ترجمة وتحرير: نون بوست
عاطف أبو سيف كاتب، في رصيده ست روايات، ويشغل منذ سنة 2019 منصب وزير الثقافة في السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
كان أبو سيف في زيارة إلى عائلته في غزة، حيث نشأ، عندما بدأ القصف في 7 تشرين الأول/أكتوبر ردا على هجوم حماس المفاجئ في وقت سابق من ذلك اليوم الذي أسفر عن مقتل 1400 إسرائيلي. حينها، بدأ بإرسال ملاحظات صوتية إلى أصدقائه في الخارج واصفًا قوام الحياة اليومية الممزق وسرد يوميات حول الحياة تحت الحصار.
تروي المقتطفات التالية، التي تم تعديلها من حيث الطول والوضوح والأسلوب، أحداث ما يقارب ثلاثة أسابيع، من 7 إلى 26 تشرين الأول/أكتوبر.
السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر
لم أكن أتخيل أبدًا أن شرارة الحرب ستندلع وأنا أسبح على الشاطئ. لقد استيقظت حوالي الساعة 5:30 صباحًا معتقدا أن اليوم سيكون يومًا جيدًا. كنت أسبح ثم أستحم في شقتي في الصفطاوي، بالقرب من جباليا، مخيم اللاجئين حيث ولدت وأمضيت معظم حياتي.
عادت قوارب صيد صغيرة إلى الشاطئ بعد قضاء ليلة في البحر. كنا أربعة: أخي محمد، وابني ياسر البالغ من العمر 15 سنة، وزوج أختي إسماعيل، وأنا. كنت في زيارة من الضفة الغربية وخططت للبقاء هناك لبضعة أيام فقط. وكان ياسر قد طلب مرافقتي: لقد افتقد أجداده.
سافرنا بالسيارة إلى الطرف الشمالي من الشاطئ وأوقفنا سيارتنا على الطريق الرئيسي، ثم مشينا على الرمال المليئة بالقذائف. وكعادتها، كانت السفن الحربية الإسرائيلية راسية في عرض البحر. كان البحر جذابًا للغاية. لقد نزعنا أنا وإسماعيل ثيابنا وبقينا بالشورتات. ظل ياسر يلتقط الصور بينما محمد يدخن بشراهة كعادته كل صباح.
فجأة، سمعنا دوي انفجارات في كل الاتجاهات، ورسمت الصواريخ خطوطًا عبر السماء. اعتقدت أنها مناورة تدريبية وواصلت السباحة قائلا لنفسي: قد يستمر الأمر ساعة أو ساعتين.
سبحت عائداً إلى الشاطئ، ودعوت إسماعيل ليأتي معي. هز كتفيه ونحن في طريقنا للخروج من الماء. صرخت أنه لا يبدو أن القصف سيتوقف. فجأة، بدأ الجميع على الشاطئ بالركض. “علينا أن نخرج من هنا!” صرخ محمد. وأصبح دوي الانفجارات أعلى وأعلى. ركضنا أنا وإسماعيل حفاة الأقدام، حاملين ملابسنا وأحذيتنا على غرار الجميع من حولنا.
عندما وصلنا إلى السيارة، قمت بالضغط على دواسة الوقود قبل أن يغلق الآخرون أبوابهم. كنت أقود سيارتي بجنون، بينما كان الناس يقفزون أمام سيارتنا، على أمل الركوب معنا. توقفنا وركب خمسة رجال في الخلف. انطلقنا بسرعة مرة أخرى، وأطلقنا البوق لتمهيد الطريق. التفت إلى محمد: “أين إسماعيل؟ هل تركناه للصواريخ؟” ضحك محمد قائلا: “لا، لقد تركناه لأسماك القرش.” لقد طلب من إسماعيل أن يغادر حيث لم يكن منزله بعيدًا عن الشاطئ. لكن نكتة محمد حول أسماك القرش لم تجعلني أشعر بأي تحسن.
لساعات، لم يكن أحد يعرف ما كان يحدث. ثم تسربت الأخبار. كان صديق، وهو شاعر وموسيقي شاب اسمه عمر أبو شاويش، يسبح مثلنا في البحر أمام مخيم النصيرات عندما أصيب هو وصديقه بقذيفة أطلقتها سفينة حربية عابرة. وحسب ما ورد كانا أول ضحيتين من غزة.
الأحد 8 تشرين الأول/أكتوبر
كنا 13 شخصًا في فندق روتس: 10 ضيوف وثلاثة مرافقين. كان الفندق يقدم وجبة الإفطار على الطاولات في الممر بين المصعد والدرج. عندما يبدأ القصف – وهو يحدث القصف كل شهر تقريبًا في غزة – يجب عليك الانتقال إلى منتصف المبنى، الذي عادة ما يكون ممرًا أو سلما لأنه الأبعد عن زجاج النوافذ المتطاير، وهو الجزء الأكثر تحصينًا في المبنى. خلال حرب 2008-2009، قضيت رفقة زوجتي حنا والأطفال 22 ليلة نائماً في ممر المنزل. وهذا بالتأكيد هو ما أبقانا على قيد الحياة.
