تعد عملية الكتابة بمثابة تمرد ومقاومة، فهي تأتي كتمرد على الواقع ومحاولة لتغييره، لإطلاق صيحات وإنذارات للمجتمع، أن تضعه أمام مرآة وتخبره دون مواربة وتجميل أن هناك شيء خاطئ، نحن نندفع إلى الجحيم، لا تغلق عينيك، لا تصم آذانك.
لا يلجأ كاتب إلى الكتابة إلا ويدفعه شعور بعدم الرضا عن محيطه ومجتمعه بنسبة ما، كذلك بالنسبة للكثيرين، ففعل الكتابة في حد ذاته يعد أيضًا كمقاومة وحرب دائمة ضد اليأس، وطالما استمر الكاتب في كتاباته فهو يستمر في حربه ضد اليأس، ولكن ماذا يحدث حينما يخسر الكاتب حربه؟ حينما يفشل في كتابة كلمة جديدة أخرى؟ يحدث شيء سيء بالتأكيد.
هناك من تقتله الخسارة والهزيمة، تقضي على روحه، وتجعله يتساءل عن جدوى التمرد والكتابة، وربما يصبح جسدًا مفرغًا من الروح، جسدًا وروحًا مثخنة بالجراح والندوب غير القابلة للشفاء كما حدث مع محمد روميش صاحب مجموعة الليل الرحم وهزيمة 1967 واعتقاله بعدها.
في الجزء التالي من المقالة نستعرض اللحظات الأخيرة في حياة أديبين كبيرين، كلاهما انتحر، أحدهما لم يطق فكرة عدم قدرته على خط كلمة جديدة، والآخر استمر في الكتابة حتى صباح وفاته، أراد أن يجعل تمرده واقعًا وليس محصورًا بين دفتي رواية فحسب.
هيمنغواي.. طريدة الأشباح والهواجس
في صباح يوم الأحد 2 من يوليو 1962م، وفي السابعة صباحًا إلا قليل، وداخل منزله بولاية أيداهوا يستيقظ إرنست هيمنغواي من نومه بينما زوجته ماري ما زلت غارقة في نومها بجواره، يلقي نظرة أخيرة عليها، ربما يطيل النظر، لا يوقظها، لا داعٍ للوداع، يتجه بخطوات ثابتة إلى حجرة الخزين حيث يبقي أسلحته النارية، يتناول بندقيته المفضلة، ربما ترتسم ابتسامة قصيرة على محياه وهو يستعيد ذكريات رحلات صيده الفائتة، يصعد لأعلى ويقف أمام ردهة منزله، تتلاشي البسمة، ويختفي سيل الذكريات، هذه المرة لن يوقفه أحد، يوجه فوهة البندقية إلى رأسه، ويضغط الزناد، تنطلق الرصاصة مخلفة وراءها جسد هيمنغواي الهامد، وصدى قوي يفزع ماري من نومها، لقد انتحر هيمنغواي.
قبل ذلك وفي أبريل عثرت ماري عليه وهو يجلس وأمامه بندقية ورصاصتين، وأرسل على إثر تلك الحادثة إلى أحد المستشفيات بكيتشم، أيداهوا للعلاج عن طريق الصدمات الكهربائية، وقبيل نجاح محاولته الأخيرة حاول الانتحار عن طريق السير على أحد ممرات الطيران أمام إحدى الطائرات.
هيمنغواي معروف على نطاق واسع بأنه مغامر، وحياته ممتلئة بالكثير من الأحداث، فقد شارك في الحرب العالمية الأولى
هيمنغواي معروف على نطاق واسع بأنه مغامر، وحياته ممتلئة بالكثير من الأحداث، فقد شارك في الحرب العالمية الأولى وأصيب على إثرها برصاصة أقعدته في أحد المشفيات في ميلان بإيطاليا ليقع في حب ممرضة تدعى أنجيس فون كورسوكي واستلهم من تلك الأحداث كتابة روايته ذائعة الصيت “وداعًا للسلاح”، وذهابه لإسبانيا إبان الحرب الأهلية لتغطيه أحداثها لصالح إحدى الجرائد بالإضافة لحبه الجديد مارثا جلهورن، كما شارك في الحرب العالمية الثانية، وذهب إلى إفريقيا في رحلات للصيد، وتعرض لحادث تحطم طائرة وعدد من حوادث السيارات، لقد نجا من الموت بأعجوبة لعدة مرات، أو لربما كان في سجال مع الموت.
