مر اليوم الأول على سريان اتفاقية مناطق خفض التصعيد في المناطق المحددة من سوريا، وككل الاتفاقيات السابقة التي رعتها روسيا، لم تمضي الساعات الأولى حتى بدأت خروقات روسيا والنظام السوري في محافظات مختلفة، مع إعلان أمريكي بأنها ليست ضمن الاتفاق وإصرار المعارضة السورية على أن الاتفاق ليس إلا مقدمة لتقسيم البلاد.
خروقات للنظام السوري ورفض المعارضة للاتفاق
بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ في الساعة الثانية عشرة من ليل الجمعة، بدأ النظام السوري كعادته بخرق التهدئة في محافظات حماة ودرعا وحمص وريف دمشق. وبدءًا من حماة قصف النظام السوري بالمدفعية بلدات ريف حماة الشمالي مثل كفرزيتا واللطامنة والزلاقيات، واستهدفت قوات النظام في ريف حمص الشمالي بلدة تير معلة بالقصف، أما في جنوب البلاد فقد تعرضت مدن وبلدات كدرعا البلد وعلما وخربة غزالة لقصف بقذائف الهاون من قبل قوات النظام السوري.
كما دوت أصوات انفجارات ضخمة اليوم في حي القابون في شرق العاصمة دمشق إثر استهدافه من قبل كاسحة ألغام روسية، وكان الحي نفسه تعرض لقصف روسي خلال اليومين الماضيين وسط محاولات حثيثة من الميليشيات والنظام السوري لاقتحامه، كما تعرضت بلدات الغوطة الشرقية لقصف مدفعي من قبل قوات الأسد أمس السبت.
تهدف المناطق العازلة إلى منع وقوع صدامات عسكرية بين الأطراف المتنازعة وحواجز لضمان تنقل المدنيين غير المسلحين وإيصال المساعدات الإنسانية ودعم الأنشطة الاقتصادية
إلى ذلك فإنه من المفترض أن يبدأ فريق عمل مشترك من الدول الضامنة، روسيا وتركيا وإيران، لإعداد خرائط لحدود مناطق وقف التصعيد، والمناطق العازلة التي ستمتد على حدود مناطق وقف التصعيد الأربع في شمال سوريا وريف حمص الشمالي وغوطة دمشق الشرقية وجنوبي البلاد بريفي درعا والقنيطرة. كما أعطت الخطة حتى 4 يونيو/حزيران القادم لتحقيق الفصل بين فصائل المعارضة المعتدلة وجبهة فتح الشام.
صورة للمنطقة الأولى في إدلب من مناطق التهدئة الأربعة
تهدف المناطق العازلة حسبما أعلن رئيس إدارة العمليات العامة في هيئة الأركان الروسية، سيرغي رودسكي، إلى منع وقوع صدامات عسكرية بين الأطراف المتنازعة ستتضمن نقاطًا للرقابة على الالتزام بالهدنة وحواجز لضمان تنقل المدنيين غير المسلحين وإيصال المساعدات الإنسانية ودعم الأنشطة الاقتصادية.
وحسب رودسكي فإن أكبر المناطق الأربعة هي، في الشمال السوري إذ تشمل ريف إدلب ومناطق شمال شرقي ريف اللاذقية وغربي ريف حلب وشمال ريف حماة، ويقيم فيها نحو مليون شخص، وفيها تشكيلات عسكرية تضم أكثر من 14.5 فرد، إلا أن محللون أشاروا أن سبب اختيار هذه المنطقة هو التواجد القوي لتنظيم جبهة “فتح الشام” وهو ما يفتح الباب أمام إرغام فصائل المعارضة على قتال الجبهة ووقف قتال النظام.
والمنطقة الثانية تشمل ريف حمص الشمالي ويسكن فيها قرابة 180 ألف شخص، وتعد هذه المنطقة حيوية بالنسبة للنظام السوري بسبب توسطها بين مناطق سيطرة النظام في حمص ومعاقله في الساحل وفي ريف حماة الغربي، لذا فإن موقع هذه المنطقة ذو أهمية بالغة بالنسبة للنظام.
المناطق الأربعة المحددة في اتفاق وقف التصعيد تضم 42 ألف من قوت المعارضة المسلحة
والمنطقة الثالثة بحسب المسؤول الروسي هي الغوطة الشرقية باستثناء القابون الواقع تحت سيطرة تنظيم جبهة “فتح الشام” بحد زعم الروس، ويسكن في المنطقة نحو 690 ألف شخص، وهذه المنطقة فيها تواجد لجبهة “فتح الشام” وعدد كبير من أفراد المعارضة المسلحة، وهو سبب وجيه لشملها ضمن الاتفاق بالإضافة إلى رغبة النظام السوري لتأمين حزام دمشق وإعادته لبيت الطاعة.
