بينما يمارس جيش الاحتلال إبادة جماعية على قطاع غزة برًّا وبحرًا وجوًّا، في عدوان متواصل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تحدث في الضفة الغربية حرب من نوع آخر يقودها المستوطنون من جهة وجيش الاحتلال من جهة أخرى، تمتد من شمال الضفة إلى جنوبها وتستهدف الجميع، من الطفل الرضيع إلى المسن، إناثًا وذكورًا.
يمكننا تقسيم التصعيد في الضفة الغربية إلى قسمَين، الأول تقوده دولة الاحتلال بجيشها من خلال الإغلاقات والاعتقالات والقتل، تحت راية “حالة الطوارئ” التي أعلنها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، ولم تختلف في أشكالها عمّا كان قبل الطوفان، إلا أنها أصبحت أكثر عنفًا واستعارًا، والقسم الثاني يقوده المستوطنون بدعم وحماية من حكومة الاحتلال، وقد بدأوا حرب “النكبة الكبرى” كما يسمّونها.
وحتى لحظة كتابة هذه المادة، ارتقى 154 شهيدًا في الضفة المحتلة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وأُصيب أكثر من 2200 فلسطيني على امتداد الضفة، حتى المناطق التي كانت تشهد تماسًّا أقل مع الاحتلال قبل العدوان، باتت تشكّل بؤرة ساخنة لا تقلّ عن المدن الأخرى.
المستوطنون يقودون الهجوم
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، زادت أنياب المستوطنين المكشرة مسبقًا بشكل صامت ضد الفلسطينيين، وشرع نحو 726 ألفًا و427 مستوطنًا في الضفة الغربية موجودين في نحو 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية، في تنفيذ هجوم واسع ومسلح ضد الفلسطينيين، من قتل واعتداءات وخطف وقطع أشجار واعتداء على الممتلكات.
فمنذ بداية الحرب، وثّقت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان ما يزيد عن 400 اعتداء نفّذه المستوطنون في الضفة، استشهد خلالها 9 فلسطينيين برصاصهم، 6 منهم في قرية قصرة قضاء نابلس خلال 24 ساعة، وشهيد في رام الله، وآخر أثناء موسم الزيتون -أحد المواسم الرئيسية للفلسطيني- في نابلس.
ونشرت صحيفة “هاآرتس” عن قيام مجموعة “شبيبة التلال” ومستوطنين آخرين برفقة جنود الاحتلال، باحتجاز 3 فلسطينيين وتعذيبهم لساعات بعد تجريدهم من ثيابهم حتى ملابسهم الداخلية، وتبولوا على اثنين منهم وأطفأوا السجائر المشتعلة بأجسادهم، في وادي السيق في الضفة.
يترافق الهجوم ضد الفلسطينيين في الضفة مع حملة تحريض واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، يتناول فيها المستوطنون صور نشطاء وصحفيين، ويعلنون أنهم الهدف القادم، إحدى هذه المجموعات أطلق عليها المستوطنون اسم “صيادو النازية”، وحددوا فيها أماكن سكن المستهدَفين وأرقام هواتفهم، تبعها إرسال رسائل تهديد وصلت إلى أكثر من 270 رسالة يتوعّدون فيها بالقتل.
ولم يكتفِ التحريض على أشخاص بعينهم، بل طال أيضًا محلات تجارية، تداول المستوطنون بينهم منشورات لهذه المحلات تبارك عملية المقاومة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ثم يحشد المستوطنون أنفسهم للتجمع أمام هذه المحلات، ويدمّرونها ويحرقونها أو يغلقونها، ترافقهم جرافة عسكرية لجيش الاحتلال وجنود مشاة لحمايتهم، وتكرر الأمر في بلدة حوارة جنوب نابلس، حين أحرقوا مخبزًا ثم هدموه، وأغلقوا محلَين في بلدتَي سلواد وبيرزيت قضاء رام الله، وحرقوا متجرًا في قلقيلية.
هذه الضفة، التي كانت خالية تمامًا من المستوطنات عام 1967، تشكّل حاليًّا المستوطنات الإسرائيلية ما نسبته 42% من مساحتها، وتمّت السيطرة على 68% من مساحة المنطقة “ج” لمصلحة المستوطنات، ويعمل المستوطنون على إعداد الكمائن للإيقاع بالفلسطينيين في الطرق، وإطلاق النار على سياراتهم وعرقلة حركتهم.
