لم يكن مفاجئا أن يصل الشاب الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية أمام منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان، فالفرق بين شعبيّة المرشّحين لا يمكن إخفاؤه ولا تجاهله من قبل المتابعين لمسار الانتخابات الفرنسية.
ففي ظرف ثلاثة أعوام، تمكن الرئيس الجديد المنتخب من الانتقال من مستشار للرئيس فرانسوا هولاند إلى ثامن رئيس للجمهورية الخامسة، وأصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الفرنسية عن عمر 39 عاما، يحمل معه مشروعا حداثيّا مبنيا على الانفتاح على جيرانه وخاصة منهم الدول المغاربية، وفق ما أكد ذلك في تصريحات سابقة.
يعلم جيّدا ماكرون أن بلاده لا يمكن لها أن تستغني عن تونس التي تعني الكثير لفرنسا والفرنسيين
الرئيس الفرنسي الجديد الذي رحّب التونسيون بوصوله إلى قصر الإليزيه بدل لوبان البنت، كان قد أكد في حوار سابق أجرته معه مجلة “جون أفريك” أواخر شهر أبريل الماضي، أن المغرب والجزائر وتونس ستكون وجهاته الأولى فور فوزه برئاسة فرنسا رسميا.
يعلم جيّدا ماكرون أن بلاده لا يمكن لها أن تستغني عن تونس التي تعني الكثير لفرنسا والفرنسيين، حتى أنه كان قد صرح قائلا قبيل انعقاد مؤتمر الاستثمار الدولي بتونس العام الماضيإنه “لو كان رئيس فرنسا لاستدعى لهذا الملتقى كبار الصناعيين الفرنسيين لإثراء الانتقال الديمقراطي بتونس ولقام بكل ما في وسعه لإسقاط الكثير من ديون تونس لفرنسا”، كما وعد حينها في حوار لبرنامج الماتينال على أمواج إذاعة “إكسبريس أف أم” التونسية، بأنه في صورة فوزه في الانتخابات الرئاسية، فإنه سيعمل على إعادة جدولة الديون التونسية وتحفيز المؤسسات الفرنسية على الاستثمار في تونس، إلى جانب تنظيم مؤتمر دولي حول ليبيا.
الارتياح الشعبي والحكومي والحزبي في تونس، بوصول إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه، دفع بعض المراقبين إلى القول إن العلاقات الفرنسية التونسية ستدخل مرحلة جديدة من الودية والتعاون على جميع الأصعدة، لكن هذا التفاؤل الكبير يصطدم بواقع صعب تعيشه “الجمهورية الخامسة” الجريحة، خاصة أمام تفشّي نسب البطالة والكراهية والشعبويّة في بلاد انتخب ثلث شعبها زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبان.
قبل الحديث عن نظرة الإدارة الجديدة للإليزيه إلى تونس، يجب علينا أن نعلم بأن السياسة الخارجية الفرنسية لم ولن تتغيّر بين عشيّة وضحاها بوصول رئيس جديد للسلطة، فالرؤساء الفرنسيون المتعاقبون بدءا من شارل ديغول وصولا إلى جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، كانت سياستهم الخارجية تقريبا متطابقة في تعاملهم مع بلدان المغرب العربي، إلى حين اندلاع الثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة وكانت شرارتها من مدينة سيدي بوزيد التونسية.
اللافت في فوز ماكرون، هو مسارعة حركة النهضة “الإسلامية” إلى تهنئته بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية، وتأكيد حرصها على إعطاء دفع جديد للعلاقات بين تونس وفرنسا
اللافت في فوز ماكرون، هو مسارعة حركة النهضة “الإسلامية” إلى تهنئته بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية، وتأكيد حرصها على إعطاء دفع جديد للعلاقات بين تونس وفرنسا فى كل مجالات التعاون القائمة وفتح أفاق أخرى جديدة للتعاون والعمل المشترك، إضافة إلى تعبيرها في بيان لها عن اطمئنانها والشعب التونسي الذى قاوم الاستبداد وانتصر عليه بثورة الحرية والكرامة لفوز الرئيس ماكرون، بعد أن نجح فى تعبئة كل المتمسكين بقيم الحرية والديمقراطية والمناهضين للإرهاب ولدعوات الكراهية والانطواء على النفس.
النقطة المثيرة للاهتمام في بيان الحركة المنسلخة حديثا عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، هو تأكيد رغبتها فى تنسيق المواقف بينها وبين فرنسا في بعض القضايا الحساسة والمستعجلة ومنها تدعيم الديمقراطية واحترام حقوق المهاجرين ومقاومة الإرهاب وتعزيز الأمن والسلم وتطوير المبادلات بين الاتحاد الأوروبى ودول شمال أفريقيا، على أسس أكثر عدالة بما يجعل حوض البحر الأبيض المتوسط فضاء مشتركا آمنا تسوده قيم التعاون والتسامح.
بيان تهنئة النهضة لإيمانويل ماكرون، كشف عن اطمئنان مبالغ فيه خاصة إذا ما تم مقارنته ببيان تهنئة دونالد ترمب بفوزه بالانتخابات الأمريكية، حيث اعتبرت وقتها “خطاب المرشّحين الاثنين في السباق الرئاسي الأخير قد تمحور وبالأساس حول قضايا الداخل الأمريكي في مجالاته المتعددة في حين لم يمثّل الخارج وما يتعلق به من سياسات كبرى ومواقف وتحالفات محورا بارزا ومجالا كبيرا للتناظر والخلاف بين المرشحين باعتبار أن ضبط هذه المسائل الإستراتيجية تتولاّه بالأساس المؤسسات بناء على المصالح القومية الأمريكية العليا في العالم”، في مغالطة صريحة للرأي العام المحلي الذي يعلم أن السياسة الخارجية الأمريكية كانت المحور الأبرز والأهم في السباق الانتخابي الأمريكي.
القول بأن السياسة الفرنسية تجاه تونس ستتغيّر بوصول ماكرون إلى حكم فرنسا ليس أكثر من أمنية لدى التونسيين، فالنفوذ الفرنسي المعشّش في البلاد منذ عقود، لن ينتهي بمجرّد تغيّر الأسماء
إن القول بأن السياسة الفرنسية تجاه تونس ستتغيّر بوصول ماكرون إلى حكم فرنسا ليس أكثر من أمنية لدى التونسيين، فالنفوذ الفرنسي المعشّش في البلاد منذ عقود، لن ينتهي بمجرّد تغيّر الأسماء، خاصةّ إذا ما علمنا بأن حجم الدين الكبير لفرنسا على تونس، والبالغ قرابة 13 مليار يورو وخشية الحكومة التونسية من عواقب مطالبة فرنسا بديونها، قد يزيد من فرص فرض الإدارة الفرنسية الجديدة لوصاية جديدة قد تكون أشدّ وقد تساهم في مزيد تركيع الدولة التونسية.
الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي الذي أعلن عن عزم بلاده تطوير الشراكة الإستراتيجية التونسية الفرنسية والعمل على تعزيز التعاون الثنائي في جميع المجالات وأمله في أن تعزز فرنسا دعمها لتونس للمساعدة في مواجهة التحديات المتمثلة في الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز الحوار السياسي بين البلدين حول القضايا الثنائية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك بالإضافة إلى القضايا العالقة بشأن مكافحة الإرهاب واستقرار الوضع في ليبيا، في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وسوريا وإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط، وفق رسالة التهنئة التي أرسلها لماكرون، يعلم أن المأمورية ستكون صعبة هذه المرّة، في ظل فارق واضح في رؤى الإدارتين إحداهما هرمة والأخرى شابّة، لكن رهانه على ضرورة أن لا تنزلق تونس نحو مستنقع الفوضى لأن ذلك لا يصبّ في مصلحة فرنسا، سيكون ورقة ضغط قوية في يد الشيخ التسعيني.
وحدها الأشهر القادمة ستكشف لنا عن رؤى الإدارة الفرنسية الجديدة تجاه تونس، فإما مواصلة لسياسة امتدّت لعقود من الزمن، أو تحوّل شامل يخرج العلاقات من طور السيطرة والنفوذ والإملاءات إلى التعاون المشترك وتكريس مبدأ الاستقلالية في اتخاذ القرارات بعيدا عن خدمة المصالح الضيّقة لأطراف بعينها.