كتبت امرأة من سكان “بيتاح تيكفا” (أولى المستعمرات الإسرائيلية في أرض فلسطين منذ 1878) سنة 1946 والتي قَدِمت للبلاد من ألمانيا وقدمت طلبًا للتبني، أنها تريد طفلاً “أشكنازيًا أو يمنيًا أبيض”، كما طلبت أن يكون ذا “حس فني”.
أما البولندي وزوجته النمساوية فقد طلبا تبني “طفلة بصحة سليمة، وإن كان هناك إمكانية يفضل أن تكون ذات أصول أوروبية”، أما مواطن آخر وهو نجار ولد في البلاد وقدِمت زوجته من رودوس، فقد طلبوا تبني طفلة من أصل إسباني، وبعدها بسنوات، أي في 1955، طلبت سيدة تعمل ممرضة قدِمت من النمسا لتعمل في مستشفى “بتل أبيب” أنها تريد تبني طفل ليس شرقيًا، لكن زوجها مع ذلك أقر بأنه “مستعد لقبول أي اقتراح”.
كانت تلك الفقرة مترجمة من قبل فريق موقع “العساس“، وهو موقع مختص بالترجمات العبرية للعربية، نقلًا عن موضوعها الأصلي بالعبرية على الصحيفة الإسرائيلية “هآرتس” بعنوان “قصص من سوق التبني في إسرائيل”، فهل سمعت عن سياسة التبني المتبعة من قبل دولة الاحتلال، والتي كانت جزءًا لا يتجزأ من أيام إسرائيل الأولى؟
نعود إلى أصل الحكاية من بدايتها، بين عامي 1945 وعام 1948 وصل إلى إسرائيل أكثر من 50 ألف يهوديًا من اليمن، ليكون موطنهم الجديد تجمعات المهاجرين الجدد، وهي التجمعات التي كانت مركزًا ليهود الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لم يدم الوقت طويلًا حتى ازداد عدد المهاجرين في تلك التجمعات، فكانت مكانًا لولادة يهود جدد على أرض وطنهم الجديد، كانت المستعمرات محلًا لميلادهم، ولكن لم يلبثوا كثيرًا فيه.
بين عامي 1945 وعام 1948 وصل إلى إسرائيل أكثر من 50 ألف يهوديًا من اليمن
لقد كان هؤلاء المواليد الجدد ضحية لكذب من تبنوهم، كما كانوا ضحية لكذب السلطات الرسمية، وليس لسنوات معدودة، بل لعقود كاملة مضت، بل وربما لم يكتشف الكثير منهم أنهم ضحية للكذب حتى الآن، فما قصة هؤلاء المواليد؟
نقل يهود اليمن من عدن إلى “إسرائيل” في عملية “بساط الريح”
خطف أطفال اليمن
في أثناء قيام دولة الاحتلال في سنواتها الأولى، تعرض أطفال المهاجرين اليهود من الشمال الإفريقي والشرق الأوسط لمحاولات مختلفة من الخطف أو التبني غير القانوني، لتختلف القصص والأسباب المُختَلقة عن تلك المسألة ولكن النتيجة واحدة، وهي خطف الطفل من عائلته المهاجرة، وبيعه مقابل المال، ليكون جزءًا من تأسيس الدولة الصهيونية.
كان الهدف المزعوم من نقل الأطفال الرضع حديثي الولادة والأطفال الصغار من تلك التجمعات هو للمحافظة على صحتهم، وحمايتهم من ظروف التجمعات البيئية الصعبة، وللمحافظة عليهم من الأمراض المنتشرة بسبب صغر سنهم، إلا أنه لم يُسمح لوالديهم برفقتهم، ليأتي المسؤولين فيما بعد حاملين خبر موت الأطفال في المستشفى.
لا يكون للطفل شهادة وفاة مسجلة، ولا فرصة لأهله بأن يروا جثته ويدفنوه بأنفسهم، وهو ما أثار شك الكثير من الأهل، والذين حاولوا تعقب اختفاء أطفالهم، خصوصًا بعدما مُنعوا من رؤية الجثة أو الحصول على إثبات رسمي بالوفاة وأسبابها.
اعترض كثير من الأهالي، وكانت اعتراضات بعضهم حادة وعنيفة نتج عنها ظهور الطفل فجأة بعد أن تم إخبارهم بموته، بينما كان الأغلب في عداد الموتى لدى أهلهم، لكنهم أصحاء أحياء مع العائلة المستقبِلة.
لم يكن للأطفال المتبنين والمباعين لعائلات يهودية سجلات تثبت هويتهم ومحل ميلادهم قبل التبني، وهو ما لا يترك فرصة جيدة أمام عائلته للبحث والتقصي عنه سوى بملامحه التي حتمًا ستكون جزءًا من الذاكرة فقط بعد أن يكبر في أحضان عائلته اليهودية الجديدة.
قصة أحد الأطفال المختطفين
جيل غرونبوم مع عائلته اليهودية غير الأصلية
نشر موقع الجزيرة قصة أحد الأطفال المختطفين بعد مرور عقود على اختطافه، وهو “جيل غرونبوم”، والذي كانت حياته لمدة 40 سنة كاملة مجرد كذبة، فلم يكن الابن الوحيد للأثرياء اليهود الناجين من محرقة الهولوكوست ويمتلكوًا مصنعًا لثياب الأطفال في تل أبيب، بل كان طفلًا لمهاجرة يهودية من تونس، حيث سُرق في الخمسينيات من القرن الماضي بعد ولادته بلحظات.
قال “غرونبوم” بأن لحظة اكتشافه حقيقة أنه طفل لعائلة عربية كانت صادمة، فكل فرد كان يحبه من عائلته الإسرائيلية كان يكذب عليه لعقود، بل وكذبت عليه السلطات الرسمية أيضًا، لتضع أمامه كل ما تقدر عليه من عوائق في سبيل إثباته بيولوجيًا بأنه سُرق من عائلته الحقيقية.
هل تغافل المجتمع الدولي عما حدث؟
كانت عملية خطف الأطفال في يد جهات مختلفة، بعضها جهات مسؤولة عنها، وبعضها جهات تغافلت عنها، والبعض الآخر أخذ على عاتقه مسؤولية التحري والكشف عنها، من أجل التنقيب عن الأطفال الضائعين، ومن أجل محاسبة من تسبب أو تغاضى عن تلك الحادثة.
كانت ردة الفعل الدولية مخجلة، وخصوصًا من الجانب الأوروبي والأمريكي، الذي كان رأيهما أن قيام إسرائيل في الأساس هو حق واجب رد اعتباره لليهود لما عانوه من آلام جراء محرقة الهولوكوست، ولأنهم فقدوا الكثير من أفراد عائلتهم في تلك الأيام، فلم لا يكون لهم حق تبني ما رغبوا من أولاد!
ما كانت تفعله العائلات المستقبلة للأطفال هو ملء استبيانات بعنوان “استبيانات للعائلات طالبات للتبني”، وهي واحدة من بين 200 ألف وثيقة نشرت عن قضية اختفاء الأطفال اليمنيين، والتي رفعها أرشيف الدولة قبل أشهر على الإنترنت بحسب موقع “هآرتس”، فنقلًا عن ترجمة موقع “العساس” من العبرية، فإن الوثائق التي وجدت بالأرشيف الصهيوني لها علاقة بمؤسسات معينة كانت تهتم بأمر التبني حتى وقت قريب لقيام الدولة.
ما كانت تفعله العائلات المستقبلة للأطفال هو ملء استبيانات بعنوان “استبيانات للعائلات طالبات للتبني”، وهي واحدة من بين 200 ألف وثيقة نشرت عن قضية اختفاء الأطفال اليمنيين
أطفال يمنيون في إحدى التجمعات الصحية الإسرائيلية
فقبل قيام الدولة، اهتمت بهذا الأمر وكالة الإغاثة التابعة للسلطات المحلية وهيئات أخرى مثل “عالييات هانوعار” (أي الوافدون الصغار بالعربية) ولجان جمهورية في المدن الكبرى، لكن اختلف الأمر قليلًا عند قيام الدولة.
دخلت حينها وزارة الرعاية الاجتماعية إلى الصورة، حيث فرضت القوانين وجود أخصائية اجتماعية لعدم وجود عائلة بيولوجية ترعى الطفل لكي تتم الموافقة على قبول طلب التبني، ومع ذلك، ذكرت لجنة التحقيق الدولية التي عينت للبحث بقضية اختفاء أطفال يمنيين أنه في حالات كثيرة فإن “الإحالة للمحكمة على ما يبدو كان يتم بعد قضاء الأطفال المتبنين فترة لا بأس بها عند العائلة المتبنية”، والتي كانت كافية ليكون للطفل سجلات جديدة ووثائق هوية كاملة تثبت انتماءه لعائلته الجديدة، ومدة كافية لكي يشعر بأنهم أهله الحقيقيون.
لجنة للتحقيق في “إسرائيل”
“نحن نبني تاريخًا بديلًا تم إسكاته لسنوات، نحكي قصة هؤلاء الناس – وبالنسبة للكثير منهم هذه آخر فرصة لحكاية قصتهم مع الأخذ بعين الاعتبار سنهم المتقدم” – جمعية “عمرام” الإسرائيلية لنشر العدالة الاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي
عضو من أعضاء جمعية “عمرام” “شلومي هاتوكا” يقول للجزيرة بأنهم استخدموا مواقع التواصل الاجتماعي للضغط على الحكومة الإسرائيلية لإعادة فتح التحقيقات في القضية
تشكلت لجنة بالفعل عام 1999 للتحقيق في الأمر، واكتشفت ما يقرب من خطف 5000 طفل من مهاجرين يهود شرقيين، هذا بالإضافة إلى العدد غير المسجل لقوائم أو استبيانات التبني، حيث قامت العائلات اليهودية المدرجة على قوائم التبني بالحصول على الطفل بطريقتهم الخاصة في حالة عدم حصولهم على فرصة أو دور في تلك القوائم.
وجدت اللجنة آلاف من الشهادات المدرجة على خلفية عملية التبني غير الشرعية أو الخطف والسرقة في سياق آخر، ولكن العديد من الوثائق والملفات تعود لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأغلبها تتعلق بأطفال وعائلات إشكنازية (أي غربية)، توضح هذه الوثائق بصورة دقيقة كيفية عمل سوق التبني في تلك الفترة، وأسماء الأشخاص الذين عملوا في هذا المجال”، هذا ما كتبه عضو مكتب التحقيق “جوت بين أشير”، والذي تم الاستعانة بخدماته من قبل لجنة التحقيق الدولية للوصول إلى وثائق مهمة في الأرشيف الصهيوني بحسب ترجمة “العساس”.
تشكلت لجنة بالفعل عام 1999 للتحقيق في الأمر، واكتشفت ما يقرب من خطف 5000 طفل من مهاجرين يهود شرقيين
لا تشير الوثائق بأصابع الاتهام للسلطات الإسرائيلية، ذلك لأن أمر الخطف أو حتى التبني لم يكن أمرًا مباشرًا من المسؤولين أصحاب السلطات والمناصب، إلا أنها دون شك، تشير إلى غضهم للبصر، وتساهلهم في العنصرية المتبعة في سياسات التبني، التي قامت في البداية على السرقة والخطف من يهود غير غربيين.
ابتدءًا من عام 2014، بادر نشطاء شرقيون إلى إحياء يوم الذكرى ورفع الوعي لاختطاف أولاد اليمن وغيرهم من المهاجرين غير الغربيين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، رويدًا رويدًا، انكشفت المزيد من العائلات والروايات للضحايا، ليتبين أن عمليات البحث ما زالت مستمرة ليجد هؤلاء الناس أخوتهم او أخواتهم ويعرفوا ما حل بهم.
صورة لتزيلا ليفين، بعد عودتها لوالدتها الحقيقة مارجريت أم ياسي، عام 1997 (المصدر: جمعية عمرام الحقوقية)
لا تشير الوثائق بأصابع الاتهام للسلطات الإسرائيلية، ذلك لأن أمر الخطف أو حتى التبني لم يكن أمرًا مباشرًا من المسؤولين أصحاب السلطات والمناصب
وردًا على ذلك تم تشكيل لجنة برلمانية إسرائيلية لمحاولة تسليط الضوء على هذه القضية التي ما زالت تؤلم العائلات، وتقول النائبة “نوريت كورين”، وهي من أصول يمنية، في تقرير لفرانس 24: “أين اختفى هؤلاء الأطفال؟ ومن أعطى الأوامر؟”، ولقيت كورين، العضو في حزب الليكود اليميني الحاكم في إسرائيل، دعمًا من نواب من الأحزاب كافة بالإضافة إلى دعم رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، الذي عبر عن تأييده رفع السرية عن ملفات يفترض أن تبقى سرية لعقود عدة قادمة.
كانت تلك جريمة في حق الآلاف من العائلات المهاجرة الذين لا يعرفون شيئًا عن أبنائهم حتى الآن، وهي حادثة من تاريخ قيام إسرائيل السري الأسود، اختفى جرائها 5800 طفل يهودي يمني، بيع بعضهم لعائلات يهودية هاجرت إلى إسرائيل، وبيع الآخر ليهود الأمريكان مقابل 5000 دولار للطفل، كما صرح فيلم وثائقي عُرض على التليفزيون الإسرائيلي حديثًا، وهذا يعني اختفاء طفل من بين ثمانية أطفال مهاجرين.
هناك كتلة متحمسة من الجمعيات الحقوقية الإسرائيلية للضغط على الحكومة لإعادة النظر في القضية، والكشف عن كل الوثائق المستور عنها، وعلى الرغم من أنها ليست الجريمة الأولى من هذا النوع في تاريخ الكيان الصهيوني، فهي حتمًا ليست الأخيرة، فلا تمس الانتهاكات الشعب الفلسطيني فحسب، فلليهود الشرقيين تاريخًا من الغضب والثأر والانتقام مع الكيان الصهيوني كذلك.