في خطوة وصفت بـ”الصدمة” فاجئ الرئيس الأمريكي، بقرار إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، جيمس كومي من منصبه، ما تسبب في إحداث حالة من الارتباك لدى الشارع الأمريكي، خاصة وأن الرجل كان أحد الأسباب الرئيسية – سواء كان بقصد أو دون قصد – في وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما دفع الأخير إلى وصفه بـ”الشجاع”.
إقالة مدير الـ (FBI) ليست الأولى من نوعها، إذ سبقها قرارات أخرى تصب جميعها في إطار التخلص من الحرس القديم للرئيس ترامب، أبرزها إجبار مايكل فلين، مستشار الرئيس الأمريكي لشئون الأمن القومي، على تقديم استقالته فبراير الماضي بعد الإعلان عن تسريبات استخباراتية كشفت عن نقاشات جرت بينه وبين السفير الروسي في واشنطن، تتعلق بالعقوبات الأمريكية على روسيا، ثم التخلص من كبير المستشارين، الخبير الاستراتيجي ستيف بانون، وذلك بعزله من منصبه كعضو بمجلس الأمن القومي، وهو الذي كان يلقب بـ “ظل ترامب”.
الإطاحة بالمسئول الأول عن ملف التحقيقات في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية أثار العديد من علامات الاستفهام لدى الديمقراطيين على وجه الخصوص سواء من حيث دوافع الإقالة أو توقيتها الزمني علمًا بأن كومي كان أحد المسئولين عن خسارة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة حسبما أشارت في تصريحات سابقة لها.
من هو جيمس كومي؟
جيمس كومي، محامي وأستاذ جامعي، ولد في 13ديسمبر 1960، تقلد عددًا من المناصب القضائية، منها المدعي العام الأمريكي عن منطقة ساوث ديستريكت في نيويورك، والتي كانت السبب في لفت الأنظار إليه بسبب إصراره على الملاحقة القانونية للأغنياء وذوي السلطة.
في عام 2003 تولي منصب نائب وزير العدل في إدارة الرئيس السابق جورج بوش وبات محط أنظار الجميع وذلك عقب رئاسته التحقيق في بعض قضايا الرأي العام والتي أبلى فيها بلاءًا حسنًا، أثار إعجاب وتقدير قطاع كبير من الأمريكيين سواء على مستوى المسئولين أو المواطنينن ومن أبرزها قضية مارثا ستيورات، سيدة الأعمال الشهيرة والمذيعة المعروفة التي ضللت المحققين في قضية بيع أسهم. كما رأس أيضا القضية التي نالت تغطية إعلامية كبيرة واتهم فيها المصرفي والمستثمر الأمريكي في وول ستريت، فرانك كواترون.
بعد انتهاء ولاية بوش عمل كومي مستشارا عاما لجمعيات بريدجووتر، وهي صندوق حماية استثماري في ولاية كونيتيكت، فضلا عن تدريسه بكلية الحقوق بجامعة كولومبيا في نيويورك، إلى أن رشحه باراك أوباما مديرا لمكتب التحقيقات الفيدرالي عام 2013، حي وصفه حينها بأنه “الرجل الذي يقف شامخا من أجل العدالة وسيادة القانون”.
وقبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة استطاع كومي أن يلفت نظر دونالد ترامب من خلال تدخله مرتين إبان الحملة الانتخابية بإصدار تصريحات بشأن التحقيق في موضوع البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون، وهو ما أثر بشكل سلبي على حظوظ المرشحة الديمقراطية ما مهد الطريق أمام ترامب للبيت الأبيض.
الإصرار على الملاحقة القانونية للأغنياء وذوي السلطة أبرز صفات جيمس كومي التي ساهمت في شعبيته
الإضرار بسمعة العدالة
“إن سمعة مكتب التحقيقات الفيدرالى ومصداقيته عانوا من خسائر كبيرة، وقد اثر ذلك على وزارة العدل بكاملها”.. بهذا الدافع برر رود روزينشتاين، نائب المدعي العام الأمريكي قرار إقالة مدير المكتب، جيمس كومي، من منصبه.
التصريحات التي أدلى بها كومي أمام اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ في الثالث من مايو الماضي بشأن اختراق الرسائل الإلكترونية للمرشحة الديمقراطية الخاسرة هيلاري كلينتون، والزعم بأن “مساعدة كلينتون، هوما عابدين، أرسلت المئات بل الآلاف من الرسائل الإلكترونية، البعض منها تحتوي على معلومات سرية لزوجها آنذاك” كانت بمثابة الرصاصة التي قدمها لوزارة العدل لقتله بها.
