مثّل الفساد المنتشر في البلاد، أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة التونسية في ديسمبر 2010، فقد ذاق الشعب التونسي ذرعا من الفساد الذي كان السمة الأبرز لهذا البلد العربي والعائلة الحاكمة، الطرابلسية، التي تمسك بزمام الأمور في البلاد من أبسط شيء إلى أعلاه.
بعد 14 يناير 2011، وهروب زين العابدين وأغلب أفراد العائلة الحاكمة وسقوط بعض أركان حكمه، ظنّ التونسيون أن زمن الفساد ولّى إلى غير رجعة وستتم محاسبة الفاسدين والمذنبين الذين أوصلوا البلاد لما هي عليه الأن من ضعف، إلاّ أن كل ذلك لم يحصل، حتى استفاق التونسيون على مشروع قانون “المصالحة الوطنية مع كبار رجال الأعمال والموظفين الفاسدين” الذي يسعى البعض لتمريره، بالتزامن مع استفحال ظاهرة الفساد وعودتها بقوة في جلّ المجالات.
تشريع الفساد
في الوقت الذي ينادي فيه أغلب فئات الشعب التونسي بضرورة محاسبة الفاسدين الذين أذنبوا في حقّ البلاد، يسعى حزب نداء تونس، أحد الأحزاب الحاكمة في البلاد، إلى تمرير مشروع قانون “المصالحة الوطنية في المجال الاقتصادي والمالي” الذي يقرّ العفو على قرابة 400 رجل أعمال تورطوا في قضايا فساد، والعفو عن الموظفين العموميين، وأشباههم بخصوص الأفعال المتعلقة بالفساد المالي، والاعتداء على المال العام، ما لم تكن تهدف إلى تحقيق منفعة شخصية. وتستثنى الرشوة والاستيلاء على الأموال العمومية، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (1987 – 2011)، من الانتفاع بهذه الأحكام.
شدّدت “وثيقة قرطاج”، التي تحدد أولويات حكومة الوحدة الوطنية الحالية، على مكافحة الفساد كأحد أبرز التحديات التي تواجهها الديمقراطية الناشئة
ويعمل نداء تونس وبعض الأطراف المحيطة به على تمرير مشروع هذا القانون الذي صادقت عليه الحكومة التونسية في 14 يوليو 2015، بعد أن اقترحه الرئيس الباجي قائد السبسي، بهدف طي صفحة الماضي، وإغلاق الملفات المرتبطة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، حسب ادّعائهم. ويؤكّد حرص هؤلاء على تمرير مشروع هذا القانون، تواصل منظومة الفساد التي كانت تحكم البلاد وخياراتها السياسية والاقتصادية الفاشلة، ومحاولة الالتفاف على المحاسبة كحلقة رئيسية ضمن مسار العدالة الانتقالية، وتشريع الإفلات من المحاسبة والتطبيع مع الفاسدين، حسب عديد المراقبين.
مظاهرة للتنديد بمشروع قانون المصالحة
وإضافة إلى كونه يمثل خرق للدستور وقانون العدالة الانتقالية ومنظومة كشف الحقيقة التي تقتضي فضح منظومة الفساد والاستبداد والتفريط في مصالح البلاد، وكشف خيوطها كاملة ومحاسبة المتورطين فيها بهدف منع تكرارها ومنع أي محاولة للإفلات من العقاب، فإن مشروع هذا القانون يمثّل أحد مظاهر الفساد الذي يراد له تشريعا قانونيا. يذكر أن “وثيقة قرطاج”، التي تحدد أولويات حكومة الوحدة الوطنية الحالية، والتي أمضت عليها الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، تشدد على مكافحة الفساد كأحد أبرز التحديات التي تواجهها الديمقراطية الناشئة.
ارتفاع عدد الملفات
منذ سنة 2012، بدأ الحديث عن وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد في تونس، لكن منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، بقي الموضوع مجرد شعارات، وإلى غاية شهر سبتمبر الماضي، تلقت هيئة مكافحة الفساد بتونس (دستورية مستقلة) التي تأسست أواخر 2011 خلفا للجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة، التي تم إنشاؤها مباشرة بعد الثورة في السنة نفسها، ما يقارب 12 ألف و500 ملف فساد.
