزيد من المستخدمين الذين ينتجون بدورهم المزيد من البيانات. وتساهم هذه الإستراتيجية في تحسين الخدمات التي من شأنها أن تستقطب أعدادا كبيرة من المستخدمين. فعلى سبيل المثال، كلما قام مستخدمي فيسبوك بالتفاعل مع أي منشور أو مشاركته، كلما سجّلت الشركة المزيد بيانات التي ستعمد إلى بيعها فيما بعد لشركات الإعلانات. وفي الأثناء، كلما ارتفع عدد الأشخاص الذين يستخدمون محرك غوغل للبحث عن معلومات أو معطيات ما، كلما كانت نتائج البحث أفضل.

في واقع الأمر، تسعى هذه الشركات دائما للبحث عن مصادر جديدة للمعلومات. من جهته، يستغل فيسبوك مستخدميه حتى يقوم بتطوير خوارزمياته، وذلك في كل مرة يقوم فيها أي شخص بتحميل صورة والإشارة إلى بعض الأصدقاء. وهذا ما يفسر لماذا يستطيع فيسبوك التعرف على مئات الملايين من الأشخاص، بدقة تعادل 98 بالمائة. من ناحية أخرى، يؤدي المساعد الرقمي “غوغل أسيستنت” مهامه بشكل أفضل، مثل الإجابة على الأسئلة المطروحة عليه كلما تمّ استخدامه أكثر.

من جانبها، تُعرف شركة النقل “أوبر” بتسعيرة زهيدة مقابل توصيل مستخدميها. وفي الأثناء، تقدر قيمة الشركة بحوالي 68 مليار دولار، ويعزى ذلك إلى أنها تمتلك أكبر مخزون للبيانات حول السائقين أي مصدر العرض والركاب أي مصدر الطلب، مقابل خدمات النقل التي توفرها. والأمر سيان بالنسبة لشركة “تيسلا موتورز”، التي تصنع السيارات الكهربائية.

والجدير بالذكر أن شركة “تيسلا موتورز” قد تمكنت بفضل آخر نماذجها الرائعة من جمع كم هائل من البيانات، الأمر الذي  سمح لها بتحسين خوارزميات السيارات ذاتية القيادة، ومن ثم تحديث برمجياتها وفقا لذلك. وبحلول نهاية العام الماضي، جمعت الشركة بيانات تتعلق بحوالي 1.3 مليار ميل من السياقة، أكثر قيمة من البيانات التي تضمها  سيارة غوغل ذاتية القيادة من جمعها.

تحاول الشركات غير التكنولوجية الاستفادة من البيانات الرقمية؛ فعلى سبيل المثال، قامت شركة جنرال إلكتريك بتطوير “نظام تشغيل للإنترنت الصناعي”، يدعى “بريديكس”، لمساعدة العملاء على التحكم بآلاتهم. وتعمل سحابة “بريديكس” كنظام لجمع البيانات المتأتية من الأجهزة المتصلة به، ثم يقوم هذا النظام بصهرها مع غيرها من البيانات

على العموم، تعتبر الشركات الناشئة للبيانات محرك الاقتصاد الجديد، فهي تساعد على التنقيب على النفط باستخدام آليات رقمية واستخراجه وتحويله إلى مصدر للخدمات الذكية، مثل تحليل الأشعة السينية والتصوير المقطعي المحوسب لتحديد أين يجب رش مبيدات الأعشاب. فضلا عن ذلك، وضعت شركة نيكسار، وهي شركة ناشئة إسرائيلية، طريقة ذكية لتحويل السائقين إلى مصادر للبيانات من خلال إطلاق تطبيق يستطيع تحويل الهواتف الذكية إلى لوحات قيادة في السيارات أو ما يطلق عليه أيضا اسم “داشكامز” وذلك بهدف تسجيل مشاهد ومقتطفات أثناء قيادة السيارة.

فعلى سبيل المثال، في حال قام العديد من السائقين بالضغط على الفرامل بشكل مفاجئ في المكان نفسه على الطريق، فهذا يشير إلى وجود حفرة أو عقبة أخرى. ومقابل استخدام تطبيق نيكسار الجديد، يحظى السائقون بخدمات “داشكامز” مجانا، مثل الحصول على تقرير مفصل إذا تعرضوا لحادث. ويتمثل هدف شركة نيكسار الأساسي في تقديم جميع أنواع الخدمات التي من شأنها أن تساعد السائقين على تجنب الحوادث، التي تدفع شركات التأمين الخاصة تعويضات عنها؛ وذلك عن طريق تحذيرهم في حال وجود أي عوائق أو حفر.