أما المنطقة الرابعة فهي جنوب سوريا التي تضم نحو 15 ألف مسلح ويسكن فيها نحو 800 ألف نسمة، ويرى مراقبون أن هناك اتفاق ضمني روسي أمريكي على ضرورة تأمين هدوء واستقرار نسبي في هذه المنطقة، وذلك لمحاذاتها للاحتلال الإسرائيلي. وذكر رودسكي أن المناطق الأربعة تضم 42 ألف من قوت المعارضة المسلحة.
الملاحظ في تلك المناطق أن معظمها يقع تحت الحصار من قبل قوات النظام السوري وميليشياته، وتخضع للقصف بشكل يومي ولمحاولات عديدة لانتزاعها من سيطرة المعارضة إما باقتحامها أو بتهجير أهلها.
والملاحظة الجديرة بالاهتمام، هي ما استثناه الاتفاق من مناطق شرق البلاد التي تقع تحت سيطرة تنظيم داعش أو تحت سيطرة الوحدات الكردية، وتتبع هذه المنطقة للنفوذ الأمريكي والتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن للقضاء على داعش، وكذلك تستثني شمال سوريا الأوسط حيث نفوذ تركيا التي تدعم مجموعات من فصائل الجيش الحر لقتال الوحدات الكردية التي تهدف للانفصال، كما تم استثناء كل من دمشق ومحيطها والمناطق المحاذية للبنان كالزبداني والقصير حيث نفوذ إيران وحزب الله.
صورة للمنطقة الجنوبية تظهر فيها درعا والسويداء والقنيطرة وهي المنطقة الرابعة من اتفاق التهدئة
بالنسبة لواشنطن التي أبدت تحذيرها من الاتفاق بعد توقيعه لوجود إيران ككفيل فيه، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية يوم الجمعة الماضي، أنها ليست جزءًا من اتفاق خفض التصعيد وأنه لن يؤثر على الهجمات الجوية للتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم داعش في سوريا، حسبما أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، جيف ديفيس، الذي قال أن مشاركة واشنطن عبر ممثل لها في محادثات “أستانة 4” لا يعني أنها جزءًا من الاتفاق.
استثنى اتفاق تخفيض التصعيد كل من دمشق ومحيطها والمناطق المحاذية للبنان كالزبداني والقصير بسبب تواجد كل من إيران وحزب الله
يُذكر أن الجانب الروسي أعاد تفعيل اتفاق تجنب حوادث الطيران في الأجواء السورية والذي كانت روسيا قد علقته في أعقاب الضربة العسكرية التي نفذتها واشنطن على مطار الشعيرات العسكري.
فيما لا تزال المعارضة السورية بمختلف تشكيلاتها العسكرية والسياسية وحتى الشعبية أيضًا، رافضة لهذا الاتفاق ومضامينه وترى فيه صيغة أخرى للاستسلام للنظام والرضوخ للمطالب الدولية لقتال “داعش” و”فتح الشام” والتوقف عن المطالبة بإسقاط النظام، وهو ما يمكن فهمه إعادة إنتاج للنظام مجددًا.
إذ رفضت الهيئة العليا للمفاوضات صيغة الاتفاق وحذرت من محاولات لتمرير مشاريع تقسيم من خلال المضامين الغامضة في الاتفاق، وهو ما عاد وأكده وفد المعارضة إلى أستانة بأن الخرائط المنشورة لمناطق خفض التصعيد غير صحيحة ولن تكون مقبولة وأكد في بيان له أن الوفد لم يتفاوض على أي خصائص بهذا الشأن ولم تعرض عليه في أية اجتماعات، وبين أنه لا يمكن أن يقبل استثناء أي منطقة من اتفاق وقف النار خصوصًا المناطق المحاصرة.
ديمستورا وممثلي روسيا وتركيا وإيران في مؤتمر أستانة 4
تنبع مخاوف المعارضة السورية من تكريس الاتفاق لمناطق نفوذ محلية وخارجية تكون مقدمة لتقسيم البلاد، إضافة إلى توجسها من دور إيران وكفالتها للاتفاق، فإيران لا تدخل في اتفاق إذا لم تضمن نفوذها فيه ورجحان كفتها على كفة المعارضة السورية، كما أن الخطط تم وضعها بدون التشاور مع المعارضة السورية، والنقطة الأخطر في الاتفاق هو مواصلة القتال ضد تنظيمي داعش وجبهة فتح الشام، وهو ما قد يؤدي إلى إيقاف القتال ضد النظام السوري، والتسبب باحتراب داخل المعارضة السورية التي تتداخل فيها مناطق نفوذ الفصائل مع جبهة فتح الشام. ففي كل المناطق التي تم تحديدها وفق الاتفاق يتداخل نفوذ فصائل المعارضة مع جبهة “فتح الشام”، بل هناك وجود قوي للجبهة في كل المناطق.
المعارضة ترى في الاتفاق صيغة أخرى للاستسلام للنظام والرضوخ للمطالب الدولية لقتال “داعش” و”فتح الشام” والتوقف عن المطالبة بإسقاط النظام وهو ما يمكن فهمه إعادة إنتاج للنظام مجددًا
كما أن حرف سلاح فصائل المعارضة من قتال النظام السوري إلى قتال “داعش” و”فتح الشام” يعطي ارتياحًا للنظام السوري الذي أبدى موافقته المباشرة على الاتفاق، إذ سيؤدي في نهاية المطاف إلى انحراف الهدف الرئيسي للثورة السورية من إسقاط النظام السوري الذي خرج لأجله السوريون منذ 6 سنوات إلى توظيف الفصائل المسلحة تحت أجندة إقليمية ودولية لقتال “التنظيمات الإرهابية”.
النظام يبدأ بالتقسيم الفعلي للبلاد
عمد النظام السوري في محافظة درعا جنوب البلاد إلى فرض ضريبة على المواد الغذائية والأساسية التي تدخل أو تخرج من مناطق المعارضة لمناطق سيطرة النظام في درعا عبر معبري خربة غزالة، وداعل (20 كيلومتر عن مدينة درعا)، فعلى حد زعم ناشطين فإن حواجز النظام وزعت لوائح على سائقي الشاحنات وأبلغتهم بأن القرار سيطبق قريبًا، في إشارة إلى اتفاقية “مناطق خفض التصعيد” التي شملت محافظة درعا، وأنه يتوجب على كل شاحنة تدخل أو تخرج من المعبرين دفع أموال وفق اللائحة المعتمدة لدى النظام.
لا تزال درعا المحطة تحت سيطرة النظام بالإضافة إلى أجزاء من ريف درعا، كما لا يزال النظام يسيطر على الطريق الرئيسي الواصل بين دمشق ودرعا، ولا يُخفي الأهالي هناك من الجانبين من خشيتهم أن هكذا خطوة ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وبالأخص في دمشق والسويداء حيث ترسل محافظة درعا يوميًا شاحنات محملة بالخضار والفواكه والحبوب إلى أسواق المدينتين لتصريفها.
يهدف النظام من خطوة فرض ضرائب على البضائع في درعا إلى جمع المزيد من الأموال عن طريق فرض رسوم على البضائع الواردة في الاتجاهين
إذ تعد درعا خزان الخضار والفواكه والحبوب للمنطقة الجنوبية برمتها والعاصمة دمشق وريفها، وترتبط درعا بدمشق من خلال الطريق الدولي والواقع تحت سيطرة النظام، والذي يعبر من خلاله الخضار والحليب واللحوم إلى دمشق ومناطق سيطرة النظام في درعا، في حين يسمح النظام بمرور المواد الغاذئية والألبسة إلى مناطق المعارضة.
يُذكر أن مناطق المعارضة والنظام في درعا ترتبطان مع بعضهما البعض بعدة طرق لمرور البضائع والمنتجات وهي طريق “أبو كاسر” في مدينة داعل الخاضع لسيطرة المعارضة وطريق “الغرية الغربية”، إلى جانب طرق أخرى لمرور السيارات والأشخاص كالطريق الذي يربط بين مدينة الصنمين وبين ريف درعا الشمالي الغربي.
يهدف النظام من هذه الخطوة إلى جمع المزيد من الأموال عن طريق فرض رسوم على البضائع الواردة في الاتجاهين، بالأخص بعد فشل النظام في السيطرة على معبر نصيب الحدودي القديم مع الأردن والذي تسيطر عليه المعارضة منذ أبريل/نيسان 2015.
ولا يمكن وصف هذه الخطوة التي تعد الأولى من نوعها في المحافظة إلا أنها ترمي لترسيخ التقسيم الحقيقي على الأرض، وفرض قواعد جديدة على مناطق المعارضة بغرض إذعان ساكني تلك المناطق لسلطة النظام والبالغ عددهم نحو 600 ألف، فما لم يستطع النظام إعادته بالقوة العسكرية يعيده بالتقسيم الذي سيرهق المواطن ويكبل معيشته، ويعيد الهيبة للنظام وربما بسط سيطرته على مناطق المعارضة أيضًا.