في تقرير جديد لوزارة المالية المصرية كشف عن مواصلة الدين العام ارتفاعه، حيث وصل إلى 107% من إجمالي الناتج المحلي وذلك بنهاية مارس الماضي، بالرغم من توقعات انحساره وتراجعه جرًاء الإجراءات والسياسات المتبعة.
الوزارة في تقريرها أشارت إلى تجاوز فوائد الديون عشرات المليارات من الدولارات خلال الأشهر الثمانية من العام المالي الحالي حيث وصلت إلى نحو 35% من إجمالي مصروفات الموازنة العامة وهو ما يعد مؤشرًا خطيرًا بشأن مستقبل خارطة مصر الاقتصادية.
الارتفاع غير المسبوق للديون وفوائدها تسبب في إرباك الموازنة العامة بالعجز، حيث قفزت معدلات العجز الكلي من 12 مليار دولار العام الماضي إلى 21 مليار دولار هذا العام بنسبة 7% من إجمالي الناتج المحلي.
حالة من القلق تفرض نفسها على المصريين هذه الأيام جرًاء ما تشير إليه هذه الأرقام غير المبشرة فضلا عما تثيره زيارة بعثة صندوق النقد الدولي للقاهرة هذه الأيام من تخوفات بشأن حزمة جديدة من الإجراءات التقشفية
مزيد من التأزم
يتعرض الاقتصاد المصري خلال السنوات الأخيرة لموجات متتالية من التراجع ألقت بظلالها القاتمة على الوضع المعيشي للمصريين بصورة كبيرة، حيث وصلت معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها منذ عشرات السنين، وهو ما كشفت عنه بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، التي أشارت إلى بلوغ معدلات التضخم نحو 32% وهو رقم لم تصل إليه مصر منذ إعلان الجمهورية بها.
ويمكن الوقوف على القفزات الجنونية لمعدلات التضخم من خلال مقارنتها بما كانت عليه في السنوات الماضية، حيث بلغت حوالي 11% مع بداية ثورة 25 يناير 2011، تراجعت إلى 7% في عهد المجلس العسكري، ثم وصلت إلى 10% في عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي.
ومع السياسات المالية والاقتصادية للنظام الحالي والتي كان على رأسها تعويم الجنيه قفزت معدلات التضخم إلى 32% وما تبعها من زيادة هائلة في أسعار السلع والخدمات، وهو ما أنعكس على زيادة معدلات الفقر بين المصريين بصورة غير متوقعة.
أما فيما يتعلق بديون مصر المتراكمة جرًاء تلك السياسات الجديدة، فقد كشفت التقارير الواردة عن البنك المركزي المصري عن بلوغ الدين الخارجي لمصر حوالي 67.3 مليار دولار في النصف الأول من العام المالي 2016/2017 مقارنة بـ47.8 مليار دولار في النصف الأول من السنة المالية السابقة، بينما ارتفع الدين العام الداخلي في الفترة نفسها بنسبة 28.9% ليصل إلى 3.052 تريليون جنيه (نحو 167 مليار دولار) بعدما كان 2.368 تريليون جنيه في الفترة نفسها من العام الماضي.
كما بلغت فوائد الديون حوالي 380 مليار جنيه (20.9 مليار دولار) للعام المالي 2017/2018، مقارنة بـ304 مليارات جنيه في الموازنة المالية للعام /2016/2017، وهو ما أشار إليه وزير المالية المصري، عمرو الجارحي، في مؤتمر صحفي له حول مشروع موازنة السنة المالية الجديد والذي تضمن زيادة في فوائد الديون تقدر بنحو 25%.
