كثر في السنوات الأخيرة ترميز سياسات “إسرائيل” ضد الفلسطينيين، بسياسات نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) ضد السود في جنوب إفريقيا، وقد ساهم هذا التشبيه أو الترميز في تحقيق العديد من المكاسب الشعبية لصالح حركة التضامن الدولي مع فلسطين.
تستلهم هذه المقاربة الكثير من العبر المهمة من نضال السود ضد العنصرية، والذي قاد بعد عقود من الكفاح إلى حشد تضامن دولي عريض دفع باتجاه حصار نظام الأبارتايد وصولًا إلى تفكيكه، وهناك عنصران بارزان لهذا الإلهام، أولهما محاكاة الأساليب القانونية والشعبية في نزع الشرعية عن الاحتلال الاسرائيلي وممارساته، وثانيهما المنادة بتبنّي مشروع الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية كحل للصراع على غرار ما حصل في جنوب إفريقيا، لا سيما في ظل الفشل الذريع الذي مُني به حل الدولتين.
ومع اتفاقنا على أهمية العنصر الأول وحيويته في النضال ضد المشروع الصهيوني، لا بد من الإشارة إلى ضرورة تفكيك أوجه الاختلاف بين مشروعي الفصل العنصري الذي تمارسه “إسرائيل” اليوم، وذلك الذي مارسته الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا، بغرض فك الترابط غير الموضوعي بين حقيقة ممارسة “إسرائيل” لجريمة (الأبارتايد) من جهة، وأطروحة حل الدولة الواحدة كـ”مسار أمثل” لإنهاء الأبارتايد والاحتلال من جهة ثانية.
لن تتناول الأسطر القادمة جميع أوجه التشابه والاختلاف، إنما ستسلط الضوء على النقاط ذات العلاقة بفلسفة وأيدلوجيا كلا النظامين العنصريين (في إسرائيل وجنوب إفريقيا)، وانعكاسات ذلك على خطرهما على السكان المحليين (الفلسطينيين أو السود) وعلاقة النظامين بالغرب والمجتمع الدولي.
أوجه التشابه
على أرض الواقع اشترك المشروعان في فكرة الاستعمار ونهب الموارد وبناء نظام تمييزي من طبقتين، يضهد الآخر ويعزله ويجرده من حقوقه، ولعل سنة 1948 تحمل مفارقة رقمية لافتة، بين تأسيس “إسرائيل”، وانتخاب حكومة جنوب إفريقية حولت موروث 3 عقود من الاستعمار والسياسات العنصرية إلى قانون رسمي للدولة.
وبينما احتلت “إسرائيل” الأرض وهجّرت سكانها وحشرت من تبقى منهم على مساحة لا تتجاوز 9% من مساحة فلسطين، وفرضت قيودًا على حرية الحركة والتنقل، فإن نظام الأبارتايد ابتدع فكرة الأقاليم المعزولة أو الـ(بانتوستانات) كأراضٍ مخصصة للسود، لا تتجاوز مساحتها 13% من مساحة البلاد.
بقي السود مرتبطين بنظام الأبارتايد من خلال ارتهان حكامهم المحليين لسياساته وخضوع نسبة 70% منهم كعمالة رخيصة للبيض، واليوم تكاد “إسرائيل” تطبق السياسة ذاتها في علاقتها مع السلطة الفلسطينية، وحصارها للمدنيين داخل الضفة وغزة
منحت حكومة الأبارتايد الجنوب إفريقية حقوقًا مدنية منقوصة تحت مظلة الحكم الذاتي داخل أقاليم السود، فمكّنتهم من إدارة شؤونهم المدنية من صحة وتعليم وخدمات، في مقابل الخضوع للسلطة الأمنية والعسكرية للبيض، وعدم الحصول على سياسة خارجية مستقلة، في السبعينيات تم السماح لهذه الأقاليم بالاستقلال، وحصول أبنائها على الجنسية البانتوستانية مقابل التنازل عن الجنوب إفريقية للتخلص من عبء وجودهم، لكن السود بقوا مرتبطين بنظام الأبارتايد من خلال ارتهان حكامهم المحليين لسياساته وخضوع نسبة 70% منهم كعمالة رخيصة للبيض، واليوم تكاد “إسرائيل” تطبق السياسة ذاتها في علاقتها مع السلطة الفلسطينية، وحصارها للمدنيين داخل الضفة وغزة.