في مقالة نشرت في عام 2006 في مجلةPsychiatry magazine American بعنوان “إرنست هيمنغواي: تشريح نفسي لحادثة الانتحار” لـ كريستوفر دي مارتين يعرض خلالها تحليله لتلك الحادثة فيقول إنه لم يجد صعوبة في تشخيص حالة الكاتب من معاناته من الاضطراب ثنائي القطب Bipolar disorder وإصابات المخ وإدمان الكحول.
كما لاحظ أن العديد من أفراد عائلته (والده ووالدته وأخواتهم وابنه أيضًا، بالإضافة إلى حفيدته مارغو) كانوا عرضة للهوس الاكتئابي، وتعد مارغو الشخص الخامس أو السادس في عائلة هيمنغواي يقدم على الانتحار خلال 4 أجيال فقط.
بعد حادثة انتحار والده كلارنيس في عام 1928 عن طريق إطلاق رصاصة على نفسه في الرأس، وهي نفس الطريقة التي اتبعها إرنست لاحقًا، أخبر أرنست أحد أصدقائه: “شعرت وكأن بساط حياتي قد سحب من تحت قدمي، وظللت أشرب وأشرب على خطيئتي”، كان هيمنغواي يشعر بالذنب لأنه كان دومًا ما يتخيل قتله لوالده بسبب ضربه له، ولكونه لم يستطع احتمال ذلك أخذ يلوم والدته على انتحار والده.
في الفيلم الوثائقي Running From Crazy تحاول حفيدة أخرى لهيمنغواي وهي ماريل فك الشفرات التي تحيط بإرث عائلتها مع مرض الهوس الاكتئابي والانتحار.
إن كانت هناك أسباب جينية ووراثية دفعت هيمنغواي للانتحار، فلا يمكن تجاهل العملية الإبداعية والكتابة، فهي بالنسبة لعدد كبير تعد كافحًا ومقاومة ضد اليأس وتمرد
وإن كانت هناك أسباب جينية ووراثية دفعت هيمنغواي للانتحار، فلا يمكن تجاهل العملية الإبداعية والكتابة، فهي بالنسبة لعدد كبير تعد كافحًا ومقاومة ضد اليأس وتمرد على الحياة، فماذا يبقى للكاتب إن توقف عن الكتابة؟! لا شيء، لا شيء مطلقًا، وربما حصول هيمنغواي على جائزة نوبل عام 1956 أصابته بلعنتها وهواجس عدم كتابة شيء رائع وعظيم بعدها، وهو شبيه لما حدث معه بالفعل فهو لم يستطع كتابة شيء عام 1960، لم يستطع خلق الكلمات ومزجها كما اعتاد طيلة السنين الفائتة، وسحب الكآبة والهلاوس أخذت تحوم حوله وتقتات عليه، وفي ربيع 1961 طلب من هيمنغواي بأن يساهم ولو بجملة في خطاب تنصيب جون كينيدي، ولكنه لم يقدر، قال لصديقه: “لم يعد بمقدوري كتابة كلمة واحدة”، ثم بكي، ولم يمض وقت طويل على الحوار الذي أبدى خلاله عجزه عن الكتابة حتى أنهى حياته.
يوكيو ميشيما.. الموت على طريقة الساموراي
“حياة البشر قصيرة، لكنني أود أن أحيا إلى الأبد”
كتب ميشيما تلك الكلمات على قصاصة ورقية في صباح يوم 25 من نوفمبر عام 1970، وضعها على الطاولة، وحلق ذقنه كالمعتاد، واستحم، ثم أرتدى حلته النظامية، كان كل شيء معدًا ومجهزًا، لقد أنهى كتابة مخطوطة روايته الأخيرة “سقوط الملاك” من رباعيته الملحمية “بحر الخصب” وأرسلها في ذات اليوم إلى الناشر، قبل أسبوع تمكن من الحصول على تصاريح تسمح له ولأربعة من رجاله في ميليشاه “درع المجتمع” بالدخول إلى مقر القيادة الشرقية لقوات الدفاع الذاتي في طوكيو، ترك أموال كافية لتأجير محاميين للدفاع عن شركائه.