كشفت التقارير الواردة عن البنك المركزي المصري عن بلوغ الدين الخارجي لمصر حوالي 67.3 مليار دولار في النصف الأول من العام المالي 2016/2017
بلغت معدلات التضخم في مصر 32% في سابقة لم تحدث منذ 60 عامًا
ما السبب؟
زيادة معدلات التضخم بهذه الصورة غير المسبوقة، والارتفاع الجنوني في الديون وفوائدها، وتراجع معدلات النمو بشكل غير متوقع، وقفزات الأسعار وتحريكها بما أثقل كاهل المواطنين، كل هذه النتائج والمؤشرات التي تعد أحد إفرازات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تعهدت الحكومة على تطبيقه بالتعاون مع صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على القرض، تعود بحسب خبراء إلى خطأين رئيسيين:
الأول: تقديرات قيمة الدولار بعد التعويم
لقد بنت الحكومة وصندوق النقد الدولي توقعاتهما فيما يتعلق بخطوات الإصلاح الاقتصادي على قيمة محددة للجنيه مقابل الدولار، حيث كانت التوقعات حينها تشير إلى أن قرار التعويم سيؤثر على قيمة الجنيه في سوق الصرف بحوالي 25% لكن بعد دخول التعويم حيز التنفيذ وصل الأمر إلى فقدان العملة المحلية المصرية أكثر من 120% من قيمتها، حيث كان الدولار قبل التعويم يساوي 8.8جنيهًا لكن الأن وصل إلى ما يقرب من 18.25 جنيهًا.
هذا التقدير الخاطئ لقيمة الدولار مقابل الجنيه انعكس بصورة كبيرة على نسبة الدين الخارجي من الناتج الإجمالي ، حيث قفز من 16.3% قبل التعويم إلى نحو 37% في ديسمبر الماضي بعد التعويم بشهر واحد فقط.
كما توقع صندوق النقد أن تتراجع محفظة ديون مصر الخارجية إلى 66 مليار دولار نهاية الشهر المقبل، إلا أن البنك المركزي أشار إلى بلوغها ما يقرب من 67.3مليار دولار ديسمبر الماضي بالإضافة إلى القروض التي حصلت عليها القاهرة خلال الفترة الماضية والتي بلغت 5.5مليار دولار، حصيلة طرح سندات دولية في يناير بقيمة 4 مليارات دولار و1.5 مليار دولار من البنكين الدولي والأفريقي للتنمية في مارس.
الثاني: تقديرات معدلات النمو
أما الخطأ الثاني الذي وقعت فيه الحكومة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي فيتعلق بسوء تقديرات معدلات النمو لإجمالي الناتج المحلي، حيث لم تضع الحكومة نصب أعينها التأثير السلبي لقرار التعويم على قيمة العملة المحلية، ومن ثم توقعت المجموعة الاقتصادية المفوضة بالتنسيق مع صندوق النقد أن يبلغ الناتج المحلي نموًا قدره 4% إلا أنه وبعد التعويم لم يتجاوز 3.6% .
هذا التقدير الخاطئ لمعدلات النمو يعني زيادة ملحوظة في معدلات الدين العام مقارنة بحجم النمو الاقتصادي، وبدلا من أن تنجح معدلات النمو في كبح جماح مؤشرات الدين إذ بالأخير يزداد ويتمدد، وهو ما يعد مؤشرًا خطيرًا على مستقبل الاقتصاد المصري.
التقدير الخاطئ لقيمة الدولار مقابل الجنيه انعكس بصورة كبيرة على نسبة الدين الخارجي من الناتج الإجمالي
ماذا عن المستقبل؟
بالرغم من النظرة التفاؤلية التي يبديها البعض بشأن مستقبل معدلات الدين والتضخم، والتي تبنى في المقام الأول على التمني أكثر منها على قراءة واقعية للمشهد الاقتصادي، إلا أن الدراسات تشير إلى عكس ذلك بصورة ملفتة للنظر.