رصدت تقارير منظمات دولية من بينها منظمة الشفافية الدولية، ارتفاعا ملحوظا لنسب الفساد خلال فترة الانتقال الديمقراطي
وتعاني هذه الهيئة من عديد الإشكاليات، على رأسها نقص في الموارد البشرية والمادية، وغياب جهاز تقصي رغم أهمية هذا الأمر في مسار الكشف عن الفساد ومحاربته، حيث قال رئيسها شوقي الطبيب “لا يمكن مقاومة الفساد دون إمكانيات تمنح للهيئات والسلطات المعنية بذلك”. وأوكلت للهيئة مهام اقتراح سياسات لمكافحة الفساد، وإبداء الرأي في مشاريع القوانين الخاصة بذلك، فضلا عن تلقي الشكاوى والإشعارات حول حالات الفساد والتحقيق فيها وإحالتها إلى الجهات المعنية.
وما فتئت الحكومة التونسية بتفشي الفساد، حيث قال وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان بتونس، مهدي بن غربية، مؤخرا، إن الفساد موجود في البلاد “بكل مفاصل الدولة” والإدارات و “لا يمكن إنكاره”.
مطالب بمحاسبة الفاسدين في تونس
وفي وقت سابق، قال رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب إن الفساد شمل جميع أوجه الحياة في تونس، وأضاف في تصريحات لاحقة أن من وصفهم بـ “بارونات الفساد” اخترقوا القضاء والإعلام ووزارة الداخلية والأحزاب والجمارك وحتى مجلس النواب من أجل الإفلات من المحاسبة. ورصدت تقارير منظمات دولية من بينها منظمة الشفافية الدولية، ارتفاعا ملحوظا لنسب الفساد خلال فترة الانتقال الديمقراطي، وجاءت تونس سنة 2016 في المركز 75 من بين 168 دولة بعد أن كانت في المركز 59 عام 2010 من بين 177 دولة، وذلك وفق تصنيف الدول الأقل فسادا وشفافية.
نماذج فساد
عديدة هي ملفات الفساد الموضوعة أمام القضاء وأمام لجان مكافحة الفساد المتعددة من بين هذه الملفات، ملف شركة اتصالات تونس (حكومية) التي تحوم حولها شبهات فساد وتضارب مصالح وإضرار بالدولة التونسية في صفقة شراء الشركة أسهم مزود خدمات الهاتف المالطي “Go Malta” البالغة حوالي مئة مليون سهم بقيمة 287 مليون يورو (أكثر من 700 مليون دينار تونسي). وتعود ملكية 60% من أسهم الشركة المالطية للاتصالات التي تتحكم بسوق الاتصالات الأرضية والخلوية في مالطا، لشركة الإمارات للاتصالات التي تمتلك بدورها 35% من شركة اتصالات تونس.
كشفت تقارير اعلامية عن معطيات حول الشركة الموريتانية تفيد تورطها في اخلالات قانونية وتجاوزات عديدة في مجال الحسابات السنوية المزورة والأرباح الوهمية
وبعد هذا الملف، ظهر ملف فساد أخر في الشركة، متعلق بشركة الاتصالات الموريتانية التي تمتلك شركة اتصالات تونس 51% من أسهمها، حيث اتهم النائب في البرلمان التونسي عن حزب حراك تونس الإرادة، عماد الدايمي شركة اتصالات تونس بالتورط في شبهات فساد مؤكدا أن الشريك الموريتاني لاتصالات تونس رفع قضية جزائية ضد شركة اتصالات تونس وضد كل من المدير العام السابق لشركة ماتيل في موريتانيا، و الرئيس المدير العام السابق لاتصالات تونس، و الرئيس المدير العام الحالي لاتصالات تونس، و المدير العام الحالي لماتيل بتهمة تقديم وثائق مزورة عن وضعها المالي.
تحوم حول شركة “اتصالات تونس” شبهات فساد عديدة
وكشفت تقارير إعلامية عن معطيات حول الشركة الموريتانية تفيد تورطها في إخلالات قانونية وتجاوزات عديدة في مجال الحسابات السنوية المزورة والأرباح الوهمية والصفقات المشبوهة وغيرها بشكل أدى إلى تدهور أوضاع الشركة وخسارتها لريادة السوق الموريتانية لصالح الشركتين المنافستين. وقامت موريتانيا بتجديد الترخيص لشركة اتصالات تونس منتصف العام 2015، لمدّة مدة 5 سنوات بعد أن كانت رخصتها الأولى لمدة 15 سنة كاملة.
ويتسبب الفساد وغياب آليات الحوكمة الرشيدة في خسائر مالية لخزينة الدولة التونسية تُقدر بنحو ملياري دينار (851 مليون دولار) سنويا، وذلك وفقا لبيانات إحصائية سابقة للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس.