“راحت السكرة، وجاءت الفكرة..”؛ أصبح المثل الشعبي الأكثر تعبيرًا عن مرحلة ما بعد انتخاب أوزغور أوزيل رئيسًا لحزب الشعب الجمهوري (أقدم وأكبر أحزاب المعارضة التركية)، خلفًا لرئيسه السابق كمال كليجدار أوغلو، الذي تولى زعامة الحزب على مدى 13 عامًا.
ويواجه أوزغور أوزيل جملة من الملفات، ورغم أنه حدد موقفه تجاه بعضها في أوقات سابقة، لكن لا تزال رؤيته تجاه قضايا داخلية وخارجية في حاجة إلى مزيد من التوضيح، خاصة الإصلاحات الداخلية في حزب الشعب الجمهوري، والتعامل مع الحلفاء في المعارضة، وموقفه تجاه الأقليات، ونهجه في معالجة قضايا السياسة الخارجية، وفي القلب منها ملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وبات أوزغور أوزيل مطالبًا بحسم العديد من الملفات المفتوحة، التي فشل رئيس الحزب السابق، كمال كليجدار أوغلو، في التعامل معها بجدّية، أو ظلت في المنطقة الرمادية، بسبب حسابات ومواءمات سياسية تظللها علامات الاستفهام، وأهمها بالطبع الموقف من الإرهاب وقضية اللاجئين.
هذه التحديات تطرح نفسها الآن على أوزغور أوزيل، الذي بات يجلس على مقعد مؤسس حزب الشعب الجمهوري الراحل، مصطفى كمال أتاتورك، دون أن يرث “زعامته السياسية” المحكومة بمعايير كثيرة، حيث إنه والفريق النافذ داخل الحزب عليهما جملة استحقاقات سريعة تظهر أنهما الأحق بقيادة المرحلة.
وخلال المؤتمر العام لحزب الشعب الجمهوري رقم 38، لم يتفوق أوزغور أوزيل على كمال كليجدار أوغلو فقط، بل على قياديَّين أقل شهرة هما العضو السابق في مجلس الحزب أورسان أويمن، والنائب عن ولاية إسطنبول إلهان جيهانر، مرسّخًا شعار “التغيير” كعنوان للمرحلة الجديدة للحزب الذي يتجاوز عمره الـ 100 عام.
رؤية داخلية للحزب
حدد أوزغور أوزيل رؤيته الاستباقية لبعض الملفات الشائكة منذ إعلان ترشحه لرئاسة الشعب الجمهوري، عبر عناوين عريضة: “إعادة الحزب إلى مبادئ أتاتورك. رئاسة الحزب ليس سلطة، بل خطوة للوصول بالحزب إلى السلطة. التمسك بالهوية اليسارية ودورها في توفير حلول لمشكلات اجتماعية واقتصادية”.
يصرّ أوزغور أوزيل على “تغيير السياسات القديمة وكل من كان ضالعًا فيها، تفكيرًا وتخطيطًا وتنفيذًا، كونها أضرّت بالحزب ودفعت به إلى مربع الفشل، مع دعم تيار التغيير الذي تعوّل عليه القيادة الجديدة للحزب لتحقيق النجاحات، التي تعيد تقديم حزب الشعب الجمهوري للمشهد العام التركي، وتحسّن وضعه التنافسي”.
https://www.youtube.com/watch?v=XGhC02-gink
يرى أوزغور أوزيل أن حزب الشعب الجمهوري يواجه “أزمة هوية” بحكم تضارب الرؤية الاقتصادية والسياسات الاجتماعية، التي يتعارض بعضها مع الرؤية التي تأسّس عليها الحزب في سبتمبر/ أيلول 1923 بهويته العلمانية، وضرورة مبادرة الحزب بتصويب قراراته، وإعادة الشاردين من كوادره ومنتسبيه.
رؤية أوزغور أوزيل تتبنّى إعادة الثقة إلى منتسبي الحزب، الذي مُني بخسائر انتخابية رئاسية في عهد كليجدار أوغلو في أعوام 2014 و2018 و2023، ورغم المكانة التاريخية للحزب في تركيا فإنه لم يحصل على الأغلبية البرلمانية في أعوام 2015 و2018 و2023، وهو الحال نفسه في المحليات في عامَي 2014 و2019.