نجح ميشميا ورفاقه في أسر القائد الجنرال ماسودا، وتأكدوا من إغلاق وسد الباب جيدًا، وخرج ميشيما إلى الفراندة ليخطب أمام قرابة 800 جندي بعد تهديده بقتله للجنرال، كان يستحثهم على النهوض والارتفاع بعزيمتهم، أن يقفوا ضد دستور ما بعد الحرب الذي يمنعهم من تكوين جيش حقيقي، أن يستحثهم على القيام بانقلاب واستعادة الإمبراطور لحكمه ومكانه الشرعي – ليس لشخص الإمبراطور بل لفكرة أن إزاحته كان معناها الوحيد أن موت الملايين خلال الحرب لا معنى له -.
لم يهتم أحد لخطابه بل قوبل بصيحات من الاستهجان والسخرية، بعد دقائق قصيرة من خطبته عاد إلى داخل المكتب لينفذ الخطوة الأخيرة من مخططه، أخرج خنجرًا صغيرًا وأمسكه بكلتا يديه وشق بطنه، مثل أبطال قصصه ورواياته، إنه الانتحار على الطريقة اليابانية السيبوكو أو الهاراكيري، بعدها تقدم أحد رجاله منه ليفصل رأسه عن جسده بسيف ساموراي عتيق.
انتحار ميشيما كان يعد فعلاً سياسيًا، فهو لم يرغب في أن يموت كأديب فحسب، بل أن يجمع في موته الأدب والفعل معًا كالمحارب الذي طالما تطلع أن يكونه ولم يتحقق
من المعروف أن وسط الأدباء الياباني يعج بالكثير من الأدباء المنتحرين مثل ريونوسكي أكاتاجو وأسامو دازاي، إلا أن انتحار ميشيما كان يعد فعلاً سياسيًا، فهو لم يرغب في أن يموت كأديب فحسب، بل أن يجمع في موته الأدب والفعل معًا كالمحارب الذي طالما تطلع أن يكونه ولم يتحقق، أمل ميشيما أن يكون موته بمثابة إطلاق شرارة للثورة في الأفكار والسلوك.
ويمكن العودة بجذور ذلك إلى إحساسه بعد هزيمة ودمار اليابان في الحرب العالمية الثانية، حيث ساوره شعور بتغضن واضمحلال الروح الوطنية وضياع القيم اليابانية القومية، وتنامي إحساسه باحتقار نمط الحياة اليابانية الحديثة لما بعد الحرب.
فهذه اليابان لم تكن التي شب عليها وعلى تقاليدها العتيدة بل أضحت مادية وجامدة، أصابتها لعنة ولوثة الغرب وشيئًا فشيء تتمكن من وضع يديها على عنق الروح اليابانية وخنقها، لقد أراد لموته أن يكون صرخة وتصحيح المسار الذي استشرفه بعينيه لمستقبل اليابان.
يعد يوكيو ميشيما أحد أعظم الكتاب اليابانيين لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد قال عنه صديقه ياسوناري كاواباتا وصاحب جائزة نوبل للآداب: “لا يظهر كاتب له مثل وزن ميشيما إلا كل قرنين أو ثلاثة من الزمان”.
ميشيما نفسه حاز على ثلاثة ترشيحات لجائزة نوبل إلا أن بحصول كاواباتا عليها جعلت من فرص حصول ياباني آخر على جائزة نوبل في وقت قريب أمرًا غير مرجح، كذا خطته “مشروعه الأخير” للموت على طريقة الساموراي.
ربما خلص صاحب “العجوز والبحر” إلى أن الانتحار طريقه الوحيد لإيقاف هلاوسه وأشباحه، وكذا ربما بانتحار ميشيما تحقق له ما أراد، أن تكون نهاية حياته مشهدًا دراميًا مؤثرًا على مسرح الحياة.
ولكن رغم النهاية المأساوية لكلا الأديبين والتي قد تدفع البعض لإعادة قراءات أعمالهم من منظور جديد، بل والتفتيش عن دوافع انتحارهما، فإن كليهما ودون شك ترك بصمة واضحة على كلٍ من الأدب الأمريكي والياباني المعاصر قبيل انتحارهما بوقت طويل.