اختلاف الفلسفة والأهداف
على الرغم من التشابهات الكبيرة بين ممارسات “إسرائيل” ونظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا، فإن المحدّدات السياسية والأيدلوجية لهذين المشروعين تختلفان بصورة جوهرية، وكذلك موقعهما بالنسبة للغرب والأسرة الدولية، وهذه أبرز أوجه الاختلاف:
1. فلسفة المشروعين: التوسع الإحلالي مقابل المادية والنفعية
تأسست “إسرائيل” بعد حملة عسكرية تضمنت حربًا حديثة خاضتها ضد الجيوش العربية، وعمليات تطهير عرقي وتهجير لعدد من القرى والمدن، وقد سعت إسرائيل منذ عام 1948 للتوسع عبر احتلال مزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، وإعادة احتلال الضفة بعد عملية السور الواقي، كما استندت إلى فكرة إحلال المهاجرين اليهود مكان السكان الأصليين، عبر سن قانون العودة اليهودية في مقابل قوانين سحب الهويات وتراخيص الإقامة ضد الفلسطينيين.
اتسم الأبارتايد بفلسفة مادية نفعية ارتبطت بالموروث الكولونولي القديم الذي تنافست فيه الإمبراطوريات على الاستعمار بغرض نهب الموارد والسيطرة على طرق التجارة والحصول على العبيد والعمالة الرخيصة
وفي جنوب إفريقيا، تحولت الممارسة العنصرية التي انتهجتها الأقلية البيضاء المتحدرة من أصول أوروبية، إلى سياسة رسمية للدولة بعد وصول الحزب الوطني المتطرف للسلطة وإصداره جملة من القوانين العنصرية، مثل “سجل السكان” (1950) والذي قاد إلى تقسيم المواطنين إلى فئات عرقية، واتسم الأبارتايد بفلسفة مادية نفعية ارتبطت بالموروث الكولونولي القديم الذي تنافست فيه الإمبراطوريات على الاستعمار بغرض نهب الموارد والسيطرة على طرق التجارة والحصول على العبيد والعمالة الرخيصة، وهذا ما فعله الأبارتايد بالسود والملونين في جنوب إفريقيا.
2. العلاقة مع الغرب: ما بين الارتباط الحيوي والانتماء للعهد القديم
أوجدت النخب الأوروبية كلًا من نظامي الأبارتايد في جنوب إفريقيا و”إسرائيل” وغذتهما بكل مقومات الحياة، ولا شك أن الاستفادة من استراتيجيات النضال الجنوب افريقي تعطي دروسًا للفلسطينيين في سبل ضرب العلاقة الاستراتيجية ما بين “إسرائيل” وداعميها، عبر رفع فاتورة هذا الدعم وفضح وجوهه غير الأخلاقية، لكن في هذا المقام من المهم التنبيه إلى اختلاف موقع وتقييم كلا المشروعين في الفلسفة الاستعمارية الغربية.
نشأت البذرة الاستعمارية في جنوب إفريقيا أواسط القرن السابع عشر الذي شهد ذروة الفكرة الكولونولية في العالم، وقد تنبّه المستعمر الهولندي في ذلك الوقت إلى الأهمية الجيوسياسية لجنوب إفريقيا لوقوعها في قلب خط التجارة الدولية آنذاك، ولحق به البريطانيون في سباقهم الاستعماري المحموم مع فرنسا، فبدأت أولى الحملات الاستيطانية عام 1652، ومنذ تلك الفترة، تشكلت جذور المشروع العنصري كمشروع كولونولي قائم على المصلحة المادية والسعي للهيمنة على الموارد وطرق التجارة وتجنيد العبيد.
إذا كان الأبارتايد الجنوب إفريقي قد تأسس في مرحلة أفول الكولونولية التقليدية، فإن “إسرائيل” استُحدثت في باكورة الكولونولية الجديدة، مما يضع قيمة النظامين في الميزان الغربي في مواقع مختلفة تمامًا
مع انهيار النظام الكولونولي أواسط القرن الماضي، تحول الاهتمام الأوروبي بجنوب إفريقيا من خيار استراتيجي بغرض الاستعمار، إلى ارتباط نفعي لفئة من البيروقراطيين بقيت على صلة بالنخبة الجنوب إفريقية ذات الأصول البيضاء، وقد أدى تشييد قناة السويس وتغير خارطة المصالح الأوروبية بعد الانسحاب من مستعمرات آسيا، إلى تقلص أهمية جنوب إفريقيا بالنسبة لطرق التجارة، الأمر الذي عجّل بتخلي أوروبا عن مشروعها القديم، بعد أن تحول من البُعد الكولونولي ذي الأهداف الاستراتيجية، إلى البعد النفعي لثلة برجوازية ضيقة من البيض، مما قاد إلى التضحية بهم على وقع الحرج الدولي من جرائم الأبارتايد.
هذه الفلسفة المصالحية التي ربطت أوروبا مع البيض الجنوب إفريقيين شهدت ذروتها في عقود الاستعمار، لكنها ما لبثت أن فقدت ميزاتها ومنافعها المادية، وهي فلسفة لا تشبه بحال من الأحوال الفلسفة التي يحملها المشروع الصهيوني الذي لا يدور حول النفعية أو المصالحية المجرّدة، بل يتغذى على الفكرة الدينية، ويجترح رواية تاريخية تدّعي أحقيته بالأرض، ويبحث في المشتركات ما بين اليهودية والمسيحية من أجل استجلاب تعاطف الطوائف الغربية، لا سيما البروتستانية، ويلعب على وتر عقدة الذنب تجاه “الهولوكوست”، ناهيك عن وضع نفسه في مقدمة الصراع الحضاري ضد “الراديكالية الإسلامية” مستفيدًا من هوس الحرب على الإرهاب.
تفكيك الأبارتايد في فلسطين المحتلة، لن يتأتي إلا من خلال التصادم المباشر مع المشروع الصهيوني المندمج عضويًا وتاريخيًا مع نشأة “إسرائيل”، الأمر الذي يتجاوز مسألة تغيير نظام حاكم، إلى العبث بالخارطة السياسية للمنطقة
ويبقى الأهم من ذلك أن المشروع الصهيوني كان نتاجًا صرفًا للمشروع الكولونولي الغربي، الذي لم يفكك كامل مستعمراته في بلادنا أواسط القرن الماضي، إلا بعد أن ترك فيها أداة قوية دشّنت لمشروعه الاستعماري الجديد، فإذا كان الأبارتايد الجنوب إفريقي قد تأسس في مرحلة أفول الكولونولية التقليدية، فإن “إسرائيل” استُحدثت في باكورة الكولونولية الجديدة، مما يضع قيمة النظامين في الميزان الغربي في مواقع مختلفة تمامًا.
بالنسبة للغرب، فإن حصار وتفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وإلزامه بالتفاوض مع حزب المؤتمر الوطني بقيادة نيلسون مانديلا كان مجرد تدخل لإسقاط نظام سياسي ورعاية مصالحة وطنية ما بين الشعب ونخبة بائدة، لكنّ تفكيك الأبارتايد في فلسطين المحتلة، لن يتأتي إلا من خلال التصادم المباشر مع المشروع الصهيوني المندمج عضويًا وتاريخيًا مع نشأة “إسرائيل”، الأمر الذي يتجاوز مسألة تغيير نظام حاكم، إلى العبث بالخارطة السياسية للمنطقة.
3. استراتيجية الهيمنة: محو الآخر وتاريخه مقابل العبودية والتشغيل
وفق مقولة إسحاق شامير الشهيرة، فإن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، وفي الحقيقة أن هذه الجملة تلخص استراتيجية “إسرائيل” في التعامل مع الفلسطينيين، فهي تسعى لمحوهم إما بالقتل أو التهجير أو تذويب الهوية الوطنية، كما تعمد إلى طمس آثار وجودهم عبر التهويد وسرقة التاريخ وتزويره، وتبني وجودها على اختلاق رواية تاريخية – دينية تدّعي أحقية الأرض وامتداد الجذور ونفي الوجود العربي الفلسطيني، كما شرّعت القوانين التي تسمح لأي يهودي في العالم بالاستيطان في فلسطين، مقابل حرمان المهجّرين الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم، في سعي دؤوب لكسب الحرب الديموغرافية والتحول إلى أغلبية سكانية ليس فقط داخل الخط الأخضر، إنما في المناطق الحيوية بالضفة والقدس.
والملاحظ أن هذه الفلسفة الإحلالية القائمة على محو الآخر واغتيال وجوده لم يتبعها نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا، الذي كان معنيًا بدوام مجتمع السود ونموّه المستمر بطريقة تضمن استعباده وتسخيره لخدمة البيض، وعليه فقد اكتفى بعزل السود وتعذيبهم بغرض الإخضاع والتشغيل.
تنظر غالبية القوى الوطنية والأطياف الشعبية إلى اختزال الصراع بمطالب المساواة والحقوق بوصفها محاولة لتصفية القضية الفلسطينية والسقوط في فخ الأسرَلة، وقد انعكس ذلك على الأرض بإخفاق أوسلو في تحقيق السلام
ومن هذا المنطلق على وجه التحديد، نجد بأن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي وجّه النضال ضد الأبارتايد، بقيادة نيلسون مانديلا، لخّص مع شركائه تطلعات السود في “ميثاق الحرية” في مطلبين رئيسيين هما: المساواة بين جميع الأعراق والأجناس، وعدم التمييز في الحقوق المدنية والسياسية.
لم تشعر الحركة النضالية في جنوب إفريقيا بتهديد الفناء الوجودي من قبل البرجوازية البيضاء، فقد كانت تحدياتها مختلفة عما يعانيه الفلسطيني من تحديات المحو العرقي والديني، التراسفير نحو دول الجوار، سرقة التاريخ والتراث، أو التغول الديمغرافي، فهي بقيت تحافظ على أغلبية سكانية تربو على 80%، إلى جانب الاتفاق على رواية تاريخية للأحداث، وكانت مظلوميتها تتعلق بالعنصرية العرقية التي خلقت موروثات القهر الإنساني والاستلاب الذاتي عبر مراكمة مشاعر النقص وفقدان الثقة بالذات والاستعباد والتبعية، الأمر الذي ركّز مطالب النضال بالمعاني الإيجابية المقابلة لكل ما سبق، مثل المساواة والحقوق المدنية والسياسية، وهي الحالة التي لا تنطبق على الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، حيث تنظر غالبية القوى الوطنية والأطياف الشعبية إلى اختزال الصراع بمطالب المساواة والحقوق بوصفها محاولة لتصفية القضية الفلسطينية والسقوط في فخ الأسرَلة، وقد انعكس ذلك على الأرض بإخفاق أوسلو في تحقيق السلام، وعدم انصراف شرائح واسعة من فلسطيني الداخل عن القضية الوطنية رغم تمتعهم بحد معقول من المواطنة والحقوق.
كيف نستفيد من خطاب الأبارتايد؟
من المهم التنويه إلى أن الأبارتايد ليست ممارسة خاصة بنظام جنوب إفريقيا البائد، إنما جريمة معرّفة بذاتها وفق القانون الدولي، من الممكن أن يرتكبها أي كيان أو دولة، وقد جرى تجريمها وفق الاتفاقية الدولية لقمع ومعاقبة جريمة الفصل العنصري (1973) ونظام روما الأساسي (2002).
انطلاقًا من هذه القاعدة التي توضح أن الفصل العنصري جملة من الممارسات البنيوية المنظّمة يمكن لأي كيان ممارستها، يجب أن نبتعد في فضح ممارسات الأبارتايد الإسرائيلية عن الارتهان إلى المطابقة مع الحالة الجنوب إفريقية، لأن مثل هذه المطابقة مُخلّة في توصيف جرائم “إسرائيل”، ومخلّة في مسار التعاطي مع هذه الجرائم.
فإسرائيل بالدرجة الأولى دولة احتلال وفق القانون الدولي، تم إيجادها بطريقة غير شرعية تجاهلت حق تقرير المصير للسكان، وبفلسفة سياسية قائمة على التمييز ضد الآخر غير اليهودي، وبالدرجة الثانية نجد أن دولة الاحتلال هذه تمارس جملة من الانتهاكات من بينها جريمة الفصل العنصري، تمامًا كما تمارس جرائم أخرى مثل القتل والعقاب الجماعي، ونهب الأراضي والممتلكات الخاصة.
في سياق الحلول، فنظرًا لكون المشكلة الرئيسية بين الفلسطينيين و”إسرائيل” هي الاحتلال، وأن الفصل العنصري هو مظهر ونتيجة للاحتلال وليس سابقًا عليه، فإن استنساخ الحل الجنوب إفريقي للقضية الفلسطينية يبدو قفزة غير منطقية نحو معالجة مظاهر المشكلة عوضًا عن جذورها
والحقيقة أن الفصل العنصري الذي تمارسه “إسرائيل” في الضفة عبر بناء نظام من طبقتين، يُحابي المستوطنين، ويميّز ضد الفلسطينيين، يعد نموذجًا فاقعًا أكثر من مثيله في جنوب إفريقيا حيث إن هذا التمييز يدور على أرض محتلة وفق التوصيف الدولي، وهذه أرضية يجب ألا تغيب عن الخطاب الفلسطيني عند ذكر الأبارتايد.
أما في سياق الحلول، فنظرًا لكون المشكلة الرئيسية بين الفلسطينيين و”إسرائيل” هي الاحتلال، وأن الفصل العنصري هو مظهر ونتيجة للاحتلال وليس سابقًا عليه، فإن استنساخ الحل الجنوب إفريقي للقضية الفلسطينية يبدو قفزة غير منطقية نحو معالجة مظاهر المشكلة عوضًا عن جذورها، فمنح المساواة أو الحقوق المدنية واختزال مطالب النضال الفلسطيني في هذا المعنى ليس سوى تحسين لشروط الاحتلال وإعادة إنتاج لدائرة الصراع، وهو لا يخدم هدف حركة التضامن الدولي مع فلسطين، لأنه يضفي الشرعية على الاحتلال، ويرفع عنه فاتورة جرائم التطهير العرقي والتهجير التي مارسها لتثبيت أركانه.
هذا التشابك الإسرائيلي مع الابارتايد البائد في جنوب إفريقيا، يفتح الجدل أمام حل الدولة الواحدة وأطروحات الاندماج مع “إسرائيل” على قاعدة الحقوق والمساواة، عوضًا عن الاستقلال على أي شبر محرر، ورغم أنها أطروحة قديمة، فقد انفتحت للجدل العام بعد الجمود الطويل للقضية الفلسطينية، واستحالة تحقيق حل الدولتين، فضلًا عن كونه لا يحقق تطلعات الفلسطينيين.
الدولة الواحدة
قد لا يتسع المقام لمناقشة مشروع الدولة الواحدة باستفاضة نظرًا لتعدد وصفات هذا المشروع وتحوّرها منذ ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم، فهناك أربعة توصيفات كبرى لها هي: (i) دولة ديموقراطية فلسطينية واحدة تمنح حقوقًا متساوية للجميع (ii) دولة ديمقراطية إسرائيلية واحدة تمنح حقوقًا متساوية للجميع (iii) دولة ديمقراطية لجميع سكانها المسلمين والمسيحيين واليهود (iv) دولة ثنائية القومية للفلسطينيين والإسرائيليين.
ومن الواضح أن التوصيف (i) يتحدث عن شكل الدولة الفلسطينية بعد التحرير، وهو يُحقق شبه إجماع فلسطيني، أما التوصيف (ii) فهو مجرد دعوة للأسرلة وتصفية القضية الفلسطينية، ويبقى التوصيفان الأخيران طرحان تجريديان عن الواقع، لأنهما يصطدمان بفكرة الصهيونية القائمة على يهودية الدولة.
الجديد أن الحكومة الإسرائيلية قد تبنت هذا الطرح رسميًا بصورة أسرع من المتوقع، حيث صدّرت وزارة الخارجية قبل أيام خرائط جديدة تُظهر لأول مرة ضم الضفة وقطاع غزة لحدود “إسرائيل” مع تقدير تعداد سكانها بـ8.7 مليون نسمة، مما يعني احتساب أراضي الضفة وغزة مع تعداد المستوطنين دونًا عن الفلسطينيين
ويبقى الخطير في دعوات الدولة الواحدة وإثارتها في هذا الظرف تحديدًا، أنها تمد طوق نجاة لأحزاب اليمين واليمين المتطرف الإسرائيلية في التحلل من عبء حل الدولتين، والتوقف عن دفع فاتورة الاستيطان، وتحقيق مشروعها السياسي الهادف إلى محو الخط الأخضر، فالثابت اليوم أن اليمين واليمين المتطرف في “إسرائيل” لديه مشروع واضح للدولة الواحدة أساسه ضم أراضي الضفة وشرقي القدس، دون ضم السكان الفلسطينيين، بحيث يبقوا خاضعين للإدارة المدنية الفلسطينية المحكومة بالتنسيق الأمني، تحت دعاية أن يختار الفلسطيني ممثله بنفسه، وبذلك يتم تكريس السيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بصورة شرعية، وقد كتبت بعض السطور المنشورة في فبراير الماضي عن هذا المشروع.
لكن الجديد أن الحكومة الإسرائيلية قد تبنت هذا الطرح رسميًا بصورة أسرع من المتوقع، حيث صدّرت وزارة الخارجية قبل أيام خرائط جديدة تُظهر لأول مرة ضم الضفة وقطاع غزة لحدود “إسرائيل” مع تقدير تعداد سكانها بـ8.7 مليون نسمة، مما يعني احتساب أراضي الضفة وغزة مع تعداد المستوطنين دونًا عن الفلسطينيين.
وفي ظل الإدارة الأمريكية الجديدة التي تنصلت من حل الدولتين، فلا شك أن التوقيت الحالي هو أسوأ توقيت لتصدير أي مبادرة سياسية تقود إلى محو الخط الأخضر (وأبرزها حل الدولة)، لأنها ستصب في صالح مشاريع حكومة نتنياهو بشكل سافر.
وتجدر الإشارة إلى أن حث الفلسطينيين على عدم الانجرار إلى فخ الدولة الواحدة، الذي يتيح بالضرورة للطرف الأقوى تسويق تعريفه وشروطه الجاهزة، لا يعني بالمطلق دعم المشروع السياسي الخاص بحل الدولتين، بل هي دعوة من أجل استخدام جميع مصادر القوة والحجة المتاحة بين أيدي الفلسطينيين دون التخلي عن الحقوق التي يقف القانون والأسرة والدولة خلفها وأهمهما احترام الخط الأخضر وتجريم الاحتلال والاستيطان.
إظهار الاحترام والتمسك بالخط الأخضر، يُسهم أيضًا في زيادة الإدانة والتجريم للاحتلال، وعزل مشروعه الاستيطاني، وتكفي الإشارة هنا إلى ما أورده تقرير الأمن القومي لعام 2015 إلى أن أكثر من نصف الإدانات الأممية والدولية الصادرة ضد إسرائيل في السنوات الأخيرة كانت متعلقة بالاستيطان وتدمير حل الدولتين.
تستنزف مسألة اجتراح الحلول النهائية جهودًا وطاقات سياسية وأكاديمية من الأجدر استثمارها في وضع استراتيجيات عامة تساهم في تحميل “إسرائيل” تكلفة الاحتلال والاستيطان، ورفع سقف الاستفادة السياسية والقانونية من الوضع الراهن بما يحقق إدانة وعزلًا للموقف الإسرائيلي
لن يشكل إعادة قولبة وطرح حل الدولة الواحدة إلى كسر جمود الحالة الفلسطينية، فبعيدًا عن مخاطره فما زال حلًا نظريًا ليس له داعمين من قبل القوى الفاعلة في الملف الفلسطيني، والحقيقة أن الجمود يجب ألاّ يدفع الفلسطينيين إلى الاستماتة في تقديم مبادرات سياسية، والانشغال بدراسة حلول تجريدية تعطّل عن العمل من أجل تحقيق ومراكمة مكاسب مؤقتة دون المساس بالحقوق، فالشيء المنتظر من الضحية أن ينخرط في حراك مبني على الحقوق لا الحلول، وهذا النوع من الحراك يستطيع أن يستقطب شرائح واسعة من الفلسطينيين والمتضامنين الأجانب في بيئات شديدة الاستقطاب السياسي كالبيئة الفلسطينية.
تستنزف مسألة اجتراح الحلول النهائية جهودًا وطاقات سياسية وأكاديمية من الأجدر استثمارها في وضع استراتيجيات عامة تساهم في تحميل “إسرائيل” تكلفة الاحتلال والاستيطان، ورفع سقف الاستفادة السياسية والقانونية من الوضع الراهن بما يحقق إدانة وعزلًا للموقف الإسرائيلي، ولعل هذه الاستراتيجية الهادئة والتراكمية هي أفضل ما يستطيع الفلسطينيون تعلمه من تجربة النضال ضد الأبارتايد في جنوب إفريقيا، وقد حققت جملة واسعة من الاختراقات لصالح حركة التضامن مع فلسطين في مجالات شتى خلال العقد الأخير، وعلها تكون محطتنا في تقارير أخرى.