“النكبة الكبرى”
لا تقتصر اعتداءات المستوطنين على قتل الفلسطينيين وممتلكاتهم، بل بدأ مخطط آخر أطلق عليه المستوطنون اسم “النكبة الكبرى” بالظهور، حيث وصلت تهديدات إلى مزارعين فلسطينيين من قرية دير إستيا غربي سلفيت شمالي الضفة الغربية، بأن عليهم مغادرة البلاد إلى الأردن، تحتوي على نص تهديد جاء فيه: “إذا أردتم نكبة مثيلة لنكبة 1948 فوالله ستنزل على رؤوسكم الطامة الكبرى قريبًا، لديكم آخر فرصة للهروب إلى الأردن بشكل منظَّم، فبعدها سنجهز على كل عدو وسنطردكم بقوة من أرضنا المقدسة التي كتبها الله لنا”.
والأمر لم يقف عند التهديد فحسب، بل انتقلت إلى المرحلة الفعلية للتنفيذ، إذ أسفرت هجمات المستوطنين عن تهجير 1084 فلسطينيًّا من منزله، تحت وطأة الاعتداءات المستمرة والمباشرة، خاصة في التجمعات البدوية، إذ هجّر المستوطنون أكثر من 9 تجمعات فلسطينية بدوية منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تتكون من 100 عائلة، من أماكن سكنها إلى أماكن أخرى.
ودمّر المستوطنون أكثر من 712 شجرة، وخربوا مساحات شاسعة من الأراضي، وقطعوا طرقات، واعتدوا على منازل وممتلكات، تحت حماية الجيش الإسرائيلي، وتسبّبت اعتداءاتهم في تهجير 250 فلسطينيًّا في قرية زنوتا جنوب الخليل في الجنوب من الضفة الغربية.
ولا بدَّ لنا من الإشارة إلى حملة التسليح الواسعة التي يقوم بها وزير أمن الاحتلال إيتمار بن غفير، والذي يسلح فيها جميع المستوطنين في الضفة الغربية لإطلاق النار على الفلسطينيين، وعدم انتظار شرطة أو جيش الاحتلال عند وقوع الأحداث، بل أن يكون كل مستوطن هو جندي بذاته.
إغلاقات ومنع حركة
أما جيش الاحتلال فيمارس الدور الآخر من عمليات القتل والاعتقالات والتعذيب بحقّ الفلسطينيين، ويغلق الضفة الغربية بكل سهولة بعد أن قطع أوصالها إلى 3 مناطق: “أ” و”ب” و”ج” وفقًا لمعاهدة أوسلو عام 1993، تُقسَم المنطقتان “أ” و”ب” التابعتان للسلطة الفلسطينية إلى 166 وحدة معزولة من الأراضي دون اتصال إقليمي يسهل إغلاقها، وتحيط بهما أراضي منطقة “ج”، وهي تتمتع باتصال جغرافي لكنها تخضع للسيطرة الإسرائيلية.
فمنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حوّل الاحتلال الضفة إلى ما يشبه “المعازل”، فأغلقت قواته معظم الحواجز العسكرية بالضفة، وإغلاق البوابات الموضوعة مسبقًا على مداخل المدن والقرى والتجمعات الفلسطينية ووضع السواتر الترابية، مع إبقاء منفذ واحد أحيانًا للمدينة أو القرية، ونشر المزيد من القوات على نقاط التماسّ وفي المراكز العسكرية، كما أغلق الحواجز الحدودية الواصلة بين الداخل المحتل والضفة الغربية، وأغلق المعابر الحدودية بين فلسطين والأردن.
ويستخدم جيش الاحتلال الرصاص الحي والقصف بطائرات مسيّرة لقتل الفلسطينيين في الضفة الغربية، خاصة في مخيمَي جنين ونور شمس، اللذين تعرّضا لقصف من طائرات الاحتلال المسيّرة، وواجها الاقتحامات الأعنف في الضفة الغربية منذ بدء العدوان، فارتقى 26 شهيدًا في جنين، و24 شهيدًا في مدينة طولكرم منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
وقد وسّع الاحتلال من أمر إطلاق النار على الفلسطينيين دون أي تردد، فأطلق الاحتلال النار على السيدة رندة عجاج خلال ركوبها السيارة رفقة ابنها، فارتقت شهيدة وأُصيب ابنها بجروح، وأطلق النار على الشاب يزن شيحة أثناء عمله في وزارة النقل والمواصلات خلال اقتحام مدينة البيرة فارتقى شهيدًا، وفي طولكرم استهدف القصف مجموعة أطفال فارتقوا شهداء، في مجزرة ارتقى خلالها 11 شهيدًا في ذلك الاقتحام لمخيم نور شمس.