من خلال الستائر، لمحت البحر الأزرق اللامع أسفل الجرف الصغير الذي يقع عليه فندقنا. كانت قوارب الصيد واقفة في الميناء، تتمايل مع الستائر المتمايلة. وعلى مسافة أبعد، كانت ثلاث سفن حربية في الجوار. وبينما كنت أتناول الطعام، فكرت في الجنود الموجودين بالداخل وهم يراقبوننا. باستخدام عدسات الأشعة تحت الحمراء والتصوير عبر الأقمار الصناعية، هل يمكنهم احتساب عدد أرغفة الخبز في سلتي، أو عدد كرات الفلافل في طبقي؟
لم يشهد ياسر، الذي يبلغ من العمر 15 سنة، سوى حربين ولا يزال يحمل ذكريات مرعبة حول حرب 2014. كان عمره 7 سنوات في ذلك الوقت ويتذكر ذلك بوضوح. تدعي شقيقته يافا، التي كانت تبلغ من العمر سنة فقط، أنها تتذكر ذلك ولكن عندما تصفه أظن أنها تصف مقاطع الفيديو التي شاهدتها. كان لديها نوع من الحنين لذلك. يمكن لذكريات الحرب أن تكون إيجابية بشكل غريب لأنها تذكرك بأنك لازلت على قيد الحياة.
كان البقاء على قيد الحياة هو موضوع المحادثة اليوم. قرر ضيوف الفندق الآخرون – وجميعهم من الضفة الغربية – المغادرة عبر معبر رفح إلى مصر. كانوا يحملون جوازات سفر، وكان العديد منهم يحملون تصاريح دبلوماسية. وقبل الانتهاء من الإفطار، اتُخذت الترتيبات اللازمة مع الجانب المصري. كان اسمي واسم ياسر في قائمة، لذلك حزمنا أمتعتنا. ثم عندما توجه محمد إلى السيارة أخبرته أني أريد البقاء. قد لا يكون هذا هو القرار الأكثر حكمة الذي اتخذته على الإطلاق، لكنه بدا وكأنه القرار الصحيح. لم أستطع الفرار بسبب الخوف لأترك والدي وإخوتي وأخواتي عائشة وأسماء. كان عمري شهرين فقط عندما اندلعت الحرب الأولى سنة 1973، وأنا أعيش الحروب منذ ذلك الحين. وكما أن الحياة وقفة بين موتين، فإن فلسطين، كمكان وفكرة، هي وقت مستقطع في خضم العديد من الحروب.
طلبت من ياسر أن يغادر مع الآخرين لكنه أراد البقاء بجانبي. كنت ممزقا إذ كانت فكرة تركه بمفرده في معبر رفح، الذي تقصفه إسرائيل دائمًا في بداية هذه الحروب وعدم التواجد معه أثناء عبوره شمال سيناء التي تعتبر منطقة حرب خاصة بها هذه الأيام، ترعبني. وفي نهاية المطاف، فعل ما طُلب منه.
في طريقنا لإيصال ياسر إلى منزل أجداده، طلبت من محمد أن يتوقف عند قطعة الأرض التي أملكها حتى أتمكن من سقي الأشجار. إنها قطعة أرض صغيرة أنوي بناء منزل فيها يوما ما. لكن محمد صرخ قائلا:”هل تمزح؟ “إنه أمر خطير للغاية”. أجبته: “إن ترك الأشجار دون ماء أمر خطير أيضًا. إذا استمرت الحرب لفترة طويلة، فسوف تموت”. ضحك محمد “سوف تموت على أي حال إذا كان هناك غزو. ستجرفها الدبابات بالجرافات كما تفعل دائما”. ومع ذلك أصررت على سقيها.
أوصلنا أنا ومحمد ياسر إلى أجداده الذين يعيشون بالقرب من إحدى المدارس التي تديرها الأمم المتحدة. بعد ذلك التقيت بعلي، ابن صديقي هشام، الذي أخبرني أنه يتعين عليهم مغادرة منازلهم في بيت حانون. تلجأ العديد من العائلات إلى مدارس الأمم المتحدة في جباليا. كان الشارع أمام إحدى المدارس يعج بالناس: أطفال مشوشون، ورجال غاضبون، ونساء متعبات. بدا كل منهم ضائعين. قام المزارعون برعي حيواناتهم على طول جدران المدرسة. وكان أحد المعلمين يقف في منتصف الطريق يحاول يائسًا خلق النظام وسط الفوضى.
الإثنين 9 تشرين الأول/أكتوبر
تحولت المدينة إلى أرض قاحلة من الركام والحطام. كانت المباني الجميلة تنهار مثل أعمدة الدخان. كثيرا ما أفكر في المرة التي تعرضت فيها لإطلاق النار عندما كنت طفلا، خلال الانتفاضة الأولى، وكيف أخبرتني والدتي أنني مت بالفعل لبضع دقائق قبل أن أعود إلى الحياة. ربما أستطيع أن أفعل الشيء ذاته هذه المرة، على ما أعتقد.
اليوم هو الإثنين، مما يعني أن الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء الحكومي في الضفة الغربية كان على الساعة 10 صباحًا. وقد حضرت على هاتفي عبر تطبيق زوم ولكن لم أتمكن من التركيز بشكل كامل مع استمرار ظهور التنبيهات الإخبارية. وكان صوت الصواريخ القادم من الطائرات الحربية يصم الآذان.
