أنهى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، جولته الشرق أوسطية التي شملت تركيا والضفة الغربية وقبرص والأردن ودولة الاحتلال، وتضمنت العديد من اللقاءات الثنائية والعامة مع دبلوماسي عدد من دول المنطقة.
الزيارة تأتي تزامنًا مع مرور شهر من الحرب الإجرامية التي يشنها الكيان المحتل ضد قطاع غزة والتي أسفرت عن استشهاد أكثر من 10 آلاف فلسطيني، 70% منهم أطفال ونساء، وسط صمت إقليمي ودولي فاضح، ومواجهات حاسمة مع المقاومة التي كبدت الاحتلال العديد من الخسائر القاسية.
الزيارة هي الثانية لوزير الخارجية الأمريكي للمنطقة منذ اندلاع الحرب، وسط إصرار مشدد على تقديم كافة أوجه الدعم لدولة الاحتلال والتزام السردية الإسرائيلية بالقضاء على حركة المقاومة الإسلامية حماس كهدف رئيسي لتلك المعركة البرية التي فصلت القطاع إلى قسمين، شمالي وغربي.
العنوان الأبرز لتلك الجولة يتمحور حول بحث سبل التهدئة والوصول إلى صيغة مشتركة لحماية المدنيين من الاستهداف الإسرائيلي، لكن بلينكن الذي وصف نفسه خلال زيارته الأولى بـ”اليهودي”، في إشارة لدعمه المطلق للكيان المحتل، حمل في حقيبته العديد من الأهداف الأخرى التي تخدم رؤية الاحتلال في تدشين شرق أوسط جديد والإعداد لمرحلة غزة دون حماس.
استبعاد وقف إطلاق النار
الملف الأول الذي حاول بلينكن تمريره خلال تلك الجولة تعلق باستبعاد خطوة وقف إطلاق النار وهي الخطوة التي طالبت بها معظم البلدان العربية والإقليمية كشرط أولي للتهدئة، لحماية المدنيين في القطاع من القصف العشوائي وتجنب مسألة العقاب الجماعي لأكثر من مليوني فلسطيني.
واشنطن كما تل أبيب ترى أن وقف إطلاق النار يخدم حماس والمقاومة ويمنحها انتصارًا كبيرًا في المعركة بعد الخسائر الفادحة التي أوقعتها في صفوف الاحتلال، ومن ثم جاءت فكرة استبعاد هذا الخيار رغم الضغوط الإقليمية والدولية، إلا أن بلينكن وإدارة بايدن حاولوا الاستعاضة عن تلك الخطوة بهدن إنسانية بين الحين والأخر تسمح بمرور المساعدات الإغاثية اللازمة لعلاج وإعاشة المدنيين.
وعليه جاءت تلك الجولة لتمرير هذا الخيار عوضًا عن وقف إطلاق النار، لكن يبدو أنه لم يحقق النجاح المأمول، حسبما ذكرت وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية التي وصفت جولة وزير الخارجية بـ”المرهقة” وما أنجزه خلالها بـ”النجاح المحدود” في الحشد لدعم اقتراح إدارة بايدن بخصوص “هدنة إنسانية مؤقتة”.
وحاول وزير الخارجية الأمريكي خلال تلك الجولة وما سبقها من تصريحات عدة إيهام المجتمع الدولي والإقليمي بأن وقف إطلاق النار سيزيد المنطقة توترًا ولن يحل الأزمة، مؤكدًا خلال لقاءاته مع مسؤولين عرب أن الحل الوحيد هو إزالة حماس من القطاع بأكمله.
تخفيف ضغط الرأي العام العالمي
تحاول الإدارة الأمريكية الهروب من مأزق ضغط الرأي العام الممارس عليها جراء دعمها اللامحدود لحرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضد فلسطيني غزة، لكنها في الوقت ذاته تأبى فكرة وقف إطلاق النار خشية أن يصب ذلك في صالح حماس، وعليه تحاول خداع المجتمع الدولي عبر استراتيجية الهدن الإنسانية التي لن تسمح حكومة الحرب الإسرائيلية بتمريرها إلا بشروط مشددة ربما تجهضها قبل بدايتها.
وتعي واشنطن حجم الانتقادات العالمية جراء الجرائم الإسرائيلية، لاسيما بعد استدعاء كل من الأردن وتركيا والبحرين لسفرائهم لدى الكيان للاحتجاج، فضلًا عن قطع العلاقات الدبلوماسية من قبل بعض دول أمريكا اللاتينية، مع احتمالية اتساع رقعة الغضب والاحتجاج إلى مستويات ربما تضع المصالح الأمريكية وصورة الدولة في خطر.
بكفوف حمراء.. أتراك يتظاهرون في محيط وزارة الخارجية التركية بالعاصمة #أنقرة رفضًا لزيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني #بلينكن للبلاد pic.twitter.com/0lkZ2zBeEw
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) November 6, 2023
كذلك تآكل الدعم الدبلوماسي للكيان المحتل، فبعد شهر على المجازر المرتكبة ليل نهار، تراجع زخم الدعم الدولي المقدم لتل أبيب مقارنة بما كان عليه عشية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كما أشارت صحيفة “جروزاليم بوست” الإسرائيلية، التي كشفت عن تزايد ضغوط الحلفاء على “إسرائيل” لدفعها لقبول هدنة إنسانية طالب بها بايدن.
وأشارت أن بايدن وإدارته يواجهون ضغوطًا كبيرة من الناخبين المسلمين الأميركيين خاصة بعد إعرابهم عن نيتهم الامتناع عن التصويت في انتخابات عام 2024 بسبب دعم إدارة بايدن لدولة الاحتلال في حربها ضد غزة، متجاهلة الانتهاكات الممارسة على مدار الأيام الماضية، وقد كشف استطلاع رأي أجرته جامعة هارفارد أن 48% من الشباب المستطلعة أرائهم يقفون إلى جانب حماس بدلًا من “إسرائيل”، ونفس النسبة لا توافق على سياسة بايدن المؤيدة لـ”إسرائيل”.
