هي لعبة كرة قدمٍ ولكنّها ليست ككرة القدم التي نعرفها، فلا ملاعب خضراء فيها ولا خطوط ولا أحذية أيضًا! بل شواطئ ذهبيّةٌ وأقدامٌ عاريةٌ تنثر السحر على الرمال!
إنّها لعبة كرة القدم الشاطئيّة، التي تحمل من المهارات الفنّيّة والسحر الكرويّ أضعاف ما تحمله كرة القدم التقليديّة، ولهذا ارتبطت تلك اللعبة بالبرازيل، مهد فنّاني وسحرة السامبا، التي يتنفّس شعبها كرة القدم كالهواء.
كانت كرة القدم الشاطئيّة تُمارس على شواطئ البرازيل منذ عرف ذلك الشعب كرة القدم التقليديّة
إذًا، على شواطئ البرازيل وفوق رمالها الحارّة بدأت لعبة كرة القدم الشاطئيّة “Beach Soccer”، ومنها انطلقت نحو العالم، لتغدو في زمنٍ قياسيٍّ إحدى الرياضات المفضّلة لدى كثيرٍ من الشعوب، ممّا أغرى مسؤولي منظّمة الفيفا بالاعتراف بها كلعبةٍ رسميّةٍ معتمدة، وتنظيم بطولة كأس عالمٍ خاصّةٍ بها تقام مرّةً كلّ عامين.
فكيف مضت قصّة كرة القدم الشاطئيّة حتّى غدت على هذا النحو؟ فلنتابع:
شاطئ كوباكابانا الشهير في ريو دي جانيرو
يذكر التاريخ أن كرة القدم الشاطئيّة كانت تُمارس على شواطئ البرازيل منذ عرف ذلك الشعب كرة القدم التقليديّة، بل قبل ذلك ربّما، وقد دأب معظم أصحاب المنتجعات السياحيّة ذات الشواطئ الرمليّة في المدن البرازيليّة، على تنظيم بعض المنافسات المحلّية الخاصّة باللعبة، بغرض اجتذاب السيّاح الذين يعشقون مهارات نجوم هذه اللعبة، ومنها بطولةٌ نُظّمت في مدينة ريو دي جانيرو عام 1950، على هامش استضافة البلاد لبطولة كأس العالم في كرة القدم التقليديّة آنذاك.
الإيطالي جيانكارلو سينيوريني هو مؤسس اللعبة الحديثة عام 1992
وظلّت للعبة تُمارس بشكلٍ غير احترافيٍّ على شواطئ بعض دول العالم، وتُستخدم أحيانًا في التدريبات الخاصّة بلاعبي كرة القدم التقليديّة، حتّى عام 1992، حين قام أحد عشّاق اللعبة، وهو رجل أعمالٍ إيطاليٍّ يُدعى جيانكارلو سينيوريني، بتبنّي اللعبة ماليًّا وتنظيميًّا، حيث عمل على إيجاد قانونٍ وأسسٍ موحّدةٍ لها، وشرع بتنظيم منافساتها وتمويلها، فنظّم بطولةً تجريبيّةً للعبة صيف عام 1993، على شاطئ مدينة ميامي الأمريكيّة، بمشاركة فرقٍ أمريكيّةٍ وبرازيليّةٍ وآرجنتينيّةٍ وإيطاليّة، قبل أن ينقل التجربة في العام التالي إلى شاطئ كوباكابانا في ريو دي جانيرو البرازيليّة، حيث تحظى اللعبة بشعبيّةٍ هائلةٍ جعلها تجتذب بعض وسائل الإعلام، التي قامت بتغطية فعّاليّاتها تلفزيونيًّا، ممّا اعتُبر انطلاقةً حقيقيّةً للعبة آنذاك.
الفرنسي إريك كانتونا أحد أشهر من مارس كرة القدم الشاطئيّة احترافيًّا
وبالفعل، وبعد النجاح الذي حققته تجارب سينيوريني، أبدت بعض الفعّاليّات الاقتصاديّة رغبتها في تأسيس شراكةٍ تجاريّةٍ معه، بغرض الاستفادة من شعبيّة اللعبة وخاصّةً في البرازيل، وأثمرت تلك الشراكة عن تأسيس منظّمة Beach Soccer Worldwide “BSWW“، التي تولّت تنظيم أوّل بطولة عالمٍ خاصّةٍ باللعبة في شهر مايو من عام 1995، على شاطئ كوباكابانا في مدينة ريو دي جانيرو البرازيليّة.
أقيمت أوّل بطولة عالم لكرة القدم الشاطئيّة في البرازيل عام 1995
ولم تكتفِ المنظّمة بهذا الحدث الذي أصبح يُنظّم سنويًّا في ذات المكان والزّمان، بل تابعت جهودها الرامية إلى نشر اللعبة على نطاقٍ أوسع، فبدأت منذ عام 1996 بتنظيم ورعايةٍ حملةٍ ترويجيّةٍ ضخمة، شارك فيها بعض مشاهير كرة القدم، كالبرازيليين زيكو وروماريو، والإسبانيين ميشال وخوليو ساليناس، والفرنسي إريك كانتونا، حيث شملت الحملة إقامة أكثر من 60 مباراةً على مدى عامين، في عددٍ من بلدان أوروبّا وآسيا والأمريكيّتين، وقد أثمرت تلك الجهود عن إطلاق بطولة الدّوري الأوروبيّ للكرة الشاطئيّة “Euro BS League” اعتبارًا من عام 1998، إضافةً لتأسيس اتّحاداتٍ محلّيةٍ للعبة في عدّة بلدان، كأستراليا والمكسيك وتايلند واليابان وبريطانيا والإمارات.
جانبٌ من إحدى مباريات بطولة العالم في تاهيتي عام 2013
وأغرى ذلك النجاح الباهر للعبة الاتّحاد الدّولي لكرة القدم “FIFA”، فوقّع عقدًا مع منظّمة BSWW، انتقلت بموجبه منافسات كرة القدم الشاطئيّة إلى حظيرة الفيفا، التي أصبحت الجهة المنظّمة لبطولة العالم للعبة اعتبارًا من عام 2005، وقد بقيت البطولة تقام سنويًّا حتّى عام 2009، وأصبحت تقام كلّ عامين اعتبارًا من عام 2011، علمّا بأنّ منافساتها بقيت تُقام في البرازيل حتّى عام 2007، قبل أن يتم تنظيمها في بلدانٍ أخرى، كفرنسا عام 2008، والإمارات عام 2009، وإيطاليا عام 2011، وتاهيتي عام 2013، والبرتغال عام 2015، وأخيرًا جزر الباهامس عام 2017.
اعتبارًا من عام 2005، أصبحت منافسات كرة القدم الشاطئيّة تقام تحت رعاية منظّمة الفيفا
وتحمل البرازيل الرقم القياسيّ في عدد مرّات الفوز ببطولة العالم، برصيد 14 لقبًا من أصل 19 نسخة، آخرها لقب بطولة العالم الأخيرة التي اختتمت قبل أيّام، وحققت البرازيل لقبها على حساب تاهيتي، فيما تحتلّ كلٌ من البرتغال وروسيا المركز الثاني تاريخيًّا برصيد لقبين لكلٍّ منهما، مقابل لقبٍ وحيدٍ لفرنسا أحرزته عام 2005، في النسخة الأولى للبطولة تحت إشراف الفيفا.
مخطّطٌ يوضّح أبعاد ملعب الكرة الشاطئيّة
ورغم تشابه كرة القدم الشاطئيّة مع نظيرتها التقليديّة في كونهما تمارسان بالأقدام والرؤوس، بكراتٍ متماثلةٍ من حيث الوزن والحجم، تختلف اللعبتان في نواحٍ كثيرةٍ أخرى، تبدأ بحجم الملعب والمرمى، حيث يتراوح طول الملعب بين 35 و37 مترًا، وعرضه بين 26 و28 مترًا، فيما يبلغ عرض المرمى 5,5 مترًا، وارتفاعه 2,2 مترًا، فيما تبعد نقطة الجزاء عن المرمى حوالي 9 أمتار، وتُحدّد برايةٍ صفراء توضع على طرف الملعب، بسبب عدم إمكانيّة رسمٍ خطوطٍ على الأرضيّة الرمليّة، كما يُحدّد خطّ المنتصف برايتين حمراوين على طرفي الملعب.