أولويات المرحلة الجديدة
سريعًا، بادر أوزغور أوزيل بتحديد أولوياته في خطابه الرسمي بعد الفوز برئاسة الشعب الجمهوري، حيث أعلن رفع حالة الجاهزية الحزبية والسياسية للتغلب على المعوقات التي تواجه الحزب، والاستعداد لمناقشة مشروع الموازنة العامة الجديدة في البرلمان، والتجهيز للانتخابات المحلية في 31 مارس/ آذار المقبل.
يؤكد أوزغور أوزيل أن عملية إعادة الاعتبار للحزب ستبدأ بهيكلة ملف العضوية، من أجل العمل على مدّ الجسور بين جميع منتسبي الحزب، وتمكين المرأة في مستوياته القيادية، على أن تكون الجمعية العامة للحزب مرجعية قراراته وسياساته، وفتح المجال أمام كل الآراء والمقترحات المعززة لفاعلية الحزب مستقبلًا.
يخطط أوزغور أوزيل لـ”رسم خريطة طريق جديدة للحزب، سياسيًّا واجتماعيًّا وانتخابيًّا”، خاصة أن استحقاق المحليات على الأبواب، تبدأ بعلاج ما يصفه بـ”التمزق العاطفي نتيجة أزمة الثقة داخل الحزب، وعدم مبادرة الإدارة السابقة -كليجدار أوغلو- بتحمل المسؤولية السياسية وعلاج ما حدث“.
تعتمد خطة العمل على الشركة المعنوية في قيادة الحزب، حيث يشبّه البعض علاقة القيادي في الحزب، رئيس بلدية إسطنبول أكمل إمام أوغلو، وأوزغور أوزيل بعلاقة رجب طيب أردوغان وعبد الله غول في بداية مشوارهما السياسي، ويرى مدير شركة متروبول للأبحاث، أوزار سانجار، أن “الحزب أمام متغيرات مهمة“.
وستكشف طريقة إدارة أوزغور أوزيل للحزب عن مدى انتهاء أو بقاء الإدارة الشخصية للحزب، ومدى الانتصار للوائح الداخلية وقيم الديمقراطية والعدل، الأمر الذي سينعكس على الالتحام مع مشكلات المجتمع وقضاياه المصيرية، في أجواء إقليمية شديدة الصعوبة والتعقيد.
التعامل مع الحلفاء
يشكّل ملف التعامل مع حلفاء المعارضة أحد أهم الاستحقاقات التي تواجه أوزغور أوزيل، الذي يعارض “التحالفات الحزبية غير المتوافقة مع أيديولوجية الحزب” وأنه “ما كان على الشعب الجمهوري خوض الانتخابات العامة تحت مظلة تحالف “الأمة”، وخسارة مقاعد برلمانية لإرضاء أطراف في التحالف”.
معظم أطراف التحالف الأكبر للمعارضة (الطاولة السداسية/ الأمة) تتبنّى النهج نفسه في الانتخابات المحلية المقبلة، فحزبا الجيد بزعامة ميرال أكشينار، والديمقراطية والتقدم برئاسة علي باباجان، قررا دخول المعركة “منفردَين”، ويتشكل تحالف ثنائي من “السعادة” و”المستقبل” بقيادة أحمد داود أوغلو.
ورغم عدم تحديد موقف الكيان السادس في التحالف (الحزب الديمقراطي)، فقد أصبح الجميع على قناعة بما توصّل إليه أوزغور أوزيل، من أن أحزاب تحالف “الأمة” دفعت ثمن تبايُن الرؤى وتعارُض الأيديولوجيات، ما كان له تداعيات سلبية خلال الانتخابات العامة في مايو/ أيار الماضي.
وعليه، ستكون عملية مدّ الجسور مع القوى الحزبية المعارضة شائكة جدًّا، كون ما بعد مايو/ أيار 2023 لن يكون كما قبله على صعيد التنسيق، في ظلّ ما تبديه معظم أحزاب المعارضة من مواقف لا ترحّب بالتحالفات المشتركة.