أبلغتني التنبيهات أن غارة جوية أدت إلى مقتل 50 شخصًا في منطقة الطيرة. اعتذرت للوزراء الآخرين وعدت إلى المعسكر. تعد الطيرة في قلب جبالي وتتلاقى عند هذه النقطة جميع وسائل النقل إلى البلدات والقرى المجاورة: سيارات الأجرة والحافلات الصغيرة إلى بيت حانون وبيت لاهيا والقرية البدوية وأماكن أخرى في شمال القطاع. في طريقنا إلى الطيرة، مررنا أنا وياسر بعائلات تتجول في حالة ذهول. يبدو أنهم يحملون كل ممتلكاتهم الدنيوية – الفرش وأكياس الملابس والطعام والشراب.
عندما وصلنا إلى موقع الهجوم، شعرت بالرعب عندما رأيت المكان بأكمله وقد دمر بالكامل. احترق السوبر ماركت، ومكتب الصرافة، ومحل الفلافل، وأكشاك الفاكهة، وصالون العطور، ومحل الحلويات، ومحل الألعاب. كانت الدماء تلطخ كل مكان، إلى جانب قطع من ألعاب الأطفال، والعلب من السوبر ماركت، والفواكه المهشمة، والدراجات المكسورة، وزجاجات العطور المحطمة. بدا المكان وكأنه رسم بالفحم لمدينة يحرقها تنين.
طلبت من ياسر أن يبقى في منزل جده. يتلخص المنطق الفلسطيني في أنه يجب علينا جميعا في زمن الحرب أن ننام في أماكن مختلفة، بحيث إذا قُتل جزء من الأسرة، يعيش جزء آخر. لكن أصبحت مدارس الأمم المتحدة أكثر ازدحاما بالعائلات النازحة الذين يأملون أن ينقذهم علم الأمم المتحدة، رغم أن الأمر لم يكن كذلك في الحروب السابقة.
ذهبت إلى بيت الصحافة، حيث كان الصحفيون يقومون بتنزيل الصور بشكل محموم ويكتبون التقارير لوكالاتهم. كنت جالسا مع بلال، مدير بيت الصحافة، عندما هز انفجار المبنى. تحطمت النوافذ، وانهار السقف علينا قطعًا صغيرة. ركضنا نحو القاعة المركزية. وكان أحد الصحفيين ينزف بعد أن أصيب بزجاج متطاير. وبعد 20 دقيقة، خرجنا لتفقد الأضرار. لاحظت أن زينة رمضان لا تزال معلقة في الشارع.
عندما عدت إلى الفندق، شعرت بالإرهاق وعدم القدرة على التركيز. كان لدي ألم في معصمي. أخبرني بلال أن السبب هو الإفراط في استخدام هاتفي لأنني أقضي ساعات ممسكا به بحثا عن الأخبار.
الثلاثاء 17 تشرين الأول/ أكتوبر
أرى الموت يقترب، وأسمع خطواته تتزايد. فقط انتهي من الأمر. إنه اليوم الحادي عشر من الصراع، لكن كل الأيام اندمجت في يوم واحد: نفس القصف، نفس الخوف، نفس الرائحة. في نشرة الأخبار، قرأت أسماء القتلى على الشريط الموجود أسفل الشاشة في انتظار ظهور اسمي.
في الصباح رن هاتفي. كانت رولا، إحدى أقاربي في الضفة الغربية، تخبرني أنها سمعت أن هناك غارة جوية في تل الهوى، وهو حي يقع في الجانب الجنوبي من مدينة غزة حيث يعيش ابن عمي حاتم، وهو متزوج من هدى، الأخت الوحيدة لزوجتي، ويعيش في مبنى مكون من أربعة طوابق يضم أيضًا والدته وإخوته وعائلاتهم.
اتصلت ولكن لم يكن هاتف أي منهم يعمل. مشيت إلى مستشفى الشفاء لقراءة الأسماء حيث يتم تعليق قوائم الموتى يوميًا خارج مشرحة مؤقتة. بالكاد تمكنت من الاقتراب من المبنى: لقد اتخذ آلاف الغزاوين من المستشفى منزلًا لهم؛ يوجد عائلة في حدائقه، وممراته، وكل مساحة أو زاوية فارغة. استسلمت وتوجهت نحو حاتم.
بعد ثلاثين دقيقة، كنت في شارعه. كانت رولا على حق فقد كان مبنى هدى وحاتم قد تعرض للقصف قبل ساعة واحدة فقط. وقد تم بالفعل انتشال جثتي ابنتهما وحفيدهما. والناجي الوحيد المعروف هي وسام، إحدى بناتهم الأخريات التي تم نقلها إلى وحدة العناية المركزة بعد أن خضعت مباشرة لعملية جراحية حيث بُترت ساقاها ويدها اليمنى. كان قد أقيم حفل تخرجها من كلية الفنون في اليوم السابق فقط. والآن عليها أن تقضي بقية حياتها بدون أرجل وبيد واحدة. ثم سألت شخص ما: “ماذا عن الآخرين؟” وجاء الرد: “لا يمكننا العثور عليهم”.