وعمد الاحتلال إلى تدمير البنية التحتية في جنين طولكرم، حيث نفّذ سلسلة اقتحامات عمل خلالها على حفر الشوارع وتدمير شبكات المياه والهواتف والصرف الصحي والكهرباء، كما هدمت آليات الاحتلال جميع الميادين العامة والنصب التذكارية، ومنها مدخل مخيم جنين، وحصان المخيم، وفجّر محالًا تجارية، وحطّم مركبات خاصة.
وخلال الإغلاق الذي يفرضه الاحتلال في الضفة، مارس حملة تعذيب وإهانات واسعة بحقّ الفلسطينيين على الحواجز العسكرية بين مدن الضفة، وبين المدينة والقرى في المحافظة الواحدة، من خلال إنزال الفلسطينيين من مركباتهم، وخلع ثيابهم وإخضاعهم لعمليات تفتيش مهينة، وإيقاف تحت الشمس لساعات، قبل أن يفرج عنهم.
ويمثل الشهيد وسيم حسن عياش من بلدة رافات غرب سلفيت، أحد أبرز حالات التعذيب ضد الفلسطينيين على يد قوات الاحتلال، فبعد أن فقدت عائلته آثاره، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، يبلغ الجيش عائلته، في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، بعد يومَين من فقدانه، أن ابنهم شهيد لديه، وقد ظهرت علامات التعذيب واضحة على جسده.
اعتقالات وحشية واسعة
على مدى الأيام اللاحقة لـ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، شنَّ الاحتلال حملات اعتقال واسعة تجاوز عددها حتى صبيحة الثلاثاء 2150 معتقلًا حتى لحظة كتابة التقرير، وفقًا لبيانات نادي الأسير، من بينهم 145 طفلًا وأكثر من 58 من النساء.
ووفق شهادات معتقلين خلال حملة الاعتقالات أُفرج عنهم، لوحظ تزايد وحشية الجنود بشكل واضح خلال عمليات الاعتقال وعلى الحواجز، حيث تعرّض المعتقلون للضرب الشديد وتكسير العظام، واستشهد أسيران منهم، فضلًا عن تحطيم محتويات منازل المعتقلين وممتلكاتهم وتخريبها وتهديد أصحابها بالقتل، كما تكرر اعتقال أقارب المستهدفين بالاعتقال وأمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم إلى حين تسليم أنفسهم.
ولا يخفي ضابط مخابرات الاحتلال سرًّا عن التصريح بأن المعتقلين هم دون تهمة، سوى الرد على عملية حماس في قطاع غزة، وبالفعل حول 904 منهم للاعتقال الإداري دون تهمة أو محاكمة، بل كان قرار الاحتلال مسبقًا بتفعيل الاعتقال الإداري لأغلب المعتقلين.
ويرتبط اعتقال الاحتلال للفلسطينيين بحملات التحريض التي يشنّها المستوطنون، مثل ما حدث مع الصحفية سمية الجوابرة التي حرضت عليها مجموعة “صيادو النازية”، فاعتقلتها قوات الاحتلال وهي الأمّ لـ 3 أطفال، وحامل في الشهر السابع، و الأمر ذاته حدث مع مرابطة الأقصى خديجة خويص، ومع الكاتبة لمى خاطر من الخليل، وغيرهن الكثير من الذين وردت صورهم على هذه المجموعة التحريضية.
وبحسب حسان عبادي محامي لمى خاطر، التي اُعتقلت فجر 26 أكتوبر/ تشرين الأول، فإنه تمكّن من زيارتها بعد اعتقالها العنيف، وأنه ينقل عنها ما ترويه أنه بعد اعتقالها اقتادها الاحتلال لمعسكر كريات أربع في الخليل، وهدّدها الضابط: “معي 20 جندي، بدنا نغتصبك مثل ما جماعتك اغتصبوا بناتنا”، وأضاف: “بدّي أعتقل أولادك وأحرقهم”، هدّد كل الوقت قائلًا: “أنتم أسرى حرب وبطلعلنا نعمل فيكم شو بدنا”.