تحييد الإقليم.. رسائل التحذير والمغازلة
الهدف الأبرز الذي حاول “اليهودي” بلينكن تحقيقه من زيارته تحييد العرب والإقليم إزاء الحرب في غزة، ومحاولة إبعاد حكومات المنطقة عن ساحة المواجهة، مكتفية ببيانات الإدانة والشجب والاستنكار دون التحرك العملي، خشية توسع دائرة الأزمة.
ويحاول وزير خارجية بايدن امتصاص غضب الشارع العربي من خلال التصريحات الدافئة الداعمة لحماية المدنيين من الاستهداف، رغم الدعم العسكري والسياسي واللوجستي غير المسبوق للكيان المحتل، مستغلًا ضعف الحكومات العربية وعدم نيتها التصعيد في ظل معادلة الحسابات والمواءمات التي تقف حجر عثرة أمام أي تحرك ميداني.
ويحمل بلينكن بموازاة رسائل الطمأنة والمغازلة، أخرى تحذيرية تتمثل في ترسيخ أركان الترسانة العسكرية الأمريكية في المنطقة، في البحر المتوسط والخليج العربي ودول المنطقة، وذلك لردع أي محاولة إقليمية، إيرانية أو عربية، لتوسيع دائرة المواجهة والانخراط في الحرب بشكل مباشر، قد تمثل تهديدًا للأمريكان وحلفائهم، وهو ما لاتريده واشنطن وتسعى للحيولة دون حدوثه.
#عاجل
بلينكن: بحثت في أنقرة تطورات التصعيد في غزة وتجنب اتساع الصراع#غزة #إسرائيل #فلسطين pic.twitter.com/894RfHjEUL— سكاي نيوز عربية (@skynewsarabia) November 6, 2023
غزة ما بعد الحرب
يحاول بلينكن بأمر مباشر من إدارة بايدن وتماهيًا مع المزاج الإسرائيلي تمرير سردية أن القضاء على حماس مسألة مفروغ منها، وأن الوضع الآن يتطلب مناقشة غزة ما بعد حماس، وغزة مابعد الحرب، وهو الهدف الرئيسي الذي أعلن عنه جيش الاحتلال منذ شن حربه قبل شهر.
تحت عنوان (جولة بلينكن في الشرق الأوسط للحصول على الدعم لغزة ما بعد الحرب) نشرت صحيفة “بوليتيكو” تقريرًا مطولا أشارت فيه إلى أن بلينكن حاول من خلال تلك الزيارة حشد الدعم بين جيران “إسرائيل” في الشرق الأوسط للتخطيط لمستقبل ما بعد الحرب في غزة، بعد أن رفض رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو دعوات الولايات المتحدة لهدنة إنسانية.
الصحيفة أوضحت أن محور كبير من المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأمريكية مع مسؤولي المنطقة تطرق لمناقشة هذا الأمر، غزة بدون حماس، غزة ما بعد الحرب، كما شكر رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي على ما أسماه “قيادته في منع لبنان من الانجرار إلى حرب لا يريدها الشعب اللبناني”.
واشنطن بوست: عباس أبدى استعداده لبلينكن للمساعدة في إدارة غزة إذا تم عزل "حـ.ـمـ.ا.س" pic.twitter.com/q41f3th3le
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 6, 2023
ورغم مطالبة القادة العرب خلال لقائهم مع بلينكن في جولته الأولى ووزراء خارجيتهم في الجولة الثانية بضرورة وقف إطلاق النار أولًا، وإنقاذ المدنيين ووقف القصف الإجرامي ثانيًا، بجانب تأكيد بعض العواصم الإقليمية كالدوحة وأنقرة تحديدًا على أن حماس ليست منظمة إرهابية وأنها تقاوم لأجل الدفاع عن أرضها وأن المسؤولية تلقى في المقام الأول على الاستفزازات الإسرائيلية خلال الآونة الأخيرة، إلا أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس كان له رأي أخر.
بعد قدومه إلى #تركيا للتباحث حول العدوان الإسرائيلي على غزة.. وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، يصافح نظيره الأميركي، أنتوني بلينكن، بطريقة باردة ويمتنع عن عناقه#غزة_تستغيث#طوفان_القدس pic.twitter.com/C2GD0iBcxD
— نون بوست (@NoonPost) November 6, 2023
وقد نقلت “رويترز” عن مسئول أمريكي رفيع قوله إن أبو مازن أبدى خلال لقاءه بلينكن في رام الله – وهو اللقاء الثاني من نوعه منذ بداية الحرب- استعداده “للمساعدة في إدارة القطاع” بعد “عزل” حماس، فيما رد عليه الوزير الأمريكي بأنه يتعين على السلطة الفلسطينية أن تلعب دورًا محوريًا في غزة في المستقبل، بحسب المسئول الأمريكي الذي أضاف أن بلينكن شكر أبو مازن لدوره في الحفاظ على الهدوء في الضفة الغربية.
ورغم فشل بلينكن في تحقيق الأهداف المنشودة من وراء تلك الزيارة بحسب الإعلام الأمريكي إلا أنه على الأقل استطاع شق الصف من خلال إحداث حالة من الانقسام بشأن وقف إطلاق النار وتمهيد الطريق لمرحلة غزة مابعد الحرب، لكن تبقى الكلمة الأولى والأخيرة للمقاومة الصامدة حتى اليوم في مواجهة الاحتلال محققة العديد من المكاسب الميدانية رغم صعوبة المواجهة.