الحقوق والحريات العامة
رؤية أوزغور أوزيل للحقوق والحريات العامة كجزء من النقاش العام المرتبط بالتعديلات الدستورية الشاملة المدنية خلال الفترة المقبلة (المرحلة الأولى من المئوية الثانية)، ستسلط الضوء على ما إذا كان حزب الشعب الجمهوري يسير على الطريق الصحيح، أم لا يزال حبيس أفكار الماضي ولم يخرج منها حتى الآن.
ثمة الكثير من القضايا الاجتماعية من الأقليات والحجاب والزيّ الشعبي عمومًا، وملفات أخرى تحظى بالنقاش العام، فضلًا عن التشريعات المرتبطة بها، ستكون من محددات الحكم على أداء أوزغور أوزيل، بعدما أخفق كمال كليجدار أوغلو في عدم التوصل إلى نتيجة حاسمة تجاهها، رغم أهميتها على الصعيد الشعبي.
أيضًا، كيف سيتعامل أوزغور أوزيل غير المتسامح مع عدة قضايا، لا سيما اللاجئين ومطالبته بضرورة “إبعادهم”، فهو بحكم شراكته في قيادة حزب الشعب الجمهوري، تبنّى الخطاب المتشدد نفسه ضد اللاجئين (خاصة السوريين)، عبر لهجة تحريضية لا تراعي التداعيات المترتبة عنها، وتعارُضها مع تشريعات ولوائح محلية ودولية.
الحملات التحريضية ضد اللاجئين التي شاركت فيها قيادات حزب الشعب الجمهوري، بما فيهم أوزغور أوزيل، تعتمد على نسج سيناريوهات تخيُّلية تحاول تخويف المجتمع، خاصة خلال الحملات الانتخابية الدعائية، عبر المبالغة في الأساليب الشعبوية التي تخاطب الشرائح المتشددة في المجتمع التركي.
نعم، كان أوزغور أوزيل أقل حدّة من رئيس حزب النصر القومي المتشدد أوميت أوزداغ، الذي يتبنّى لغة تحريضية فجّة في التحريض على اللاجئين، فيما تعهّد الرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، بطرد ملايين المهاجرين، لكن فوز أردوغان أجهض تعهُّدات الزعيم العجوز.
من الداخل إلى الخارج
بالتأكيد سيكون على أوزغور أوزيل حسم رؤيته تجاه ملف الأكراد سياسيًّا وانتخابيًّا، وإعلان موقفه المناهض للإرهاب وأطرافه في الداخل والجوار، ومدى دعمه لآليات مجابهة الظاهرة الإرهابية التي تتبناها الدولة منذ سنوات، وما إذا كان الحزب سيضيف إليها ما يعززها من أفكار.
ولأن السياسة الخارجية والعلاقات مع الجوار من المحددات المهمة، فإن رئيس حزب الشعب الجمهوري مطالب بإبداء رؤية الحزب تجاهها، خاصة أنه يعلم أن هذه الملفات هي التي أسهمت في تقديم أردوغان لمنطقة الشرق الأوسط، عبر مواقفه المعبّرة عن سياسات بلاده وأهدافها القومية.
وفيما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يعارض أوزغور أوزيل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بعدما قال: “اللعنة على الغارات الإسرائيلية التي تسبّبت في استشهاد فلسطينيين”، لكنه يرى أن “مهمة قيادة المجتمع الدولي لإحلال السلام في فلسطين والشرق الأوسط ومنع إزهاق مزيد من الأرواح، تقع على عاتق تركيا”.
استحقاقات شخصية وعامة
التغيير الحاصل في قيادة حزب الشعب الجمهوري، بعد أكثر من 13 عامًا من بقاء كليجدار أوغلو في رئاسة الحزب العتيد، وانتصار أوزغور أوزيل (كحالة وليس كشخص)، يوضّحان أن المشهد السياسي التركي أمام حالة ديناميكية، تصبّ في مصلحة العمل السياسي والحزبي في البلاد.