وسط الركام صرخنا: “هل يمكن لأحد أن يسمعنا؟” لقد نادينا أسماء الأشخاص الذين ما زالوا في عداد المفقودين على أمل أن يكون بعضهم على قيد الحياة. وبحلول نهاية اليوم، تمكنا من العثور على خمس جثث، بما في ذلك جثة طفل يبلغ من العمر 3 أشهر، ثم ذهبنا إلى المقبرة لدفنهم.
في المساء ذهبت لرؤية وسام في المستشفى، وقد كانت بالكاد مستيقظة. وبعد نصف ساعة سألتني: “خالو أنا بحلم، صح؟”. فقلت: “كلنا في حلم”. قالت “حلمي مرعب! لماذا؟” فأجبت “كل أحلامنا مرعبة”. وبعد 10 دقائق من الصمت قالت: “لا تكذب علي يا خالو. في حلمي ليس لدي أرجل. هذا صحيح، أليس كذلك؟ ليس لدي أرجل؟”. فقلت “لكنك قلت إنه حلم”.
فأجابت “أنا لا أحب هذا الحلم، خالو”.
اضطررت إلى المغادرة، ثم بكيت وبكيت لمدة 10 دقائق طويلة. وبعد أن غمرتني أهوال الأيام القليلة الماضية، خرجت من المستشفى ووجدت نفسي أتجول في الشوارع. لقد فكرت وأنا مكتوف اليدين، أنه يمكننا تحويل هذه المدينة إلى موقع تصوير لأفلام الحرب. أفلام الحرب العالمية الثانية وأفلام نهاية العالم حيث يمكننا أن نستأجره لأفضل مخرجي هوليوود. فقد أصبح مسرح يوم القيامة حسب الطلب.
من يملك الشجاعة ليخبر هناء، البعيدة في رام الله، أن أختها الوحيدة قد قُتلت؟ وأن عائلتها قد قُتلت؟ اتصلت بزميلتي منار وطلبت منها أن تذهب إلى منزلنا مع بعض الأصدقاء وتحاول تأخير وصول الخبر إليها. قلت لمنار: “اكذبِي عليها. لنفترض أن المبنى تعرض لهجوم بطائرات إف-16، لكن الجيران يعتقدون أن هدى وحاتم كانا بالخارج في ذلك الوقت. أي كذبة يمكن أن تساعد”.
في الصباح، انضممت مرة أخرى إلى عملية البحث عن الجثث. كان المبنى، كما قال توماس ستيرنز إليوت، الشاعر المسرحي الأمريكي والحائز على جائزة نوبل: “كومة من الصور المكسورة”. لقد قمنا بالبحث بين الأنقاض تحت أصوات الطائرات بدون طيار التي تشبه لعبة الكريكيت والتي لم نتمكن من رؤيتها في السماء.
الأربعاء 18 تشرين الأول/ أكتوبر
هذه هي ليلتي الثانية في مخيم جباليا حيث كان من المفترض أن أكون منذ البداية أين تتجمع عائلتي – أبي، وأخواتي، وإخوتي. لا يوجد إنترنت أو وسائل التواصل الاجتماعي بل عدنا إلى عصر الراديو. تستمر الانفجارات، وكل واحدة منها تشعرك بأنها أقرب من الأخرى، وكل واحدة منها تشجعني على تفقد جسدي لمعرفة ما إذا كنت قد أصبت أم لا. لماذا أريد حتى البقاء على قيد الحياة؟ ما فائدة البقاء على قيد الحياة إذا كنت أعيش فقط لقضاء يوم آخر خائفًا من موتي؟
لقد كانت ليلة مظلمة ورهيبة. قُتل المئات في المستشفى الأهلي الليلة الماضية. لقد بحثوا عن الحياة والمستقبل في قدسية هذا المستشفى، معتقدين خطًأ أنه سيكون آمنًا. بُني هذا المستشفى من قبل البريطانيين، أو يجب أن أقول كنيسة إنجلترا، منذ حوالي 150 سنة. كنا نسميه المستشفى الإنجليزي. وهنا أنقذني جراح إنجليزي بعد إطلاق النار علي عندما كنت مراهقًا في الانتفاضة الأولى؛ حيث استقرت رصاصة في كبدي.
بالكاد أستطيع النوم، أفكّر في الأطفال الذين كانوا ينامون على العشب في حدائق المستشفى أمام الكنيسة، مستلقين تحت السماء المظلمة، لا تحميهم سوى بضع سحب متفرقة، ينتظرون شمس الصباح التي لن يستيقظوا عليها أبدًا. أغمضت عيني وحاولت أن أتخيل عدم الاستيقاظ. أرسل أحد الأصدقاء رسالة نصية: “ماذا يحدث في غزة؟”. أجبته: “السؤال المناسب ليس ما الذي يحدث، بل ما الذي يحدث منذ أكثر من 75 سنة”.
نحن نعيش في فيلم حربي، والمنتج لا يريد أن ينهيه. يستمر الاستوديو في تغذية السيناريو بمشاهد جديدة، ويواصل إضافة ملايين الدولارات إلى الميزانية. سيكون الفيلم ناجحًا، طالما أنهم لمنيتوقفوا عن التصوير أبدًا.