رضوى السويفي، رئيس قطاع البحوث في بنك الاستثمار فاروس القابضة، في تصريحات لها قالت “إن معدلات الدين العام لن تنخفض في الوقت الراهن، وتحتاج على الأقل من عامين إلى ثلاثة أعوام قبل أن تبدأ في التراجع قياساً إلى حجم الاقتصاد، مع وجود نمو اقتصادي وتقليل الاعتماد على أدوات الدين لسد العجز بالموازنة العامة”
السويفي أشارت إلى أن هناك توجه عام بشأن التوسع في الدين الخارجي على حساب الدين الداخلي، وذلك بهدف تقليل اعباء خدمة الدين وفوائده، وبسبب هذا التوجه فضلا عن السياسات المالية الأخرى وصل الدين العام إلى هذا الرقم الصعب 131% من الناتج المحلي في ديسمبر الماضي، فضلا عن زيادة معدلات التضخم، وهو ما يتطلب إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة، الأمر الذي انعكس بالسلب على تكلفة الدين الحكومي.
من جانبه حذر صندوق النقد الدولي من خطورة ارتفاع الدين العام على مسيرة الاقتصاد المصري، ملفتًا أن مواصلة ارتفاعه بهذا الشكل سيتسبب في إبعاد المستثمرين وجنوحهم عن ضخ رؤوس أموالهم في مصر فضلا عما يحمله من زيادة للمخاطر التي تهدد الاستقرار المالي.
رضوى السويفي: معدلات الدين العام لن تنخفض في الوقت الراهن، وتحتاج على الأقل من عامين إلى ثلاثة أعوام
السيسي مع رئيسة صندوق النقد الدولي بالقاهرة
إجراءات تقشفية جديدة
اعتاد المصريون مع كل زيارة لبعثة صندوق النقد الدولي للقاهرة أن يرافقها إجراءات اقتصادية تقشفية جديدة، فمن المؤكد ألا تمر الزيارة الحالية التي تستمر حتى الحادي عشر من مايو الجاري مرور الكرام.
الخبراء الاقتصاديون يتوقعون فرض حزمة جديدة من إجراءات ترشيد الدعم تنفيذًا لشروط وإملاءات صندوق النقد التي تأتي تحت مسمى “برنامج الإصلاح الاقتصادي” وذلك بهدف الحصول على الدفعة الثانية من القرض والتي تبلغ 1.25مليار دولار، حيث تم تأجيلها منذ مارس الماضي لحين وضوح الرؤية بشأن مدى التزام مصر باتفاقية القرض وتنفيذ خطوات البرنامج الإصلاحي بشكل كامل.
وبحسب البعض فإن أول القرارات الإصلاحية القادمة ستكون تحريك بعض أسعار الطاقة، ما يترتب عليه زيادة في أسعار الوقود والكهرباء، في إطار المضي قدمًا نحو رفع الدعم التدريجي عن الطاقة بشكل كامل، وبالرغم من تأجيل هذا القرار أكثر من مرة إلا أن المؤشرات تلمح إلى قرب اتخاذه خلال الفترة القادمة في محاولة لإرضاء بعثة الصندوق للإفراج عن الدفعة الثانية من القرض.
المصريون اعتادوا مع كل زيارة لصندوق النقد أن يرافقها إجراءات تقشفية جديدة
وبالرغم من نفي الحكومة وجود أي علاقة بين صندوق النقد الدولي والتسعيرة الجديدة للكهرباء والمقرر لها أن تطبق بداية يوليو القادم، إلا أن هذه الخطوات كما هو معروف تأتي في إطار تنفيذ خطة رفع الدعم عن المواطنين كأحد محاور برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي على أساسه وافق الصندوق على منح مصر القرض.
وكالعادة.. حين يتم تحريك أسعار الوقود تتحرك معها تلقائيًا أسعار بقية السلع والخدمات، في غيبة شبه تامة لأجهزة الرقابة، ويجد المواطن نفسه بين مطرقة تجاهل الحكومة وسندان جشع التجار، ليدفع وحده دون غيره فاتورة السياسات الفاشلة والإدارة السيئة، وإن فكر في التعبير عن رأيه مطالبًا بحقه إذ بأسهم النقد والتوبيخ تصوب حيال وطنيته وحبه لبلده، وبدلا من أن يرفع عن كاهله بعض مما عليه إذ به مطالب بالتبرع بجنيه أو التنازل عن رغيف.