وأصبحت الكرة في ملعب حزب الشعب الجمهوري (كمعظم الأحزاب الوازنة في السلطة والمعارضة)، عبر السير في طريق التجديد والتحديث الفاعل الذي يتغلب على تناقضات الماضي، ويجدد شباب التجربة الحزبية التي بات عمرها من عمر الجمهورية نفسها، سواء في إدارة الممارسة الديمقراطية أو مجابهة تحدياتها.
سيكون على أوزغور أوزيل والتيار الداعم له داخل الحزب تحديد الخطوط العريضة للمبادئ الأساسية والنهج العام، وإعادة الثقة للحزب خلال الفترة الانتقالية ضمن برنامج محدّث يحوّل الشعارات إلى أفعال وممارسات، حتى وإن ترك التفاصيل للدوائر الأكثر تعبيرًا عن الممارسة الديمقراطية داخل الحزب.
ستعبّر جهود إضفاء الطابع المؤسساتي وعملية اختيار مرشحي الحزب في انتخابات المحليات المقبلة، عن مدى انتصار الموضوعي على الذاتي، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الضيّقة، وهو أمر يتحتم اختيار الأسماء الأكثر تأهيلًا وجاهزية وقدرة على التعبير عن رسالة مرحلة التغيير، وتسويقها في الولايات التركية الـ 81.
وإذا لم يجدد أوزغور أوزيل لغة خطابه وطريقة تعاطيه برؤية واضحة ورصانة كبيرة مع كل الملفات الداخلية والخارجية، على عكس بعض مواقفه في الماضي القريب، ومعاركه مع طواحين الهواء، فسيكون التغيير الذي تم في قيادة الحزب مفرغًا من مضمونه، وسينزلق به إلى معارك جانبية تعطّل مسيرته الشخصية والرسمية.
يرتبط ذلك بتصريحات سابقة خلال رئاسة أوزغور أوزيل للكتلة البرلمانية لنواب حزب الشعب الجمهوري في البرلمان، تعبّر عن لغة شعبوية تثير الجدل وتسهم في الانقسام الاجتماعي، حيث هاجم دورات حفظ القرآن الكريم التي أطلقتها رئاسة الشؤون الدينية التركية للأطفال تحت سن الـ 6 سنوات.
أيضًا معاركه قبل الفوز برئاسة الحزب التي جلبت له العديد من المشكلات وسهام النقد، وقادته إلى دواوين المحاكم، فهو لا يكنّ الودّ للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتشهد بذلك الدعاوى القضائية التي حركها أردوغان ضده، ودفعه للعديد من الغرامات المالية بعد ثبوت الاتهامات عليه.
بالتأكيد لن تكون انتخابات المحليات (البلديات) اختبارًا حقيقيًّا له، في ضوء الفترة الوجيزة المتبقية على تاريخ 31 مارس/ آذار المقبل، لكن إدارة تلك الفترة على نحو ينشط دوائر العمل داخل الحزب ويفعّل آلياته الداخلية ويمنح حرية حركة لكوادره (على كل المستويات)، سيعكس مدى التغيير وتداعياته.
الاقتصاد وكيفية النهوض بقطاعاته الزراعية والصناعية والسياحية، والتعاطي مع مشكلات أخرى مثل البطالة والتشغيل والأسعار والتضخم، سيوضّح الرؤية العملية لأوزغور أوزيل، كون البرامج الإنشائية التي كانت من سمات المرحلة الماضية، توضّح أن الحزب لم يقدّم الطرح البديل الكفيل بإقناع الرأي العام.
ومع ذلك حاول كليجدار أوغلو، بعد هزيمته في الانتخابات الداخلية، إبراء ذمته، قائلًا: “حملت إرث قائدنا العظيم مصطفى أتاتورك بشرف، ومع القرار الذي اتخذه مندوبونا في المؤتمر، أودّع منصب الرئيس. أشكر كل من دعم نضالنا حتى الآن. أهنِّئ رئيسنا الجديد أوزغور أوزيل الذي تم انتخابه رئيسًا، وأتمنى له النجاح”.