توجهت إلى بيت الصحافة لشحن هاتفي ومشاهدة الأخبار. الليلة الماضية، تعرض هذا الحي بأكمله للقصف وتحطم كل شيء: النوافذ والأرضيات والأسقف والأرفف والأبواب. الشيء الوحيد الذي لم يسقط هو صور مدينة غزة التي كانت معلقة حول الفناء الداخلي. لو قضينا أنا وياسر وأخي أحمد الليلة هناك، كما فعلنا في الأسبوع الأول، لما نجونا. فلا أحد يعرف ما هو آمن وما هو خطير. عليك أن ترمي النرد.
وردت أنباء عن رغبة الإسرائيليين في إخلاء أكثر من 60 في المائة من سكان القطاع، حتى يتمكنوا من تسوية مدينة غزة بالأرض. أسقطت المروحيات منشورات في كل مكان مكتوبة باللغة العربية تحذّر من أن أي شخص يبقى شمال الممر المائي للوادي سيتم اعتباره متواطئا مع الإرهاب – مما يعني أنه يمكن للإسرائيليين إطلاق النار عليهم فور رؤيتهم. لم أطع أوامرهم. لقد أمضيت كل هذا الوقت في شمال مدينة غزة والرمال، وهما من المناطق الأكثر تضررًا. في بعض الأحيان كل ما لديك هو فرصة لاختيار ما تقوم به.
طلبت مني هناء عبر رسالة نصية أن أنتقل إلى رفح حتى أكون أنا وياسر بالقرب من المعبر. أجبتها: “أنا لا أثق بالجيش الإسرائيلي. فلماذا يجب أن أطيعهم؟” بالأمس، قُتل شقيق صديقي محمد مع عائلته في مخيم النصيرات، بعد أن تحركوا جنوبًا من مدينة غزة بناءً على أوامر الإسرائيليين. أما الآخرون الذين أطاعوا فلم يصلوا إلى هذا الحد. قُتل العشرات أمس في مجموعة من الهجمات الصاروخية على طريق صلاح الدين، الشريان الرئيسي المتجه جنوبًا.
مثل صوت طائرة بدون طيار في الخارج، أو طنين البعوض المستمر في الداخل، الخطر موجود في كل مكان. ولا يوجد مكان آمن في قطاع غزة.
الأحد 22 تشرين الأول/ أكتوبر
اليوم هو اليوم السادس عشر للصراع. ما زلت حيا، ولكن غزة لم تعد كما كانت. عندما استيقظت هذا الصباح ونظرت من نافذتي إلى مخيم جباليا، رأيت عشرات الشباب يزيلون الأنقاض من المباني التي ضربتها الصواريخ، ويحاولون يائسين انتشال الجثث التي تحطمت تحتها. منذ ثمانية أيام، لم نتمكن من انتشال جثث أخت زوجتي وزوجها وابنهما. تتصل هناء كل صباح تسأل عن الأخبار.
كل يوم يتطلب اتباع استراتيجية للبقاء. وبطبيعة الحال، الحصول على الخبز هو المهمة الأكثر أهمية حيث ترسل العائلات أحد أطفالها للوقوف في الطابور أمام المخبز قبل شروق الشمس. وعليهم الانتظار لمدة تصل إلى خمس ساعات قبل أن يعودوا بحمولتهم الثمينة.
في الليلة الماضية، لم أحصل على أي خبز على الإطلاق. لقد افترضت أن فرج، جارنا في جباليا الذي نتقاسم معه كل حمل وكل حزن، هو الذي كان يحصل عليه، بينما كان هو يظن أنني كذلك. اشتريت الفلافل، وعندما التقيته أمام المنزل، شعرنا بالحرج لأن كل ما كان لدينا لتناوله هو كرات الفلافل. سمعنا يوسف، وهو صديق من الحي، واتصل بزوجته. بعد دقائق، ظهرت لنا تسع لفات صغيرة.
بعد الخبز، الشيء الثاني الذي يجب عليك التفكير فيه هو الماء النظيف. ننسى الماء البارد. ليكن نظيفًا بما فيه الكفاية للشرب. في بيت الصحافة حيث قضيت معظم الأيام العشرة الماضية، لم تكن لدينا مياه على الإطلاق. نظرًا لانقطاع الكهرباء معظم الوقت، وحتى لو كان لديك مياه، لا يمكنك ضخها إلى الخزانات الموجودة أعلى المباني. لا يستطيع الجميع شراء زجاجات المياه. وفي الأيام الأولى من الحرب، ارتفع سعر الزجاجة الصغيرة إلى 10 شيكل، أي حوالي 2.50 دولار. أريد الماء لوسام التي ترقد في المستشفى وتحترق. يبدو الأمر كما لو أنها لا تزال تشعر بحرارة الانفجار.
الشيء الثالث الذي تريده هو البطاريات. آخر مرة وصلت فيها الكهرباء إلى مخيم جباليا كانت قبل 13 يومًا. بعد أن تعرضوا لانقطاع التيار الكهربائي يوميًا وبشكل متكرر لأكثر من عقد من الزمن (ثماني ساعات متواصلة وثماني ساعات متقطعة)، تعلم معظم الناس التكيف. الأكثر حظًا لديهم مولدات احتياطية، ولكن معظمهم يعتمدون على بطاريات مماثلة لتلك المستخدمة في السيارات. وتوفر هذه المصابيح إضاءة منخفضة في الليل وبعض إمكانية الوصول إلى الإنترنت، على الرغم من أنها لا تستطيع تشغيل أي شيء مثل الموقد أو الثلاجة أو الغلاية. ويمكن أن يستغرق شحن بطارية واحدة ما يصل إلى خمس ساعات.
هذا الصباح، كانت طوابير المخابز أطول من المعتاد إذ كان طول الطوابير أمام مخبز الشنطي بشارع الوحدة ومخبز العائلة بين شارع الوحدة وناصر أكثر من 500 متر. وحسب رئيس جمعية المخابز، فقد أُستهدفت سبعة مخابز بالصواريخ الإسرائيلية. وقبل ليلتين، تم تدمير المنزل القريب من منزل أختي أسماء، وكذلك انتهت حياة معظم المصطفين بالخارج.
ليست المخابز وحدها هي التي تتعرض للقصف، بل أيضًا الأماكن الأخرى التي يتجمع فيها الناس. الليلة الماضية، ضربوا السوق في مخيم النصيرات، إلى جانب اثنين من أشهر المطاعم في المخيم: جنين وعقيل. لقد تناولت شطيرة من عقيل في اليوم الخامس من الحرب. وقد مات الآن الأشخاص الذين كانوا مصطفين هناك بالأمس.
خلال الليالي الطويلة بدون كهرباء أو إنترنت، أشعر بالانفصال عن العالم. أسمع انفجارات وصراخًا دون أن أعرف من أين يأتي. في بعض الأحيان، ننجرف أنا وفرج ومحمد إلى تخمين مكان كل انفجار ومدى قربه. ومعظمنا في غزة على علاقة وثيقة بهذه اللعبة. الحل الوحيد هو أن يكون لديك جهاز راديو. والدي لديه ثلاثة، وربما هذا هو كل الإرث. وبعد نقاش طويل، وافق على السماح لي باستخدام واحد حيث نقضي ليالينا نكافح من أجل الحصول على إشارة واضحة.
الإثنين 23 تشرين الأول/ أكتوبر
كانت الليلة الماضية الأكثر عنفًا حتى الآن وقتل نحو 600 شخص في هجمات على القطاع. حوالي الساعة 11 ليلًا، شهدت المشهد المعتاد: صراخ صاروخ، ووميض في الظلام، وصوت انفجار. كنت مستلقيًا على مرتبة في منتصف الشقة وكدت أن أغفو عندما بدأت سحابة داكنة وضارة تملأ الشارع بالأسفل، وبدأت بالسعال. كانت رائحة الرماد والمعدن المحترق. أحصيت 12 سيارة إسعاف متجهة نحو نهاية الشارع.
إني أفتقد الطعام الحقيقي. ففي أغلب الأيام، أتناول الفلافل على الإفطار والفلافل على العشاء. قبل يومين، كنت محظوظًا بما يكفي للحصول على بعض الدجاج وقمت بسرعة بقلي ثلاث قطع لي ولمحمد وياسر. إنها وليمة! في كل مرة أتناولها أشعر أنها ألذ وجبة تناولتها على الإطلاق. في أعماقي، أعتقد أنني أقول لنفسي هذا لأنها قد تكون الوجبة الأخيرة.
تفاجأت هذا الصباح برؤية صالون الحلاقة مفتوحًا. باءت محاولتي للدخول بالفشل حيث اصطف عشرات الشباب في الخارج. وبدلاً من ذلك، اقترحت على أخي إبراهيم أن يقص شعري باستخدام ماكينة الحلاقة الكهربائية الصغيرة. لقد كان أخي المتوفى نعيم ماهرًا جدًا في قص الشعر. وخلال فترة حظر التجول في الانتفاضة الأولى، التي استمرت لمدة تصل إلى 40 يومًا، كان نعيم يقص شعر الرجال في الحي.
اليوم مكثت في جباليا. وهذا يعني عدم زيارة وسام في المستشفى وعدم الذهاب إلى بيت الصحافة. إن فحص وسام أمر مرهق، أعتقد أنني أضعف مما أدركت. قلت لنفسي إنه لكي أتمكن من رؤيتها غدًا، أحتاج إلى الراحة اليوم. علاوة على ذلك، لا أستطيع استخدام السيارة كل يوم. لم يعد هناك بنزين في محطات البنزين. بالأمس رأيت صاحب المحطة على مدخل مخيم جباليا يتوسل يائسًا للجمهور، محاولًا إقناع الجميع بأنه لا يوجد لديه وقود وأن الاصطفاف لا جدوى منه. صرخ أحد الرجال: “كيف أنتم محطة بنزين وليس لديكم وقود؟” فأجابه المالك بغضب: “إسأل الحرب”.
توجهت نحو منزل عائشة في حي تل الزعتر بالمخيم حيث تناثرت أكوام من الركام والمباني نصف المنهارة في كل مكان. في هذه المرحلة، أصبحت غير مبالٍ بالانفجارات التي أحدثت ثقوبًا في المدينة من حولي. كل من يموت هنا يموت بسبب سوء الحظ. لقد صادف أنهم كانوا في مكان الضربات الصاروخية في تلك اللحظة. عزاء صغير هو أنه عندما تسمع صوت الصاروخ، فإنك تعلم أنه لن يضربك. وهذا هو الدرس الذي يتعلمه جميع سكان غزة. فعندما تكون الهدف، لا تسمع أي شيء بل تموت فحسب.
الثلاثاء 24 تشرين الأول/ أكتوبر
“هل الحياة في غزة صعبة دائمًا؟” أردد هذا السؤال كثيرًا. أجد صعوبة في تذكر الوقت الذي لم يكن فيه الأمر كذلك. ربما لبضع لحظات متفرقة في أوائل التسعينيات، عندما أنشأت السلطة الفلسطينية قاعدة لها في المدينة، كان هناك بعض الهدوء أو الوعد بالهدوء. بالنسبة لبني جيلي، الذين كانوا في الـ 20 عامًا في ذلك الوقت، بدا المستقبل مفتوحًا. كانت عملية السلام بمثابة بداية جديدة. خرج الآلاف من الناس إلى الشوارع لدعم هذا السلام. لم نكن نعرف ذلك في ذلك الوقت، لكننا كنا متمسكين بالقش. شاركت والدتي في إحدى المظاهرات العديدة التي احتفلت باتفاقات أوسلو معتقدة أن ذلك قد يؤدي إلى إطلاق سراح أخي نعيم، الذي حكم عليه بالسجن سبع سنوات بعد اشتباك مع الجيش الإسرائيلي؛ لكنها ماتت دون أن ترى نعيم حرًا.
من المؤسف أن هذا المناخ لم يستمر إلا بضع سنوات، وبعدها انهار كل شيء. لقد أصبح السلام عبئًا على الفلسطينيين، وكانت تكلفته باهظة للغاية. باتت الشرطة الإسرائيلية في كل مكان، وتم القضاء على المستقبل. دحل الاقتصاد في ركود، وتم قصف المطار، وتم تطويق الناس. وحتى عندما خرج المستوطنون والجنود الإسرائيليون في سنة 2005، ارتفعت الجدران وأدرك أهل غزة، مرة أخرى، أنهم سجناء هنا وليسوا مواطنين.
طوال الليلة الماضية، واصلت الدبابات قصفها. يقع مكان عائشة في الجانب الشرقي من جباليا، بالقرب من الحدود حيث تقف الدبابات بالمئات. لقد كان قرارًا محفوفًا بالمخاطر، أن آتي إلى هنا، ولكن بعد 17 يومًا من التنقل من مكان إلى آخر، مع قلة إمكانية الحصول على المياه، لم أكن أبالي. كنت بحاجة للاستحمام والنوم المناسب ليلاً على سرير حقيقي.
استيقظت عائشة باكرًا لأن لديها خبزًا لتحضيره. فبعد كل هذه القنابل، لن ترسل ابنها البالغ من العمر 14 سنة للوقوف في الطابور لساعات. الحل الوحيد هو أن تصنع الخبز بنفسها، وكنت أساعد في عجن العجينة وتقطيعها. ومما لا شك فيه أن آلاف الأسر في غزة تعلم نفسها كيفية صنع الخبز مرة أخرى. كانت عائشة من المحظوظات لامتلاكها الغاز. يستعمل معظم الناس المواقد التقليدية التي يتم تغذيتها بالخشب من تحت الأنقاض.
قبل بضع سنوات، كتب أحدهم شعارًا غريبًا على جدار مدرسة الأمم المتحدة شرق جباليا: “نحن نتقدم إلى الوراء”. لدينا دائرة لذلك. فكل حرب جديدة تعيدنا إلى الأساسيات حيث تدمر بيوتنا ومؤسساتنا ومساجدنا وكنائسنا، وتهدم حدائقنا ومتنزهاتنا. كل حرب نحتاج إلى سنوات للتعافي منها، وقبل أن نتعافى تأتي حرب جديدة. ولا توجد صفارات إنذار، ولا توجد رسائل مرسلة إلى هواتفنا. لقد وصلت الحرب للتو.
الأربعاء 25 تشرين الأول/ أكتوبر
هذا اليوم 19 من الحرب. يعد نقص الأدوية والمعدات في المستشفيات أمرًا صادمًا حيث يتم إجراء العمليات الجراحية للمرضى دون تخدير، وأصبح من الطبيعي سماع الصراخ في العنابر حيث لا توجد مسكنات للألم ولا مهدئات. إن الجناح المصمم لثلاثة أسرة يضم الآن سبعة. تتكدس الأسرّة في الممرات وغرف الانتظار وغرف العمليات وحتى حول مداخل الحمامات وفي السلالم.
هذا الصباح، كان مستشفى الشفاء مكتظًا بالناس. لم يكن هناك طبيب، فقط ممرضة شابة تحاول تلبية احتياجات الجميع. عندما وصلت إلى جانب سريرها، طلبت وسام طلبًا حطم قلبي. أرادت أن تعرف: هل يمكنني أن أعطيها حقنة مميتة؟ وكانت واثقة من أن الله سيغفر لها. فابتسمت وقلت: “لكنه لن يسامحني يا وسام”. فقالت: “سأطلب منه ذلك نيابةً عنك”. استشهدت بآية في حكمة الله تعالى، وأخبرتها أنه يفضل أن تكون على قيد الحياة وسط كل هذا الموت. لكنها أصرت على أنها لم تعد قادرة على تحمل الألم، ولم يتم إعطاؤها أي أدوية. كان وجهها شاحبًا، وبدا أنها مستعدة للاستسلام.
لا يوجد أي مؤشر على نهاية هذه الحرب. لا أحد في السلطة يتحدث عن وقف إطلاق النار. وفي الأخبار، هناك حديث عن هدنة لبضع ساعات لأغراض إنسانية، للسماح بدخول القليل من الغذاء والدواء. إن الاستماع إلى الطريقة التي يتحدثون بها عنا لا يطاق، كيف يقررون الأمور لنا، دون أن يسألوا أيًا منا.
على الساعة 3:15 فجرًا، استيقظت على غارة جوية. قفزت من فراشي معتقدًا أن الضربة أصابت منزل فرج حيث كنت نائمًا ونسيت قاعدة سماع الضربة. ركضنا إلى النافذة ونظرنا إلى الشارع بالأسفل، وقد سمعنا صوت انهيار الجدران ورأينا الزجاج في كل مكان. امتلأت أنوفنا بالرائحة الثقيلة للمعادن والخشب المحروق. لقد أحصينا ثلاث ضربات وبدأنا لعبة التخمين المعتادة. أين كانت الضربة هذه المرة؟
في الصباح، أخبرني محمد أن هذا كان منزل عائلة الحلبي. في البداية، تم العثور على ست جثث وتم إنقاذ 15 شخصًا، فيما لا يزال آخرون في عداد المفقودين تحت الأنقاض. نزلت لدعم جهود الإنقاذ حيث التقطنا أشلاء الجثث المشوهة وجمعناها على بطانية؛ حيث تجد ساقًا هنا، ويدًا هناك، والباقي يشبه اللحم المفروم.
في الأسبوع الماضي، بدأ العديد من سكان غزة بكتابة أسمائهم على أيديهم وأرجلهم، بالقلم أو بقلم التحديد الدائم، حتى يمكن التعرف عليهم عند حلول الموت. قد يبدو هذا أمرًا مروعًا، لكنه منطقي تمامًا فنحن نريد أن يتم تذكرنا؛ نريد أن تُروى قصصنا، ونحن نسعى إلى الكرامة. فعلى أقل تقدير، ستكون أسماؤنا على قبورنا. لا تزال رائحة الجثث التي لم يتم انتشالها تحت أنقاض منزل ضُرب الأسبوع الماضي في الهواء. وكلما مر الوقت، أصبحت الرائحة أقوى.
تشتهر جباليا بأزقتها الضيقة، لكنها الآن مسدودة بالأحجار المتساقطة وقطع الخرسانة والمعادن المتشابكة. عندما أقف على كومة من الفوضى التي كانت قبل ساعات قليلة منزلاً لشخص ما، أفكر في الحي الذي ولدت وترعرعت فيه؛ حيث أعرف متاهة شوارعه الضيقة عن ظهر قلب، ويمكنني التنقل بينها وعيني مغلقة. قريبًا كل ما سيبقى سيكون ذكرى.
الخميس 26 تشرين الأول/ أكتوبر
الليلة الماضية، استمر صوت القصف حتى الفجر. ملأ الغبار المنزل، لأننا إذا أغلقنا النوافذ، سوف تتحطم تحت ضغط الهواء الناتج عن الانفجارات. إن المباني في المخيم غير مستقرة في أفضل الأوقات. تقليديًا، تقوم الأسرة ببناء منزل من طابق واحد، ثم عندما يتزوج أحد الأبناء، يتم إضافة طابق ثان فوق الأول، ثم طابق ثالث للابن الثاني، وهكذا. وبينما كنت مستلقيًا أستمع إلى القصف، تخيلت المباني وكأنها صناديق من الخيزران، محشوة بإحكام ومكدسة بشكل عشوائي على الجزء الخلفي من شاحنة تسير بشكل متعرج على الطريق.
في الساعة 6:30، نهضت من السرير وذهبت إلى المخبز الصغير الموجود في الزاوية، الذي يشتهر بالكرواسون والفطائر الحلوة، معتقدًا أنه كلما كان أكله طريًا، كان أسهل على وسام. انتظرت نصف ساعة حتى أعلن صاحب المخبز متأسفًا نفاد الطحين. واقترح أن نعود في فترة ما بعد الظهر.
في طريق عودتي إلى المنزل، بدا أن الانفجارات كانت تتبع السيارة حيث كنت في شارع الجلاء عندما رأيت في المرآة الخلفية موتى مؤكدين وما زال 120 شخصًا في عداد المفقودين من تلك الحلقة بالذات. واليوم، يصل عدد القتلى في غزة إلى أكثر من 7000 شخص، نصفهم تقريبًا من الأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في غزة. في نشرة الأخبار، يقول صبي أنقذه فريق الإسعاف من تحت الأنقاض للمسعف: “شكرًا لك، سيارة الإسعاف، نحن نحبك!” ثم يسأل أين والدته بكلمات متقطعة بالكاد مسموعة. عندما أغسل الأطباق بعد العشاء، أتساءل عما إذا كنا سنتناول العشاء غدًا، أو سننام الليلة، أو سنشرب أي ماء في الأيام القادمة.
المصدر: واشنطن بوست