تقدير العالم للجمال معكوس على الأشياء المادية الحسية والمعنوية على حد سواء، لكن العالم لا يزال يختلف في تحديد مفاهيم الجمال ومقاييسه، لذلك لا توجد قاعدة عامة واحدة تسن المقاييس لما هو جميل، وبذلك فإن مفهوم الجمال يتغير من إنسان إلى آخر، وهذا التغير مبني على عوامل وأساسيات عدة.
البعض يرى أن الجمال هو شعور نابع من الداخل والبعض الآخر يعتقد أن الحكم على الجمال مبني على أساس المزاج والحالة النفسية، يقول الفيلسوف الألماني جورج هيجل: “إن الجمال في الطبيعة لا يظهر إلا كانعكاس للجمال الذهني”، أيضًا يقول فيكتور باش فيلسوف وسياسي فرنسي: “إننا لا نستجمل العالم وكائناته إلا بمقدار ما في أنفسنا من جمال”، هذا الفريق من المفكرين يرى أن الجمال هو جمال الناظر وجمال ما بداخله وينكر الجمال المستقل للأشياء وللطبيعة.
أما القسم الآخر فإنهم يرون أن الجمال مستقل وقائم بحد ذاته ولا يتأثر بالمزاج، في النهاية يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “الجمال هو قانون دون قانون” لتكون مقولته خاتمة هذا الجدل.
كيف رأى فلاسفة العرب الجمال؟
أبي نصر الفارابي
يعتقد أن الجمال مشترك بين جميع الموجودات فقال: “إن كل موجود إنما كوّن ليبلغ أقصى الكمال الذي له أن يبلغه بحسب رتبته في الوجود التي تخصه”، والكمال هو أصل للجلال والجمال، وذلك لأن كمال الشيء هو الذي يجعله جليلًا أو جميلًا وافتقاده يجعله قبيحًا.
أبي حيان التوحيدي
أوائل الفلاسفة العرب الذين حاولوا أن يجدوا مفهومًا ومقياسًا للجمال، في كتابه “الهوامل والشوامل” يتساءل أبو حيان عن أسباب جمال صورة معينة، فهل هي حالة نفسية أم عقلية أم طبيعية أم مزيج من هذا كله؟ بعد التفكير والتحليل الطويل يستنتج التوحيدي أن التذوق الجمالي يخضع لعاملين أساسيين:
أولًا عامل اعتدال المزاج والحالة النفسية لدى الناظر، فبرأيه أن النفس هنا تقوم بجعل الطبيعة موافقة لرغبة النفس، وعامل آخر هو إدراك الجمال وهذا ما يُذكر بأرسطو ونظرته للجمال عندما قال “لا يمكن لكائن أو شيء مؤلف من أجزاء عدة أن يكون جميلًا إلّا بقدر ما تكون أجزاؤه منسقة وفقًا لنظام ما، ومتمتعة بحجم لا اعتباطي، لأن الجمال لا يستقيم إلا بالنسق والمقدار”، فالجمال عند أرسطو يكمن في مظهره الأكمل.
يشير التوحيدي إلى خمسة عوامل تساهم في إظهار الفلسفة الجمالية للشيء وهي العنصر الطبيعي أو الأساس الحسي، ويقول إن الجميل قد يكون جميلًا بحكم تكوينه الطبيعي، إضافة إلى العنصر الاجتماعي الذي يجعل الناس في المجتمع يتفقون على نوع واحد من الجمال، بجانب ذلك العنصر العقلي والذي يجعل الشيء جميلًا لأن الدين أشار إلى ذلك، وأخيرًا عنصر الغريزة بأن يصف الإنسان شيئًا ما بالجميل لأنه يلبي الرغبة في ذاته.
أبي حامد الغزالي
حدد للجمال نوعان: الجمال الظاهر وهو من شأن الحواس، والجمال الباطن وهو من شأن البصيرة أو عين القلب والتي من حرمها فقد حرم التلذذ بالجمال الحقيقي، حيث يعطينا أمثلة عن مدركات الحواس، فيرى أن لذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور الحسنة، ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة، ولذة الشم في الروائح الطيبة، ولذة التذوق في الطعام الشهي، ولذة اللمس في اللين والنعومة.
بماذا يدين العالم للحضارة الفرعونية؟
الجذور الاجتماعية والبيئة المحيطة والثقافة السائدة أهم العوامل في تحديد النماذج العامة للجمال، اهتم العرب بصورة كبيرة بجمال المرأة والخيول أيضًا كان لها نصيب، وعبرت الحضارات العربية القديمة عن هذا الجمال عن طريق نقش الرسومات على المتاحف والمعابد وكتابة الأشعار والتفنن باستخدام اللغة في وصف ومديح مواطن الجمال.
اهتمت الحضارة المصرية القديمة بالجمال ويعتقد أنها من أبرز الحضارات المصدرة لهذا المفهوم، إذ إن موروثها كبير وامتلكت أسرارًا لها علاقة بالجمال لا تزال تستخدم حتى الآن، فقد استطاع الإنسان الفرعوني أن يسجل أحداث وعادات حياته القديمة من خلال النقوش على المعابد، فقد استخدم الحفر الغائر والبارز بروزًا بسيطًا حتى لا تتعرض للضياع والتشويه، إذ إنها كشفت عن الاهتمام والإبداع الكبير للفراعنة في مجال الجمال والعمارة والفن.