وفي التاسع من مايو الجاري أشار مكتب التحقيقات الفيدرالي أن “عابدين أرسلت فقط مجموعتين من الرسائل المتبادلة بهما معلومات سرية لزوجها من أجل طباعتها”، موضحًا أن ” أغلبية الرسائل الإلكترونية البالغ عددها 49 ألف رسالة وجدت على الحاسوب الخاص لزوج عابدين نقلت عبر نسخة احتياطية لهاتف بلاك بيري الخاص بعملها” وهو ما يعني “عدم وجود شبهة جنائية في القضية” على عكس ما أدلى به جيمس كومي.
ترامب في رسالة لكومي قال إنه “من الضروري أن نجد قيادة جديدة لمكتب التحقيقات الفدرالي والتي ستعيد ثقة الناس به وبمهمته الحيوية لإحلال القانون”
البيت الأبيض رأي أن تلك التصريحات غير دقيقة وهو ماقد يعرض سمعة العدالة في أمريكا وثقة الشعب الأمريكي في مكتب التحقيقات الفيدرالي للإهتزاز والخطر، ومن ثم باشرت وزارة العدل ومكتب المدعي العام التحقيق في القضية وتداعيات ما أدلى به كومي، وقد توصلت إلى التوصية بإقالته والبحث عن مدير جديد للمكتب.
وعلى الفور أصدر ترامب قرارًا بإقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) مستندًا في ذلك إلى توصية من وزير العدل والمدعي العام الأمريكي، جيف سيشنز، ونائبه رود روزينشتاين الذي كتب يقول: ” “لا أستطيع الدفاع عن تعامل المدير مع ما خلص إليه التحقيق في الرسائل الإلكترونية للوزيرة كلينتون ولا أفهم رفضه قبول الحكم بأنه أخطأ”.
وفي رسالة بعثها ترامب لكومي قال فيها: “إنني أتفق مع الحكم الصادر عن وزارة العدل بأنكم غير قادرين على قيادة المكتب بفعالية، ومن الضروري أن نجد قيادة جديدة لمكتب التحقيقات الفدرالي والتي ستعيد ثقة الناس به وبمهمته الحيوية لإحلال القانون”، مضيفًا “في حين أني أقدر بشدة، إبلاغك لي في 3 مناسبات منفصلة أنني لست قيد التحقيق، فإنني على الرغم من ذلك اتفق مع تقدير وزارة العدل أنك لست قادراً على قيادة المكتب بفاعلية”.
الملفت للنظر في الأمر أن جيمس كومي فوجئ بهذا القرار عبر التلفاز حين كان يلقي خطاباً أمام موظفي مكتب التحقيقات بلوس أنجلوس، وهو ما دفعه للتعليق عليه بأنه “مزحة” لكن سرعان ما تأكد منها بعد ذلك.
يذكر أن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي المقال قد صرح قبل ذلك بضرورة إغلاق قضية البريد الإلكتروني الخاص بكلينتون من دون أي ملاحقات قضائية، إلا أنه وقبيل إجراء الانتخابات الرئاسية بـ 11يومًا فقط أعاد فتح التحقيق في القضية مرة أخرى، ما كان له الأثر السيئ على فرص المرشحة الديمقراطية في الفوز، وهو ما صرحت عنه أكثر من مرة بقولها إن “إعلان جيمس كومي إعادة التحقيق في استخدامها لبريديها الخاص عندما كانت وزيرة للخارجية قبل أيام من الانتخابات كان له ضرر سياسي كبير على حملتها الانتخابية”.
جيمس كومي مع الرئيس دونالد ترامب الذي وصفه قبل ذلك بـ”الشجاع”
مناف للعقل
الدوافع التي ساقها البيت الأبيض لإقالة جيمس كومي والمتعلقة بتصريحاته بشأن قضية البريد الإلكتروني لكلينتون وتداعياتها على هز ثقة الأمريكيين في منظومة العدالة والقانون في بلادهم، يبدوا أنها غير مقنعة لبعض المحللين، إذ أن الأمر أكبر من ذلك، وما تلك التبريرات المقدمة سوى غطاء يخفي العديد من الأسباب الأخرى.
كبير المحللين القانونيين في شبكة CNN، جيفري توبين، علَقعلى بيان البيت الأبيض بقوله إنه “غير مقتنع بفكرة أن كومي أقيل بسبب التحقيق في الخادم الإلكتروني الخاص بكلينتون، واصفاً الأمر بأنه “مناف للعقل”.
توبين أشار أيضًا إلى أن ما حدث يعد “إساة استخدام للسلطة من قبل الرئيس دونالد ترامب” إذ أن التقاليد السياسية الأمريكية على مر تاريخها لم تشهد مثل هذا الإجراء في ظل الدوافع المقدمة، كما أن الرئيس الأمريكي ليس لديه السلطة القانونية لإقالة شخصية بحج مدير مكتب التحقيقات.
انتقادات لاذعة
واجه قرار الإطاحة بكومي العديد من الانتقادات اللاذعة لاسيما من قبل الديمقراطيين بالرغم من كونهم الأكثر تضررًا من ممارساته الأخيرة والتي كلفتهم خسارة مرشحتهم للانتخابات الرئاسية السابقة.
الديمقراطيون يرون أن ترامب بهذا القرار تخلص بصورة نهائية من الرجل المسئول عن تحقيق المكتب الفيدرالي في ما إذا كان أعضاء فريق حملته الانتخابية قد تواطأوا مع روسيا في تدخلها في انتخابات العام الماضي ام لا، وهو ما يثير الريبة والشك.
ريتشارد بور، رئيس لجنة مجلس الشيوخ لشوؤن الاستخبارات أشار في تصريحات له أن توقيت الإقالة وأسبابها المعلنة مثار للقلق وهو ما يستدعي التوقف عنده طويلا، بينما طالب تشاك شومر، زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، “بتعيين قاض مستقل للتحقيق في مزاعم وجود تنسيق بين روسيا وفريق حملة ترامب الانتخابية، وإلا سيكون من حق الأمريكيين التشكيك بقرار إقالة كومي، وأن سبب إقالته ليس بسبب الرسائل الالكترونية الخاصة بهيلاري كلينتون، بل محاولة للضغط التحقيق في تلك المزاعم”.
بالرغم من تأكيد كومي أكثر من مرة بعدم وجود أي تهم موجهة لترامب وحملته وهو ما أقره في الرسالة التي أرسلها لها عقب قرار إقالته، إلا أن سؤالا يفرض نفسه بقوة: لماذ يربط الديمقراطيون بين إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي وبين ملف التنسيق الروسي مع حملة ترامب؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟
رئيس لجنة مجلس الشيوخ لشوؤن الاستخبارات أشار في تصريحات له أن توقيت الإقالة وأسبابها المعلنة مثار للقلق
هيلاري كلينتون تتهم كومي بالوقوف وراء خسارتها في الانتخابات الرئاسية
التدخل الروسي في أمريكا
الإجابة عن السؤال السابق يمكن الوصول إلي جزء كبير من تفاصيلها بالوقوف على التوتر المتصاعد حدته بين كومي والبيت الأبيض مؤخرًا، في ضوء الشهادة التي أدلى بها مدير مكتب التحقيقات المقال خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ، منذ عدة أيام، والتي أكد خلالها “أن روسيا تواصل التدخل في العمليات السياسية في الولايات المتحدة وبلدان أخرى”، ووصفها بأنها “أكبر تهديد”.
شهادة مدير الـ (FBI) وضعت دونالد ترامب في حرج أمام شعبه، إذ أنها تعيد للأذهان مرة أخرى ملف التنسيق بين حملته الانتخابية وموسكو وهو ما نفاه الرئيس الأمريكي أكثر من مرة سابقًا، ما دفع البيت الأبيض للتعليق الفوري على هذه التصريحات.
وفي رده على سؤال حول تبني البيت الإدارة الأمريكية لموقف جيمس كومي بشأن التدخل الروسي، أجاب الناطق باسم البيت الأبيض شون سبايسر في مؤتمر صحفي، “هذا هو رأيهم”، مضيفًا أن الإدارة الأمريكية “تفترض” أن مكتب التحقيقات الفدرالي وأجهزة الاستخبارات، توفر معلومات محدثة للرئيس، و”معلومات حول كافة التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة”. إلا أنه أعلن في الوقت نفسه أنه لا يعرف ما هي الأدلة التي استند إليها كومي ليعلن هذا الموقف بشأن روسيا.
أما عن كون روسيا تمثل تهديدًا لأمريكا قال سبايسر: “الرئيس أعلن بوضوح أنه يعتقد أن التهديد يأتي من كوريا الشمالية واسلحتها النووية المحتملة..التي يجد أنها تهدد حياة الأمريكيين وحلفائهم”.
شهادة جيمس كومي وضعت دونالد ترامب في حرج أمام شعبه، إذ أنها تعيد للأذهان مرة أخرى ملف التنسيق بين حملته الانتخابية وموسكو
مما سبق يتضح أن هناك حالة من التوتر تخيم على أجواء البيت الأبيض فيما يتعلق بعلاقتة بأجهزة الدولة، بدأها بالمؤسسة القضائية ثم الإعلام وصولا إلى مجلس الأمن القومي حتى انتهى به المطاف إلى مكتب التحقيقات الفيدرالية، في ظل الصدام بين توجهات ترامب الشخصية وبين مصالح الدولة العليا كما تراها المؤسسات السيادية.
البعض يرى أن بتخلص ترامب من كومي – الذي كان بالأمس أحد أذرعه القوية – بات الرئيس وحملته الانتخابية في مأمن من احتمالية أي مساءلة بشأن التنسيق مع الجانب الروسي، وهو ما يعارضه آخرون ممن أكدوا أن التحقيق الذي بدأه المدير المقال لـ (FBI) سيستمر إذ أن رؤساء مكتب التحقيقات الفيدرالي لا يمتلكون صلاحيات كبيرة في عرقلة تحقيق جار.