تُمارس كرة القدم الشاطئيّة على ملاعب رمليّة بأقدام عارية
ويبلغ عدد لاعبي كلّ فريق في كرة القدم الشاطئيّة 5، بما فيهم حارس المرمى، ويُسمح بعددٍ لا محدودٍ من التبديلات خلال المباراة، التي تبلغ مدّتها 36 دقيقةً، تقسم على 3 أشواطٍ بواقع 12 دقيقةً لكلّ شوط، تفصل بينها استراحتان بمدّة 3 دقائق لكلٍّ منهما، على أن تُمدّد المباراة ل3 دقائق إضافيّةٍ في حال انتهائها بالتعادل، وتُحسم بركلات الجزاء الترجيحيّة في حال استمرار التعادل بعد التمديد.
الكرة المستخدمة في اللعبة
ويتولّى إدارة المباراة 4 حكّام، منهم اثنان داخل الملعب، وثالثٌ على الخطوط لإدارة عمليات التبديل، ورابعٌ يتولّى إدارة ساعة التوقيت، التي تحتسب فقط عدد دقائق اللعب الفعليّة وتتوقف عند توقّف اللعب، علمًا بأن جميع المخالفات يتمّ احتسابها كركلاتٍ حرةٍ مباشرةٍ يُلزم بتنفيذها اللاعب الذي تعرّض للخطأ، فيما تُوجّه البطاقة الصفراء للاعب المخالف، وهي تعني استبعاده من الملعب لمدّة دقيقتين، أمّا البطاقة الحمراء فتعني استبعاد اللاعب نهائيًّا، على أن يتم السّماح بدخول بديلٍ له بعد مرور دقيقتين على طرده.
عدد لاعبي كلّ فريق يبلغ 5، ومدّة المباراة 36 دقيقة على 3 أشواط، ولا يوجد قانون تسلل
ولا يُسمح للاعبين بانتعال أحذيةٍ في كرة القدم الشاطئيّة، إنّما يمكنهم فقط ارتداء الجوارب القماشيّة والمشدّات الواقية حول الكاحل في حال الرغبة، ولا توجد ركلات مرمى، ويمكن تنفيذ رميات التماس باليدين أو القدمين، كما لا يوجد قانون تسللٍ في كرة القدم الشاطئيّة، ممّا يسهم في زيادة عدد الأهداف التي قد تصل إلى 20 هدفًا في المباراة الواحدة.
تشكيلة المنتخب الإماراتي في كأس العالم الأخيرة
وتُمارس كرة القدم الشاطئيّة اليوم في أكثر من 100 بلدًا حول العالم، منها معظم بلداننا العربيّة التي يُعتبر وجود اللعبة فيها حديث العهد نسبيًّا، شأنها شأن بلدان القارّتين الآسيويّة والإفريقيّة، ورغم ذلك استطاعت الكرة الشاطئيّة العربيّة شقّ طريقها نحو العالميّة، إذ سجّلت البحرين أفضل نتيجةٍ للعرب في بطولة كأس العالم، ببلوغها ربع نهائيّ بطولة عام 2006، فيما تحمل الإمارات في رصيدها 5 مشاركاتٍ عالميّة، آخرها في البطولة الأخيرة التي اختتمت قبل أيام، وكان أبناء الإمارات قريبين جدًّا من تحقيق إنجازٍ تاريخيٍّ، يتمثّل ببلوغهم الدّور ربع النهائي للمرّة الأولى، لولا خسارتهم الصعبة أمام البرتغال.
وعلى الصعيد القارّي، تتضمّن سجّلات بطولة آسيا 4 ألقابٍ للعرب، منها اثنان للإمارات ولقبٌ لكلٍّ من البحرين وعُمان، فيما لم تنجح أيٌّ من بلدان عرب إفريقيا في الظفر باللقب القارّي، رغم تحقيق مصر المركز الثالث في 3 مناسبات، والمغرب في مناسبةٍ واحدة.
تحمل البرازيل الرقم القياسيّ في عدد مرّات الفوز ببطولة العالم، برصيد 14 لقبًا من أصل 19 نسخة
وأخيرًا ندعوكم لمشاهدة مقطعي فيديو مختارين، يتضمّن الأوّل مشاهد مطوّلةً من المباراة النهائيّة لكأس العالم الأخيرة، التي جمعت بين البرازيل وتاهيتي، وانتهت بفوزٍ ساحقٍ لسحرة السامبا بنتيجة 6-0، فيما يتضمّن مقطع الفيديو الثاني باقةً من أجمل لقطات وأهداف لعبة كرة القدم الشاطئيّة، التي جعلتها أهلًا للقب لعبة الفنّانين والسحَرة: