ترجمة وتحرير نون بوست
لقد كان التاريخ متسامحا للغاية مع القيصر الروسي آليكساندر الثاني الذي حرر العبيد عام 1861، قبل عامين من إبراهام لينكولن وإعلانه في 1863. المؤرخون يشيرون إليه على أنه “القيصر المحرر” ويقارنونه بميخائيل جورباتشوف الذي أسقط الاتحاد السوفيتي ورغب كثيرا في التواصل مع الغرب وإصلاح الداخل الروسي.
لكن بمناسبة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 والتي تُقام في سوتشي والمناطق المحيطة بها، فإنه من المفيد أن ننظر إلى الوراء وأن نتذكر أكثر من 600 ألفا من السكان المحليين الذين ماتوا من الجوع، الغرق والمجازر التي تعرضوا لها في حملة نسقها وأدارها إمبراطور روسيا لطرد الشراكسة المسلمين من هذه المنطقة. الشراكسة وغيرهم من سكان المنطقة لم يستفيدوا أبدا من إصلاحات القيصر، لأنه رأى فيهم خطرا كامنا على حدود روسيا الجنوبية، وحتى الآن ما زالت تبعات طرد الشراكسة مستمرة.
وبعد أربع سنوات من تمرد صغير تم قمعه بوحشية في ديسمبر عام 1825، وقعت روسيا معاهدة أدرنة مع الدولة العثمانية وحصلت على ساحل البحر الأسود الشمالي بما فيها سوتشي، والتي كانت آنذاك عاصمة منطقة الحكم الذاتي للشراكسة.
الشراكسة الذين تحولوا للإسلام قبل ذلك بقرون رفضوا الخضوع لسلطة القيصر الروسي، أو التحول للمسيحية الأرثوذكسية. توحدت القبائل المسلمة تحت قيادة إمام الشيشان وداغستان “شامل”. تلا ذلك عقود من الحرب بين الإمبراطورية الروسية وشعب القوقاز. شارك في الحرب ابن القيصر الروسي حينها، نيكولاس، وقاد عمليات ضخمة ضد المسلمين في تلك المناطق، هذا الابن كان هو آليكساندر الثاني
وعندما جاء آليكساندر الثاني إلى العرش في 1855 بعد وفاة نيكولاس المفاجئة، كان قد ورث امبراطورية تخسر معركتها في البحر الأسود. وفي معاهدة باريس عام 1856 التي أنهت الحرب، لم يضمن الشراكسة استقلالا أو حكما ذاتيا، لكنها منعت روسيا من إبقاء أسطولها في البحر الأسود ونزعت السلاح عن الشراكسة تماما.
وعندها تحول اهتمام آليكساندر إلى إلغاء الرق في روسيا وإقامة حدود واضحة لإمبراطوريته.
وفي سبيل ذلك أعلنت الدولة عن حملتها لطرد المسلمين الشراكسة إلى حدود الدولة العثمانية، لقد قالوا حينها “إن إزالة الشركس من المنطقة سيفتح الأراضي الزراعية للمستوطنين المسيحيين ويطهر الأرض من العناصر المعادية”
وافق القيصر إذا على الطرد السريع لمئات الآلاف من الشراكسة إلى الدولة العثمانية في مشهد من التطهير العرقي من خلال المرض وغرق السفن المكتظة التي تعبر البحر الأسود في اتجاه تركيا الحالية. العثمانيون لم يكونوا مستعدين لتدفق اللاجئين، ومع زيادة أعدادهم وعدم وجود المأوى الملائم لهم تعرض المزيد منهم للوفاة. كما أن الروس ذبحوا هؤلاء الشراكسة الذين حاولوا البقاء في روسيا والكفاح من أجل أرضهم.
لم يحقق طرد الشراكسة الأمان لروسيا ولم يمنع الحرب مع الدولة العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى بعد قرابة 50 عاما. وخلال العقود الأخيرة من حكمه واصل آليكساندر الثاني محاولاته الوصول إلى الاستقرار بعيد المنال، لذلك فقد بدأ في اتخاذ قرارات لم تحظ بشعبية مثل أن باع آلاسكا التي كانت تمتلكها روسيا للولايات المتحدة في 1867،
إن أراضي سوتشي وما تُعرف بـ”التل الأحمر” في ضواحيها كان آخر موطئ لأقدام الشراكسة المسلمين قبل رحيلهم قبل 150 عاما، وهناك احتفلت جيوش الإمبراطورية الروسية بانتصارهم على المزارعين المسلمين
طرد آليكساندر الثاني للشعب الشركسي في 1864 ساهم في رسم علاقات روسيا وحدودها مع دول وسط آسيا. وبعد 150 عاما، يبدو رئيس روسيا فيلاديمير بوتين مهموما بالأمن في منطقة القوقاز، وتبدو أكبر التهديدات التي يتعرض لها بوتين وألعابه الأوليمبية هي الهجمات التي أعلن عنها المسلمون في المناطق التي هجرهم منها الروس قبل قرن ونصف القرن، إن عدم استطاعة بوتين على احتواء التمرد في شمال الشيشان يقول أن روسيا لم ولن تصل لحل سلمي للأزمة التي يعاني منها السكان على حدود روسيا الجنوبية، كما أن منطقة القوقاز وروسيا لن تنعمان بالأمان قبل أن تعترف روسيا بماضيها الوحشي تجاه المسلمين.
يُذكر أنه مع بداية الأولمبياد، دعت 14 منظمة وجمعية شركسية في مختلف أنحاء العالم، من بينها دول عربية وإسلامية، كالأردن وتركيا وفلسطين، في بيان إلى التظاهر أمام السفارات والممثليات الروسية، في الذكرى 147 لإبادة الشركس وتهجيرهم من المدينة، حيث لم يبق من سكانها الشركس إلا 20 ألف نسمة.
ويتواجد أغلب الشراكسة حاليا في تركيا، وعددهم هناك حوالي خمسة ملايين نسمة. كما توجد مجتمعات كبيرة منهم في الأردن وعددهم حوالي 200 ألف نسمة، وفي سوريا وعددهم حوالي ربع مليون نسمة (250 ألف نسمة). وهناك عشرات الآلاف منهم في كل من لبنان ومصر وفلسطين وليبيا وجمهورية مقدونيا؛ وكذلك في الولايات المتحدة.