إن راقصات المعبد كن رشيقات القوام ويحافظن على تناسقهن الجسدي، أما الملوك القدامى يلاحظ من صورهم المنقوشة أنهم كانوا يمشون مرفوعين الرأس ويتحركون بطريقة معينة لإبراز عضلاتهم في أثناء المشي
بينما كان الرجل المصري القديم يمارس مهن الزراعة والصيد والبناء، ابتكرت نساؤهن طرقًا لإبراز جمالهن وذلك كما هو واضح في الرسومات الفرعونية أن المرأة المصرية القديمة كانت تستخدم أدوات تجميلية كالكحل الأسود لإبراز جمال عينيها واللون الأحمر لتوريد وجنتيها وطلاء أظافرها، كما اشتهرت بالروائح الطيبة والعطور التي استخرجتها من زهور اللوتس، فقد كانت كليوباترا مشهورة بالاغتسال بالحليب والعسل وباستخدام نبتة الطيب التي كانت تضعها فوق رأسها لتتعطر لحظة بلحظة.
بجانب ذلك، استطاعت المرأة في العصر الفرعوني أن تصنع أمشاطًا ودبابيس لتستخدمها في تسريح وتصفيف شعرها، بالإضافة إلى صبغات الشعر، لتكون النموذج الأمثل للجمال في العصور القديمة.
تظهر النقوش الفرعونية القديمة أن راقصات المعبد كن رشيقات القوام ويحافظن على تناسقهن الجسدي، أما الملوك القدامى يلاحظ من صورهم المنقوشة أنهم كانوا متناسقي البدن ويمشون مرفوعين الرأس ويتحركون بطريقة معينة لإبراز عضلاتهم في أثناء المشي.
كليوباترا ونفرتيتي نموجان للجمال في العالم
من الشائع أن كليوباترا ملكة مصر القديمة كانت بارعة الجمال، فقد أشعل سحرها حروب وأنهى حضارات، لكن الحقائق التاريخية تقول عكس ذلك، إحدى المنحوتات القديمة تظهر صورة دقيقة لملامح وجه كليوباترا الحاكمة الأشهر في تاريخ مصر، إذ يصفها المؤرخون بأنها امرأة ذات أنف معكوف وشعر مجعد وذقن دقيقة، وتفتقد لملامح الجمال إلا أنه لا شك أن جمالها كان في عقلها، فقد كانت تعرف سبع لغات وحادة الذكاء، ومع ذلك فكانت الأشهر في استخدام أدوات الزينة والتجميل ولذلك شاع صيت جمالها الزائف لاهتمامها الزائد بمظهرها.
الملكة المصرية التي اشتهرت بأناقة جمالها، نفرتيتي، ومعنى اسمها “الجميلة وصلت” ويقول المؤرخون إن هناك تأنُق في ملامح وجه نفرتيتي، تقاسيم وجهها تبدو متناسقة ودقيقة، فلديها جبهة واسعة وعينان بارزتان ووجنتان جميلتان.
بعيدًا عن الحضارة الفرعونية والمنحوتات التي روت تاريخ الجمال لهذا العصر، اشتهر العرب عمومًا بقصائدهم ومعلقاتهم التي تتغزل وتصف الجمال الجسدي والأخلاقي أيضًا للمرأة، حتى إن النساء في ذاك الوقت كن يسمين بصفات جمالية مثل اسم عبلة والذي يعني المرأة ممتلئة الساقين وغيره من الأسماء التي تصف صاحبة الاسم.
كانت البيئة الصحراوية الجافة لها أثر في التشبيهات الجمالية للعرب في أشعارهم وذلك ما جعلهم غالبًا ما يصفون المرأة بـ”القمر” بما أن السماء في الصحاري تكون خالية وصافية من الغيوم، ليبقى القمر واضحًا مضيئًا في عرض السماء.
أشهر الأبيات الشعرية التي وصفت المرأة العربية بجمال القمر:
فانظر
يا من يسائل عن فوز وصورتها
إن كنت لم ترها فانظر إلى القمر
كأنما كان في الفردوس مسكنها
فجاءت الناس للآيات والعبر
(عباس بن الأحنف)
شعاعها
رأيتها مرة ونِسوَتَها
كأنها من شعاعها القمر
يمشين في الخز والمراحل أن
يعرف آثارهن مقتفر
يدنين من خشية العيون على
مثل المصابيح زانها الخمر
(عمر بن أبي ربيعة)
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لم تجف طولًا ولا أزرى بها القصر
غراء كالقمر المشهور حين بدت
لا غروَ بل مثلها حين استوى القمر
(بشار بن برد)
من يحدد مفهوم الجمال في وقتنا الحالي؟
من يملك سلطة التحكم بمقاييس العالم الجمالية هي السينما الأمريكية الحديثة أو الجمال الهوليودي الذي يحدد للعالم أكمله ما هو جميل ويهديه نمط واحد من الجمال من حين إلى آخر بهدف الترويج لنوع معين من الجمال أو لتغيير أو تمكين بعض الصور النمطية السائدة في العالم.
نجح الإعلام نجاحًا لا مثيل له في نشر ثقافة جمال معين لشعوب العالم حتى وإن كان النمط الجمالي هذا يخالف طبيعتهم أو مظهرهم الأصلي، مثلًا عمل الإعلام على ترويج العيون الكبيرة الواسعة لشعوب جنوب شرق آسيا المعروفين بالعيون الصغيرة الضيقة، مما جعل هذه الشعوب تتجه لعمليات التجميل التي روجت لها من خلال أفلام أو مسلسلات الأنمي أو الإعلانات التجارية.
أما العولمة فقد اعتنت باختلاط وامتزاج شعوب العالم مما زاد من فرصة ظهور أنواع مختلفة وجديدة من الجمال في العالم مثل الجمال الإفريقي واللاتيني والعربي البدوي، لذا أصبح من الصعب تضييق أو حصر الجمال في نمط محدد أو ملامح معينة أو شعب واحد.