لجأت دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال عمليتها الانتقامية التي تشنها ضد الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، منذ 7 أكتوبر، لما يُعرف بتكتيك “الحزم النارية” أو نموذج الضاحية، الذي يستند على تدمير أقصى قدر ممكن من المناطق والمربعات السكنية والتجمعات العمرانية بالقصف الجوي والمدفعي، لإفساح المجال أمام الآليات والقوات على الأرض للعمل ميدانيًّا.
وخلال الأيام الأولى للعملية البرية، تسلّلت القوات تحت غطاء كثيف من النار في مناطق بمدينة غزة، سواء جنوبها أو من المناطق الشمالية الغربية للقطاع، في محاولة منها لحصار المدينة التي تشكّل مركز السيطرة والتحكم، وفقًا للمزاعم الإسرائيلية، فيما يخص المقاومة الفلسطينية.
ويقوم الأسلوب الإسرائيلي على فكرة استهداف هذه المناطق بحجم كبير من الغارات الجوية، وتدميرها وتشريد السكان وإجبارهم على الانتقال إلى مناطق أخرى، اعتقادًا منه أنه يمكن مواجهة المقاومة الفلسطينية وتسهيل المواجهة معها ميدانيًّا، مقارنة مع الأسلوب السابق الذي يقوم على فكرة الاجتياح العادي.
في المقابل، فإن الأنفاق الأرضية التي عمدت المقاومة، على بنائها منذ عدوان عام 2009، أي قبل ما يزيد عن 12 عامًا، بنموذجَين دفاعي وآخر هجومي استراتيجي، تشكّل تحديًا كبيرًا بالنسبة إلى المنظومة العسكرية والأمنية الإسرائيلية.
وتشكّل هذه الأنفاق خطرًا استراتيجيًّا بالنسبة إلى المنظومة العسكرية الإسرائيلية منذ سنوات، نتيجة استخدام المقاومة لها في التنقل والحركة تحت الأرض، إلى جانب بناء المنظومة التسليحية للمقاومة وإخفائها عن الأعين، وهو ما منح القسام والأذرع العسكرية هامش مناورة مغايرًا عن المواجهات السابقة.
نموذج الضاحية.. الأحزمة النارية
خلال حرب عام 2006 بين الاحتلال الإسرائيلي و”حزب الله” اللبناني، حوّلت طائرات جيش الاحتلال الضاحية الجنوبية لبيروت إلى أنقاض، وتحول الأمر إلى ما يعرَف بـ”عقيدة الضاحية”، الذي يقوم بتدمير المناطق والتجمعات السكنية وتحويلها إلى “كوم رماد”.
وينبغي الإشارة هنا إلى أن هذه العقيدة أو نموذج الضاحية المستخدم في غزة حاليًّا، يستند على نوع عالٍ من الدمار والقوة النارية بعيدًا عن الواقع الميداني، والذي يراد من خلاله سحق الخصم وتحقيق نوع من أنواع الردع، ومنعه من التفكير مستقبلًا في أي نوع من أنواع المقاومة.
وللمقارنة، فإن هذه العقيدة التي تهدف إلى غرس حالة الهلع، شهدت قتل الاحتلال الإسرائيلي لقرابة 55 لبنانيًّا في الأيام الأولى لحرب عام 2006، في مقابل قتلها لأكثر من 300 فلسطيني في قطاع غزة في الدقائق الأولى لعملية “الرصاص المصبوب” التي انطلقت في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008.
ومنذ سنوات طويلة لم يحقق جيش الاحتلال الإسرائيلي أي نصر حقيقي على الصعيد البري، خصوصًا بعد ما تعرض له عام 2014 من عمليات إنزال خلف الخطوط، إلى جانب عمليات الأسر التي شهدتها الكثير من المناطق.
وبالتالي، إن المنظومة العسكرية يبدو أنها عادت لاستخدام نموذج الضاحية بهدف إحداث أمرَين، الأول يقوم على تدمير وإعادة القطاع لعقود طويلة إلى الوراء، والأمر الثاني إحداث نوع من كيّ الوعي وتحويل العمل المقاوم إلى عمل مكلف من الناحية المادية والمعنوية.
لكن في الوقت ذاته، إن الاحتلال ورغم ضراوة القتال وحالة التدمير الكامل التي يقوم بها في مناطق شمال القطاع ومدينة غزة، اعترف بمقتل ما لا يقلّ عن 31 جنديًّا حتى لحظة كتابة هذه السطور، إلى جانب إصابة العشرات من الجنود، عدا عن أسر ما لا يقل عن 240 إسرائيليًّا في الضربة الأولى لـ”طوفان الأقصى”.
الأنفاق الأرضية.. سلاح المقاومة الإستراتيجي
كان الظهور الأول لسلاح الأنفاق الأرضية للمقاومة الفلسطينية أواخر انتفاضة الأقصى عام 2005، وكانت بدائية ومحدودة لمسافات قصيرة للغاية، إلا أنه وبعد سيطرة حركة حماس على القطاع عام 2007، تحولت الأنفاق إلى ما يشبه المدن أو ما يطلق عليه الاحتلال “مترو حماس”.
في أعقاب ذلك، عمدت الحركة على بناء مدينة متكاملة سبق وأن تحدّث قادتها عنها بنوع من التفصيل، سواء الشق الدفاعي أو الهجومي منها، وكيف عملت كوادر الحركة العسكرية على المشاركة في بناء هذه الأنفاق، حتى أن العشرات فقدوا أرواحهم خلال عملية الحفر والبناء تحت الأرض.
واُستخدمت الأنفاق في عدة عمليات، كان من أبرزها عملية أسر شاليط عام 2006، وعملية أسر الجنديَّين هدار غولدين وشاؤول أرون، إلى جانب عمليات الإنزال التي شهدتها مستوطنات ومواقع الاحتلال العسكرية خلال عام 2014، ومن أبرزها عملية ناح العوز وموقع أبو مطيبق.
لكن عند الحديث عن أهمية هذه الأنفاق، فإنها تشكل بالنسبة إلى المنظومة العسكرية للمقاومة أهمية قصوى، أولًا فيما يتعلق بالإغارة على المواقع العسكرية للجنود الإسرائيليين على حدود غزة، أو فيما يتعلق بتنفيذ عمليات تسلُّل خلف الخطوط فيما يتعلق بالأنفاق الاستراتيجية.
وبمحاذاة هذا الأمر، تبرز الأهمية العملياتية داخل القطاع عند تحرك المقاومين من منطقة إلى أخرى دون التعرض لخطر الملاحقة، فضلًا عن تحرك أفراد الوحدات المختلفة كالوحدة الصاروخية وإطلاقها من باطن الأرض، بطريقة توفر نوعًا من أنواع الحماية الميدانية.
ورغم أن القصف الإسرائيلي العنيف لغزة خلال معركة “طوفان الأقصى” يعتبر غير مسبوق، عند مقارنته مع الحروب وجولات التصعيد السابقة، إلا أن المقاومة الفلسطينية واصلت استخدام هذه الأنفاق، وهو ما أظهرته الكثير من الصور ومقاطع الفيديو المنشورة خلال هذه المواجهة.
ويمكن القول إن عمليات التدمير الإسرائيلية وأسلوب الضاحية في التدمير لم يجدِ نفعًا مع المقاومة الفلسطينية، أو حتى في القضاء على أنفاقها الأرضية، خصوصًا أنها تأخذ شكل “المتاهة” في باطن الأرض، ويمكن الخروج من أي مكان لمواجهة جنود الاحتلال.
وتعد العملية البرية الحالية أكثر كلفة بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي والمنظومة الأمنية، مع تزايد عمليات التدمير في المركبات والآليات العسكرية الإسرائيلية، إلى جانب أعداد القتلى في الميدان، فضلًا عن عمليات الأسر والإصابات غير المسبوقة في صفوف الاحتلال.
ووفّرت هذه الأنفاق حتى مع أسلوب الضاحية نوعًا من المرونة التكتيكية والميدانية للمقاومين، للتنقل بسهولة بين المناطق، مع تعمُّد الاحتلال تحويل المناطق إلى كومة من “الرماد”، بطريقة تجعل المتحركين في المكان مكشوفين، وهو أمر لا يتحقق مع الأنفاق.
وكان لافتًا خلال هذه المواجهة تعرُّض الاحتلال لضربات نوعية وخلفية من المقاومة الفلسطينية عبر سلاح الأنفاق، ما يعني أن الأحزمة النارية لم تحقق الهدف المراد، وجعلت قواته تتقدم فقط في مناطق فارغة دون نجاحات ميدانية حقيقية تذكر على أرض الواقع.
كما شهدت هذه الجولة حضورًا لما يُعرف بقذائف الياسين 105، التي أعلن القسام تطويرها بعد تطوير عام 2004، حيث تعدّ قذيفة الياسين 105 نسخة مطورة عن قذيفة التاندوم الروسية، واُستخدمت خلال عملية “طوفان الأقصى” لأول مرة من خلال إسقاط القذيفة عبر طائرة مسيّرة، فيما تمّ الإعلان رسميًّا عن أول استخدام لها وكشف عن تطويرها في 14 أكتوبر/ تشرين الأول، عبر مقطع مصور نُشر على قناة كتائب الشهيد عز الدين القسام.
ويقدر أن مدى القذيفة يتراوح ما بين 100 و500 متر، ويكون المدى الفعّال في حدود 150 مترًا، وتتكون من حشوتَين باعتبارها قذيفة ترادفية، إذ تنفجر الحشوة المتفجرة الأولى مع الارتطام في جسد المدرعة، والثانية تنفجر بعدها بفارق ضئيل، من أجل تعزيز الانفجار واختراق الآلية المدرعة المستهدَفة.