من جانب آخر، تحاول الشركات غير التكنولوجية الاستفادة من البيانات الرقمية؛ فعلى سبيل المثال، قامت شركة جنرال إلكتريك بتطوير “نظام تشغيل للإنترنت الصناعي”، يدعى “بريديكس”، لمساعدة العملاء على التحكم بآلاتهم. وتعمل سحابة “بريديكس” كنظام لجمع البيانات المتأتية من الأجهزة المتصلة به، ثم يقوم هذا النظام بصهرها مع غيرها من البيانات. وفي مرحلة موالية، يعمل هذا النظام على تدريب الخوارزميات التي بدورها تساعد في تحسين عمل محطات توليد الطاقة الكهربائية، ومتى يجب القيام بإصلاح محرك طائرة قبل أن يتعطل.

وكما هو الحال في أسواق النفط، لا تزال شركات البيانات الأكبر حجما تستحوذ على الشركات الأصغر حجما (انظر الجدول). ومن بين الجوانب الأخرى التي تتعلق باقتصاد البيانات والتي تعتبر غريبة بالنسبة لتجار الذهب الأسود، أن النفط يُعتبر من السلع الأكثر تداولا في العالم من حيث القيمة. في المقابل، لا يتم تداول البيانات إلا نادرا، وحتى إن وقع ذلك فلا يكون عادة من أجل المال. في الحقيقة، يتناقض هذا المعطى مع ما تطرق إليه الكثيرون في المنتدى الاقتصادي العالمي، دافوس، الذي نُظم سنة 2011، حيث اعتبروا أن البيانات بمثابة “فئة أصول جديدة”. وسيقوم اقتصاد البيانات، وفقا لما يقتضيه هذا المصطلح، على أسواق مزدهرة للبتات والبايتات.

احتفظ بها لنفسك

يعد غياب الأسواق نتيجة لنفس العوامل التي أدت إلى ظهور الشركات. فقد أصبحت جميع أنواع “تكاليف التعاملات” في الأسواق على غرار  البحث عن المعلومات، والتفاوض بشأن الصفقات، وتنفيذ العقود، أكثر بساطة وأكثر كفاءة لمجرد القيام بها في صلب الشركات. ففي الحقيقة، يعد استخراج واستخدام البيانات داخل الشركة مربحا أكثر مقارنة  بشرائها وبيعها في السوق المفتوحة.

وعلى الرغم من وفرة تدفق البيانات إلا أنها ليست سلعة للبيع، حيث أن كل تدفق من البيانات يختلف عن آخر من حيث التوقيت. ومن منظور اقتصادي، يؤدي هذا النقص في “البضائع المماثلة” إلى خلق بعض المعوقات بالنسبة للمشترين الذين يرومون العثور على مجموعة محددة من البيانات. وبالتالي، سيصبح من الصعب عليهم وضع سعر محدد  لكل تدفق للبيانات، فضلا عن إجراء مقارنة لها مع غيرها.

مؤخرا، شرع الباحثون في تطوير منهجيات للتسعير. وفي الأثناء، أطلقت شركة غارتنر للأبحاث اسم “إنفونوميكس” على آلية تسعير البيانات. وقد أجرى أحد رواد هذه المؤسسة، جيم شورت، من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، دراسة حول كيفية تحديد قيمة البيانات وسعرها. ومن بين الشركات التي تناولها هذا البحث، شركة “سيزارز انترتينمنت”، التي تعتبر إحدى شركات القمار العالمية، والتي أفلست سنة 2015.

خلال سنة 2015، قامت شركة “آي بي إم ” بإنفاق 2 مليار دولار للحصول على شركة بيانات الطقس “ويزر كومبني”، لتتمكن من وضع يدها على كم هائل من بيانات الطقس، فضلا عن البنية التحتية الملائمة لجمعها

والجدير بالذكر أن من بين الأصول الأكثر قيمة في شركة “سيزارز انترتينمنت”، بيانات 45 مليون عميل الذين انضموا إلى برنامج العملاء الأوفياء للشركة، على مدى السنوات 17 الماضية. وقد قدرت قيمتها 1 مليار دولار أمريكي. عموما، تعتبر صعوبة التسعير أحد الأسباب المهمة التي قد تدفع شركة لشراء أخرى، حتى وإن كان جل اهتمامها منصبّا على البيانات في صلب هذه الشركة.

خلال سنة 2015، قامت شركة “آي بي إم ” بإنفاق 2 مليار دولار للحصول على شركة بيانات الطقس “ويزر كومبني”، لتتمكن من وضع يدها على كم هائل من بيانات الطقس، فضلا عن البنية التحتية الملائمة لجمعها. من جانب آخر، قامت فروع من هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة وشركة “ديب مايند”، التابعة لشركة “الفابت”، بالاتفاق من أجل تبادل بيانات مرضى مجهولي الهوية من أجل استخراج معلومات طبية من شأنها أن تدعم مجال البحث العلمي.

على العموم، تشير حقيقة أن المعلومات الرقمية “غير تنافسية”، إلى أنه يمكن نسخها واستخدامها من قبل أكثر من شخص واحد (أو خوارزمية واحدة) في وقت واحد، مما يخلق المزيد من التعقيدات. علاوة على ذلك، يدل ذلك على أنه يمكن بسهولة استخدام البيانات لأغراض أخرى خلافا للوظيفة المتفق عليها. وفي الأثناء، قد يتعمق الشعور بالارتباك أثناء التعامل مع المعلومات الرقمية،  خاصة فيما يتعلق بملكية البيانات. فبالنسبة للبيانات في صلب السيارة ذاتية القيادة، يمكن أن تكون بحوزة صانع السيارات، أو مٌورد أجهزة الاستشعار، أو الراكب، أو السيارة في حد ذاتها.

وفي هذا الإطار، أورد ألكسندر ليندن، أحد العاملين في شركة غارتنر، أن “عملية تداول البيانات مملة”. ونتيجة لذلك، غالبا ما تكون صفقات البيانات ثنائية ومخصصة. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن تجارة البيانات ليست سهلة، حيث تحتوي عقود البيانات على عشرات الصفحات من القوانين التي تحدد طرق استخدام البيانات وكيفية حمايتها. ومؤخرا، صرح أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في أحد البنوك الضخمة، أثناء حديثه مع ليندن، أن لديه أشياء أفضل يقوم بها عوضا عن التوقيع على مثل تلك الوثائق، حتى ولو كانت البيانات التي سوف يحصل عليها ذات قيمة كبيرة.

في الآونة الأخيرة، اقترح المنتدى الاقتصادي العالمي مفهوم ” داتا بنك أكونت”. ويرتكز هذا المقترح على فكرة “إخفاء البيانات الشخصية في حساب مصرفي يتم من خلاله التحكم في هذه البيانات وإدارتها وتبادلها ، فضلا عن أن مكانها سيكون معروفا بالنسبة للجميع”

عادة، يكون الأمر أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بتبادل بيانات شخصية. وفي هذا الصدد، أفاد كينيث لودون من جامعة نيويورك في مقالة مؤثرة تحت عنوان “الأسواق والخصوصية”، سنة 1996، أن “سوق المعلومات الوطنية المُنظمة يمكن أن يسمح بشراء المعلومات الشخصية وبيعها، ومنح البائع الحق في تحديد حجم المعلومات التي يمكن الكشف عنها”. وفي الآونة الأخيرة، اقترح المنتدى الاقتصادي العالمي مفهوم ” داتا بنك أكونت”. ويرتكز هذا المقترح على فكرة “إخفاء البيانات الشخصية في حساب مصرفي يتم من خلاله التحكم في هذه البيانات وإدارتها وتبادلها ، فضلا عن أن مكانها سيكون معروفا بالنسبة للجميع”.

وعلى الرغم من أن الفكرة كانت ممتازة، إلا أنها لم تدخل حيز التنفيذ، نظرا لأن شركات البيانات تواجه مشكلة كبيرة تتمثل في أن الأشخاص يقدمون بياناتهم الشخصية بكل سهولة “ومجانا”. وفي هذا الإطار، قال الخبير الاقتصادي، غلين ويل، الذي يعمل في شركة أبحاث مايكروسوفت، إن “شروط التبادل التجاري أصبحت تخضع لمعايير تُوضع عن طريق الصدفة”.

في أعقاب أزمة “فقاعة” “دوت كوم” في أوائل الألفية الثانية، كانت الشركات في حاجة ماسّة إلى وسيلة لكسب المال. وكان تجميع البيانات لصالح الإعلانات المستهدفة هو الحل الأنسب والأسرع. مؤخرا، أدركت الشركات أنه يمكن استخدام البيانات من أجل تطوير خدمات الذكاء الاصطناعي.

عبدة الخوارزمية

تعد تجارة البيانات مقابل الخدمات المجانية بمثابة تبادل غير عادل، خاصة وأن ذلك يعتمد إلى حد كبير على مصدر قيمة هذه الخدمات. ولكن لسائل أن يسأل، ما الذي يدمر هذه الخدمات ويسحقها البيانات أم الخوارزميات؟ وفي هذا الصدد، أوضح كبير الاقتصاديين في شركة غوغل، هال فاريان، أن البيانات تُظهر “عائدات منخفضة على نطاق واسع”، ما يعني أن قيمة كل حصة إضافية من البيانات تكون بطريقة ما أقل من قيمة الحصة التي سبقتها. وفي مرحلة ما، لا يحقق جمع المزيد من المعلومات أي إضافة تُذكر.

من جهته، أوضح فاريان أن الأهم مما سبق ذكره هو جودة الخوارزميات التي تُعالج البيانات، فضلا عن المواهب التي توظّفها الشركة من أجل تطوير هذه الخوارزميات. فعلى سبيل المثال، لا يكمن نجاح شركة غوغل “في المكونات، بل في الوصفات” التي تعتمدها في معالجة البيانات. وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يكون صحيحا بالعودة إلى الفترة الأولى من ثورة الشبكة العنكبوتية، إلا أنه يبدو خاطئا في عالم الذكاء الاصطناعي الحديث. في الواقع، تتميز الخوارزميات بتنامي خاصية التعلم الذاتي لديها، حيث أن تزايد كمية وحداثة البيانات التي تعالجها، تُفضي إلى نتائج أفضل.

في حال حافظت الشركة على سياسة تجميع البيانات، فقد تُصبح قادرة، في مرحلة ما، على تقديم المزيد من الخدمات على غرار خرائط للطرقات

في الأثناء، قد ترتفع العائدات الثانوية التي توفرها البيانات بالتزامن مع تضاعف عدد التطبيقات التي تعتمد عليها، وفقا لما أفاد به غلين ويل. فعلى سبيل المثال، وبعد أن قامت إحدى الشركات التي توفر خدمة “رايد هيلينغ” بجمع كم كافي من البيانات لتقديم خدمة واحدة، المتمثلة في توفير معلومات حول حركة المرور بشكل فوري، لم تعد في حاجة للحصول على المزيد من البيانات، لأن ذلك لن يكون له أي قيمة. في المقابل، وفي حال حافظت الشركة على سياسة تجميع البيانات، فقد تُصبح قادرة، في مرحلة ما، على تقديم المزيد من الخدمات على غرار خرائط للطرقات.

من ناحية أخرى، قد تتسبب نقاشات مماثلة حول نجاعة البيانات من عدمها، علاوة على محدودية المبادلات في مجال البيانات، في بروز العديد من الإشكاليات. والجدير بالذكر، أن ظهور أسواق النفط التي تعمل وفقا لنسق جيد قد تطلب عقودا من الزمن. ومن المفارقات، أن شركة “ستاندرد أويل”، التي كانت تحتكر سوق النفط الأمريكي، والتي أنشأها، جون د. روكفلر، نهاية القرن التاسع عشر، قد سرّعت من مجرى الأحداث فيما يتعلق بتبادل البيانات. في الواقع، ساهمت “ستاندرد أويل” في خلق التكنولوجيا، التي ارتبط اسم الشركة بالبرنامج الذي تعتمده، فضلا عن المعايير التي جعلت المتاجرة بالمورد الجديد أمرا ممكنا.

وتجدر الإشارة، إلى أن الأسواق المُخصصة للبيانات الشخصية ذات القيمة العالية أو التي يسهل وضعها في إطار معايير محددة، قد وُجدت منذ زمن طويل، حيث يقوم ما يُعرف “بوسطاء البيانات” بتبادل تجاري سريع لأنواع معينة من البيانات. أما في مجالات أخرى، فقد أخذ هذا النوع من الأسواق، وما شابهها، في التطوّر تدريجيا، على غرار شركة “أوراكل” الأمريكية، التي تهيمن على سوق قواعد البيانات الخاصة بالشركات، التي تطورها فيما بعد لتتحول إلى أصول من البيانات قابلة للتبادل.

تأمل عدة شركات حديثة أخرى في مشاركة المستخدمين حصصا أكبر مما تدّره معلوماتهم. فعلى سبيل المثال، تمكّن شركة “سيتيزنمي” مستخدميها من تجميع كافة المعلومات الخاصة بهم على شبكة الإنترنت في مكان واحد وكسب مبالغ ضئيلة في حال تمت مشاركتها مع إحدى العلامات التجارية

في الواقع، تُريد أوراكل من عملائها أن يقوموا بتداول البيانات، ودمجها بالضوابط التي تقدمها الشركة بهدف استخراج المزيد من المعلومات والمعطيات بشأن أصحابها. ويتم هذا الأمر في إطار بيئة آمنة من الحوسبة السحابية التابعة للشركة، حيث بالإمكان التأكد من أن المعلومات لا يُساء استخدامها. أما الشركة الناشئة، “كونيتيف لوجيك”، فقد قدّمت آلية مماثلا، إلا أنها فضّلت إبقاء البيانات في أنظمة منفصلة تُعنى بتكنولوجيا المعلومات.    

وفي شأن ذي صلة، تأمل عدة شركات حديثة أخرى في مشاركة المستخدمين حصصا أكبر مما تدّره معلوماتهم. فعلى سبيل المثال، تمكّن شركة “سيتيزنمي” مستخدميها من تجميع كافة المعلومات الخاصة بهم على شبكة الإنترنت في مكان واحد وكسب مبالغ ضئيلة في حال تمت مشاركتها مع إحدى العلامات التجارية. أما “داتا كوب”، وهي شركة ناشئة أخرى، فتهتم ببيع المعلومات والمعطيات والتفاصيل الخاصة المُستخلصة من البيانات الشخصية، ومن ثم تقوم بتمرير جزء من العائدات إلى مستخدميها.

خلافا لذلك، لم تُسجل أي من الجهود الآنف ذكرها نجاحا فعليا، علما وأن كل الجهات التي تركّز على البيانات الشخصية بصفة خاصة من غير الممكن أن تحقق أيا من أهدافها. وإلى غاية هذه اللحظة، لا يزال الأشخاص والشركات العملاقة على شبكة الإنترنت حبيسي موقف حرج. فعلاوة على جهلهم بالقيمة الفعلية لبياناتهم، يفضّل العديد من الأفراد عدم تكبد مشقة الإشراف عليها، وفقا لما أشار إليه أليساندرو أكيستي من جامعة كارنيغي ميلون.

في المقابل، يعاني على هؤلاء الأشخاص من ما يُعرف “بالعجز المكتسب”. فعلى الرغم من أن الشروط والظروف المرتبطة بالخدمات غالبا ما تكون مُبهمة، إلا أن المستخدمين لا يملكون أي خيار سوى القبول بها (فعلى سبيل المثال تتوقف تطبيقات الهاتف الذكي على الفور في حال لم ينقر الشخص على كلمة “أُوافق”).

من جانبها، أصبحت الشركات على شبكة الإنترنت تعتمد بشكل مفرط على البيانات المجانية. وبالتالي، لن يبادروا بإجراء تغيير جذري فيما يتعلق بطريقة تعاطيهم مع المستخدمين. في الحقيقة، ستساهم خاصية الدفع مقابل البيانات وإنشاء أنظمة مكلفة تُعنى بتتبّع المساهمات على شبكة الإنترنت، في تدني قيمة تقطير البيانات والحصول عليها.

في ظل انعدام تداول تجاري فيما يتعلق بالبيانات، قد تصبح هذه البيانات غير ناجعة. في هذا الصدد، وفي حال لم يتم تسعير المعلومة الرقمية، فسينجر عن ذلك تجاهل البيانات القيمة والعدول عن توليدها

عموما، لا تمثل البيانات المورد المهم الوحيد الذي لا يتم تداوله على نطاق واسع، فكل من الطيف الراديوي وحقوق المياه موارد لا تخضع لمبادلات تجارية. من جهته، أوضح السيد غلين ويل، أنه وفي ظل انعدام تداول تجاري فيما يتعلق بالبيانات، قد تصبح هذه البيانات غير ناجعة. في هذا الصدد، وفي حال لم يتم تسعير المعلومة الرقمية، فسينجر عن ذلك تجاهل البيانات القيمة والعدول عن توليدها.

علاوة على ذلك، وفي حال ظلت البيانات عالقة في “صوامعها”، فمن غير الممكن أن يتم استخراج كم هائل من المعطيات القيمة. في الأثناء، يغيب عن مصافي البيانات الكبرى الاحتكار في مجال الابتكار، فيما قد تتمتع شركات أخرى بموقع أفضل لإيجاد طرق تسمح لها باستغلال المعلومات. من جهة أخرى، سيصعب حل المشاكل السياسية المعقدة في ظل ندرة أسواق البيانات، أبرزها؛ مكافحة الاحتكار، والخصوصية، والمساواة الاجتماعية.

وفي هذا الإطار، لا بد من التعاطي مع مسألة مكافحة الاحتكار بشكل عاجل، مثلما كان الحال بالنسبة للنفط. وبالعودة إلى سنة 1911، أيّدت المحكمة العليا للولايات المتحدة قرار المحكمة الابتدائية القاضي بفكّ شركة “ستاندرد أويل”، التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على 90 بالمائة من تكرير النفط في البلاد. أما في الوقت الراهن، فقد بدأت الأصوات ترتفع داعية إلى إجراء تفكيك شبيه بالذي وقع في سنة 1911، لشركات مثل “غوغل”. وقد نادى الكاتب الأمريكي، جوناثان تابلين، من جامعة كاليفورنيا الجنوبية، من خلال كتابه الجديد “تحرك بسرعة واكسر الأشياء” إلى القيام بمثل هذه الخطوة.

في المقابل، لا يمكننا الجزم بأن مثل هذه الخطوة الجذرية في التعامل مع مسألة الاحتكار من شأنها أن تحل المشكلة حقا، ذلك أن تفكيك شركة ما قد يكون مزعجا للغاية، كما قد يتسبب في إبطاء نسق عملية الابتكار. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تُحكم شركة منبثقة عن غوغل أو فيسبوك هيمنتها مجددا على السوق وبسرعة بالغة أيضا. 

هذه “المنصات المتفوقة” مقارنة بغيرها تتمتع بسلطة هائلة، وفقا لما أفاد به، آرييل إزراتشي من جامعة أكسفورد، الذي نشر مؤخرا كتابا تحت عنوان “المنافسة الافتراضية” بالتعاون مع، موريس ستوك، من جامعة تينيسي

في غضون ذلك، تواترت العديد من الدعوات المطالبة باتخاذ إجراءات جدية بشأن الشركات العملاقة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه “المنصات المتفوقة” مقارنة بغيرها تتمتع بسلطة هائلة، وفقا لما أفاد به، آرييل إزراتشي من جامعة أكسفورد، الذي نشر مؤخرا كتابا تحت عنوان “المنافسة الافتراضية” بالتعاون مع، موريس ستوك، من جامعة تينيسي.

بيّن إزراتشي أن أي شركات عملاقة تضع يدها على كميات كبيرة من المعلومات الجديدة مقارنة بغيرها، بإمكانها اكتشاف التهديدات التي تُمثّلها الشركات المنافسة لها بشكل أسرع. فضلا عن ذلك، تستطيع الشركات العملاقة بفضل أموالهم الطائلة شراء الشركات الناشئة التي قد تُصبح يوما ما إحدى منافساتها. علاوة على ذلك، بإمكان هذه الشركات التلاعب بالأسواق التي تستضيفها، عن طريق تفاعل خوارزمياتها السريع، لتحرم بذلك منافسيها فرصة كسب الزبائن عبر خفض الأسعار. وفي هذا الصدد، أفاد إزراتشي أن “اليد الخفية في هذا المجال قد أصبحت رقمية”.

التزام الحذر من “اليد الرقمية”    

من جهتها، تحتاج هيئات مكافحة الاحتكار إلى شحذ آلياتها ووسائلها في مواجهة العصر الرقمي. وفي هذا السياق، لم تحاول المفوضية الأوروبية منع عملية دمج شركتي “فيسبوك” “وواتساب”، حيث أشارت إلى أنه وعلى الرغم من أن هاتين الشركتين تُعدّان الأكبر في مجال خدمات الرسائل النصية، إلا أن هناك العديد من الشركات الأخرى يقدمون الخدمة ذاتها. فضلا عن ذلك، اعتبرت المفوضية أن هذه الصفقة لن تُمثّل إضافة في خزينة البيانات التي تملكها شركة “فيسبوك”، ذلك أن شركة “واتساب” لم تقم بجمع العديد من المعلومات بشأن مستخدميها.

في الواقع، كان الأمر بالنسبة لفيسبوك بمثابة شراء شركة كانت تخشى أن تتحول إلى منافس خطير لها. وقد مكنتها هذه الخطوة من بناء “رسم بياني اجتماعي” بديل، الذي يتمثل في شبكة الاتصالات بين الأصدقاء، والذي يُعتبر أحد أصول فيسبوك الأكثر قيمة. وعلى الرغم من أن شركة فيسبوك تعهدت بعدم دمج قاعدتي المستخدمين في كلتا المنصتين، أثناء عملية شراء “واتساب”، إلا أنها شرعت في القيام بذلك خلال السنة المنصرمة، الأمر الذي دفع بالمفوضية الأوروبية إلى توجيه تحذير جدي لها، قد يصل إلى حد دفع غرامات.

في الحقيقة، ساهمت الأزمة التي أحدثها فيسبوك في تسليط الضوء على الأسباب التي دفعت بعض البلدان الأوروبية بالفعل إلى تحسين قوانين المنافسة لديها. ففي ألمانيا، يتم تمرير التشريعات عبر البرلمان، مما يسمح “للمكتب الفيدرالي لمكافحة المحتكرين” بالتدخل في الحالات المرتبطة بتأثير الشبكات أو حين تلعب أصول البيانات دورا في الاحتكار.

لا بد للقائمين على ضبط أسس التعامل مع البيانات أن يكونوا على الدرجة ذاتها من الابتكار تماما مثل الشركات التي يقومون بمراقبتها

فضلا عن ذلك، أظهر المكتب اهتماما خاصا باقتصاد البيانات، حيث قام بإجراء تحقيق حول ما إذا كانت شركة فيسبوك تستغل مركزها المهيمن لفرض “سياسات خصوصية” معينة. علاوة على ذلك، يسعى رئيس المكتب، أندرياس موندت، إلى تحقيق ما هو أبعد من ذلك، حيث طرح عدة تساؤلات من قبيل “هل بإمكاننا تطوير تقنيات التحقيقات التي نقودها؟ أو “كيف نستطيع دمج الآثار الديناميكية للاحتكار بشكل أفضل في صلب تحاليلنا؟”.

من هذا المنطلق، لا بد للقائمين على ضبط أسس التعامل مع البيانات أن يكونوا على الدرجة ذاتها من الابتكار تماما مثل الشركات التي يقومون بمراقبتها. وقد اقترح كل من آرييل إزراتشي وموريس ستوك، في إطار بحث حديث لهما، أن تعمل سلطات مكافحة الاحتكار على ما أسمياه “حاضنات التواطؤ الضمني”. وبهدف معرفة ما إذا كانت خوارزميات التسعير تتلاعب بالأسواق أو تتآمر عليها، يجب على هؤلاء الأشخاص أن يقوموا بمحاكاة هذا الأمر على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم.

وفي الأثناء، أشار الكثيرون إلى فكرة الترويج إلى بدائل ملائمة لأكوام البيانات المركزية. من جانبها، تستطيع الحكومات التخلي عن جزء من البيانات التي تقوم بتجميعها لتخلق بذلك فرصا للشركات الصغرى للانخراط أكثر، كما يمكنها دعم ما يُدعى “بتعاونيات البيانات”. ففي سويسرا على سبيل المثال، يقوم مشروع يعرف “بميداتا” بتجميع البيانات الصحية من المرضى، الذين بإمكانهم اتخاذ القرار لاحقا حول ما إذا كانوا يريدون أن تُدرج بياناتهم في مشاريع بحثية.

توزيع البيانات

في بعض الأحيان، تصبح مشاركة فئة معينة من البيانات أمرا مفروضا وإجباريا، وذلك في حال كانت حاسمة ومصيرية. مؤخرا، اقترح بن طومسون، المسؤول عن نشر الرسالة الإخبارية “ستراتشيري”، بضرورة مُطالبة الشبكات الاجتماعية المهيمنة بالسماح لبعض الأطراف الخارجية بالنفاذ إلى الرسوم البيانية الاجتماعية الخاصة بها. والجدير بالذكر أن تطبيق إنستغرام الذي يختص في مجال مشاركة الصور، الذي أصبح تابعا أيضا لشركة فيسبوك، قد نجح في تحقيق نجاح فعلي بفضل قيام مستخدميه باستيراد قائمة متابعيهم من موقع تويتر.

وفي هذا السياق، بيّن طومسون أن “الشبكات الاجتماعية جعلت القيام بأمر مماثل مستحيلا منذ فترة طويلة، وبالتالي، صعّبت الأمر أكثر فأكثر على منافسيها”. في الواقع، تعدّ مشاركة البيانات الإلزامية أمرا مألوفا، ففي ألمانيا، تطالب الحكومة شركات التأمين بالتعاون فيما بينها حتى تحصل على جملة من الإحصائيات، خاصة تلك التي تتعلق بحوادث السيارات والتي لن تتمكن الشركات الأصغر حجما من تجميعها بمفردها.

في حال تمت المتاجرة بالبيانات الشخصية أو مشاركتها، فستكون عُرضة للتسريب. لذلك، وبهدف الحد من هذا الخطر، يعمل “ضبط حماية البيانات العامة” الجديد على تعزيز سيطرة الأشخاص على بياناتهم

على مستوى الاتحاد الأوروبي، حث “ضبط حماية البيانات العامة” الجديد، الذي سينطلق العمل به في أيار/مايو سنة 2018، الخدمات عبر شبكة الإنترنت بتسهيل نقل العملاء لمعلوماتهم إلى مقدمي الخدمات الآخرين وحتّى إلى منافسيهم. في المقابل، تسلط “قابلية نقل البيانات”، فضلا عن مشاركة البيانات، الضوء على الإشكالية السياسية الثانية وهي التوتر القائم بين أسواق البيانات والخصوصية.

في حال تمت المتاجرة بالبيانات الشخصية أو مشاركتها، فستكون عُرضة للتسريب. لذلك، وبهدف الحد من هذا الخطر، يعمل “ضبط حماية البيانات العامة” الجديد على تعزيز سيطرة الأشخاص على بياناتهم. في الواقع، ينصّ الضبط على ضرورة حصول الشركات على موافقة صريحة بشأن طريقة استخدامهم للبيانات. وفي الوقت ذاته، ستكون الغرامات مقابل القيام بانتهاكات لهذا الضبط شديدة، حيث أنها قد تصل إلى 4 بالمائة من الإيرادات الجملية أو 20 مليون يورو (22 مليون دولار). 

يبدو من الصعب تطبيق مثل هذه القواعد في عالم يغلب عليه امتزاج وتطابق مجموعات البيانات. وفي الأثناء، هناك مشكل حقيقي فيما يتعلق بخلق حماية أكثر تشددا للبيانات من جهة وبين المزيد من المنافسة من جهة أخرى. ففضلا عن امتلاك الشركات العظمى لوسائل كبرى تسمح لها للامتثال لضوابط الخصوصية الباهظة، فهي تسمح لها أيضا بالسيطرة على البيانات بطريقة محكمة للغاية.

من ناحية أخرى، استطاعت التكنولوجيا الجديدة، التي تلعب دورا فعالا في هذا المجال، فضلا عن أنها تُسهّل الكشف عن الهويات المجهولة، التخفيف من حدة هذه المشكلة. وفي هذا الصدد، تستخدم “بيتمارك” وهي شركة ناشئة، تقنية “سلسلة الكتل” ذاتها التي تعمل وفقها العملة الرقمية “بيتكوين”، لتتبع كل من يلج إلى البيانات. من جهته، أكد فيكتور ماير-شونبرغر من جامعة أكسفورد على الحاجة أيضا إلى عملية ابتكار قانوني في هذا المجال.

بالإمكان حظر الشركات على شبكة الإنترنت من استخدام بيانات معينة أو توظيفها بطريقة قد تتسبب في إيذاء شخص ما. ونتيجة لذلك، ستقع المسؤولية على عاتق جامعي البيانات ومستخدميها الذين لا بد أن يخضعوا للمساءلة حول كيفية إدارتهم للبيانات بدلا من الاعتماد على الحصول على موافقة الأفراد

في الحقيقة، يرى ماير-شونبرغر وغيره من خبراء البيانات أنه لا ينبغي ضبط تجميع البيانات فحسب، بل لا بد من وضع قواعد لاستخدامها. وفي هذا السياق، ومثلما ما هو الحال بالنسبة لمصنّعي الأغذية الذين يُمنع عليهم استخدام بعض المكونات، بالإمكان حظر الشركات على شبكة الإنترنت من استخدام بيانات معينة أو توظيفها بطريقة قد تتسبب في إيذاء شخص ما. ونتيجة لذلك، ستقع المسؤولية على عاتق جامعي البيانات ومستخدميها الذين لا بد أن يخضعوا للمساءلة حول كيفية إدارتهم للبيانات بدلا من الاعتماد على الحصول على موافقة الأفراد، وفقا لما أشار إليه ماير-شونبرغر.

عموما، من الصعب جدا تطبيق هذه الضوابط نظرا لأن القوانين المألوفة للإشعار والموافقة تتحكم في البيانات التي يتم تجميعها وطريقة استخدامها. علاوة على ذلك، من المرجح أن تعمق هذه الضوابط المعضلة خاصة فيما يتعلق بما يعتبره البعض أكبر ثالث تحدّ لاقتصاد البيانات في شكله الحالي، حيث أن البعض سيستفيد أكثر بكثير من الآخرين، اجتماعيا وجغرافيا.   

من ناحية أخرى، وبالنسبة للبيانات الشخصية على الأقل، يبدو النموذج الحالي بالكاد متماسكا. فبالنظر إلى ارتفاع قيمة البيانات ونمو اقتصادها بشكل واضح، من الممكن أن تحتكر مصافي البيانات الأموال المتأتية منها. أما أولئك الذين يستخرجون البيانات فقد يعلقون في تبادل غير متكافئ، الأمر الذي سيسمح لهم بالحصول على الخدمات المجانية فقط. وكان جارون لانيير، الذي يعمل في قسم أبحاث مايكروسوفت،  أول من أشار إلى ذلك ضمن كتابه “من يملك المستقبل”. الصادر سنة 2014.

من جانبه، قدّم غلين ويل، الذي يعمل بالتعاون مع لانيير والذي بصدد تأليف كتاب حول تجديد الاقتصاد الليبرالي برفقة إريك بوسنر من جامعة شيكاغو، نسخة أخرى لحجّة لانيير. وفي هذا السياق، أشار ويل إلى أن خدمات الذكاء الاصطناعي لا يتم تقديمها من قبل الخوارزميات بل من قبل الأشخاص الذين يولدون المواد الخام. وأضاف ويل، الذي يعمل على إنشاء نظام يسمح بقياس حجم المساهمات الفردية للبيانات بهدف خلق أسس لتبادل أكثر إنصافا، أن “أساس البيانات هو العمل”. 

توحّد عمال البيانات حول العالم  

وفقا لما أفاد به ويل، تكمن المشكلة في حث الأشخاص على فهم القيمة التي تقترن ببياناتهم، وبالتالي تمسكهم بحقهم في تلقّي تعويضات مقابلها. وفي هذا الصدد، بيّن ويل قائلا: “نحن في حاجة إلى حركة عملية من قبل الأشخاص في المجال الرقمي”. وفي الأثناء، سيحتاج الأمر بذل المزيد من من الجهد لإقناع الأطراف المعنية لتركيز “خوادم صفارات الإنذار”، في الوقت الذي يدعو فيه جارون لانيير عمالقة البيانات، الذين يستفيدون من الوضع الراهن بشكل جيد، إلى تغيير أساليبهم.

على امتداد عقود من الزمن، ألقت الصراعات القائمة حول السيطرة على النفط بضلالها على العالم بأسره. في المقابل، لا يبدو أن أحدا يلقي بالا للحروب التي ستندلع بسبب البيانات

من ناحية أخرى، قد يكون من الصعب تحقيق توزيع جغرافي أكثر تكافؤ للمعطيات القيمة التي تقدمها البيانات. وفي الوقت الحالي، تقع معظم مصافي البيانات الكبرى على الأراضي الأمريكية أو تسيطر عليها شركات أمريكية. وبالتزامن مع نمو اقتصاد البيانات، يبدو أن هذه الوقائع تسير نحو التغير أيضا، حيث أن المناوشات السابقة التي وقعت بين الولايات المتحدة وأوروبا بشأن الخصوصية تعطينا لمحة بسيطة عما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب.

أما في الصين، تقضي لوائح الضوابط في هذا المجال بأن تقوم الشركات بتخزين جميع “البيانات الحساسة” التي تجمعها على الخوادم الموجودة في البلاد. على امتداد عقود من الزمن، ألقت الصراعات القائمة حول السيطرة على النفط بضلالها على العالم بأسره. في المقابل، لا يبدو أن أحدا يلقي بالا للحروب التي ستندلع بسبب البيانات، إلا أن اقتصادها لا يخلو من احتمال نشوب مواجهة بين العديد من الأطراف مماثلة لتلك التي شهدها العالم في الصراع على النفط.

المصدرذي إيكونوميست